د. أحمد محمود الخليل
dralkhalil@hotmail.com
المفاجأة المُرّة:
dralkhalil@hotmail.com
المفاجأة المُرّة:
منذ ما يقارب الشهر ونفسي تحدثني بكتابة خطاب موجّه إلى المثقفين الكرد، والبحث معاً في الأعباء الثقافية الواقعة على كواهلنا نحن المثقفين؛ أعباء ينبغي أن نبادر إلى القيام بها دونما تأخير، وخاصة في هذه المرحلة الزاخرة بالتحولات المصيرية في تاريخ الشرق الأوسط عامة، وفي تاريخنا خاصة، وظللت أقدّم رجلاً وأؤخّر رجلاً، وأَهُمّ وأتردّد، خوفاً من أن أظلم المثقف الكردي، وأحمّله فوق طاقته، إلى أن حدثت المفاجأة المُرة التي جعلتني أحسم الأمر.
كانت المفاجأة هي الإعلان الذي وضعه الأخ الأستاذ إبراهيم محمود يوم 3- 9 – 2012، عارضاً مكتبته للبيع بالجملة، لا لشيء سوى أنه يجد فلذات أكباده محرومين مما كان ينبغي ألا يُحرَموا منه، وباعتباره أباً مخلصاً، ولا يقبل التهرّب من مسؤولياته، فليس بين يديه ما يضحّي به غير مكتبته، وصحيح أن إعلانه كان مقتضَباً، لكنه يشتمل في طيّاته على الكثير من التألم، ويتضمّن قدراً هائلاً من الاحتجاج الصامت على واقع أوصله إلى اتخاذ هذا القرار الصعب.
حقاً إن الإعلان أذهلني وآلمني في العمق، ليس بسبب هذه الحالة (الإبراهيمية) فقط، وإنما لأنها جزء من حالة كارثية مؤلمة يعيشها معظم المثقفين الكرد، ولأنها مؤشّر على تمزّق المثقف الكردي بين مسؤولياته كشخص له الحق الكامل في حياة تليق به وبأسرته، وبين مسؤولياته كمثقف يدرك جيداً أن حياة بلا معرفة تعني بؤساً وجودياً لا حدود له، وأن أمة بلا ثقافة أصيلة تبقى خارج التاريخ. وصحيح أنني لا أعرف الأخ إبراهيم محمود عن قرب، لكن مؤلفاته الكثيرة لا تدع مجالاً للشك في أنه من مثقّفينا الروّاد الذين وهبوا أنفسهم للعلم، فقد جمع بين المعرفة الموسوعية، والتفكير العميق، والرؤية النقدية الجادّة، وقدّم للمكتبة الكردية خاصة وللمكتبة الشرق أوسطية نتاجاً معرفياً غنيّاً وقيّماً، فماذا يعني أن يُقدم مثقف مثله على بيع مكتبته، لسدّ بعض حاجات أولاده المعيشية؟
جيل التراجيديات الكبرى:
إن إقدام المثقف على بيع مكتبته أشبه بخرق المقدّس، وهل هناك من يخرق المقدّس إلا عن ضرورة قصوى؟! وكي يصبح الأمر مفهوماً، دعوني أوضّح أن لجيلنا- جيل الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين، وإليه ينتمي الأخ إبراهيم محمود فيما أرجّح- لونه ومذاقه النضالي الخاص، إن الغالبية العظمى منا لم يولد وفي فمه ملعقة من ذهب، لقد وُلدنا وفي أفواهنا، لا بل في كياننا، مرارات ومرارات، فتحنا أعيننا على الحياة في قبضة الفقر والقهر والتخلف، بكل ما يعنيه هذا الثلاثي من دلالات مرعبة.
نحن جيل التراجيديات الكبرى، كي نتعلّم كان علينا أن نمشي كل يوم بضع كليو مترات ذهاباً وإياباً بين القرية والمدرسة، نقتحم الأوحال، ونصارع عواصف الشتاء وأمطاره وثلوجه، بثياب كانت أعجز من أن تقاوم الزمهرير، وببطون قلّما كانت تحظى بالغذاء الكافي لتأمين الطاقة المطلوبة، وبأساليب تعليمية كان فيها قدر كبير من التخلف والتوحّش والشوفينية، كانت حرقة قلوب أهلينا من الفقر والقهر تدفعهم إلى أن يقولوا للمعلمين: اللحم لكم والعظم لنا، فكانت ثقافة العصا تنفلت من العقال، وتفترس أجسادنا الصغيرة دونما أية رحمة.
نحن جيل الجَلْجَلة، منذ أن ولدنا كنا نحمل صلباننا على ظهورنا، ونصعد جبل الحياة الوعر والوعر جداً، كل شيء تقريباً كان ضدّنا، العصر، سياسيات الإفقار والإقهار والصهر العنصري، ثقافة الإلغاء المتوحّشة، لقد دفعنا ضريبة جميع ذلك حسرات مكتومة، وآلاماً مخفيّة، ودموعاً جامدة في المآقي، لا بل أكثر من هذا؛ دفعنا ضريبة ذلك حرماناً من معظم متع الحياة، وخوفاً من مجهول لم نكن نعرفه تحديداً، لكن كنا نعرف يقيناً أنه متربّص بنا، ولا ندري متى ينقضّ علينا، ويغرز أظافره وأنيابه في وجودنا، نعم، الأهل كانوا طيبين وحنونين، لكنهم كانوا ضحايا عصور طويلة من الفقر والقهر والتخلف، هم أيضاً ولدوا حاملين صلبانهم على ظهورهم، وكانوا أعجز من أن يفهمونا ويحمونا، وكانوا أعجز من أن يرفّهوا عنا.
نحن الجيل الذي اخترق برازخ الظلمات، اجتزناها مكدودين برزخاً تلو برزخ، كانت البرازخ كثيرة ومرهقة، حفرنا طريقنا إلى التعلم بأظافرنا، حفرناه بإصرار- ومن ورائنا أهلونا البؤساء العظماء- شبراً شبراً، وخطوة خطوة، وميلاً ميلاً، لم نعرف المذياع ولا الصحف ولا المجلات في قرانا، كنا نقرأ ونحضّر للاختبارات على ضوء سُرُج الكاز والفتيل، كان أهلونا يحتارون كيف يتدبّرون مصاريف ملابسنا وكتبنا ودفاترنا وأقلامنا، كنت في الصف الرابع الابتدائي أرتدي بنطالاً وتاسومة حمراء، نعم، تاسومة قروية، وليس حذاء مدنياً (قُنْدَرة)، ولم يتردّد معلم اللغة العربية في السخرية من هذه المفارقة أمام زملائي، حقه! إنه ابن البورجوزاية المدنية، ولم يتحمّل حسّه الجمالي المتمدّن هذا المشهد الكاريكاتوري الجامع بين البنطال (رمز التمدن) والتاسومة (رمز الفُلُح والرعاة).
كان مصروفي (خرجيّتي) الأسبوعي الترفيهي سبع فرنكات فقط، صحيح أن الفرنك السوري الواحد كان يأتي إلى البيت بكيلوغرام من الخبز، لكن ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان يا سادة! كنا صبية وكانت لنا طموحاتنا كبقية صبية العالم، ثم صرنا في أول الشباب، وكانت طموحاتنا الشخصية تتجاوز (الخبز) بكثير. كان أهلونا عاجزين حتى عن شراء دراجات عادية، نستعين بها لاجتياز الرحلة اليومية بعناء أقل وبسرعة أكثر.
قُبيل مساء يوم شتوي كنا في طريق العودة من عفرين إلى قريتنا كُورْزَيل Kurzêl، منصرفين من المدرسة، الريح تعصف والمطر ينسكب، كان علينا أن نسرع، فالظلام قد بدأ بالزحف، نهارات الشتاء قصيرة، وكان علينا نحن الصغار أن نلحق بالكبار منا، الوحل يطوّق الجزمة من كل جانب، الوحل يَثقُل أكثر فأكثر، الزملاء يسرعون، أتأخر عنهم بسبب الوحول التي تحاصر الجزمة، ظلمة الليل مرعبة، وذئاب جبال لَيلون تنشط في الشتاء، ما العمل؟ خلعت الجزمة، وحملتها في يدي، وأسرعت للحاق بالركب، وصلت البيت، بادرت والدتي- رحمها الله- إلى غسل رجليّ من الوحل، دهشتْ وهي تجد حصاتين مغروزتين تحت قدمي!
لا أريد الذهاب بعيداً في هذه الذكريات، المرء لا يحب العودة إلى الظلمات ثانية، وما أريد قوله هو أننا جيل الآلام الكبرى، تعبنا كثيراً إلى أن تعلمنا، وتعبنا كثيراً إلى أن تثقفنا، وتعبنا أكثر وأكثر ونحن نبحث ونكتب، ورحلتنا مع تأسيس مكتبة متواضعة لم تكن أقل دراماتيكية مع رحلة التعلم والتثقف والبحث، قلت: ولدنا وفي أفواهنا مرارات ومرارات، وهل نجونا من المرارات بعد أن حصلنا على الشهادات؟ كنا نظن ذلك، لكن وا حسرتاه!
(يتبع)…
8 – 9 – 2012
حقاً إن الإعلان أذهلني وآلمني في العمق، ليس بسبب هذه الحالة (الإبراهيمية) فقط، وإنما لأنها جزء من حالة كارثية مؤلمة يعيشها معظم المثقفين الكرد، ولأنها مؤشّر على تمزّق المثقف الكردي بين مسؤولياته كشخص له الحق الكامل في حياة تليق به وبأسرته، وبين مسؤولياته كمثقف يدرك جيداً أن حياة بلا معرفة تعني بؤساً وجودياً لا حدود له، وأن أمة بلا ثقافة أصيلة تبقى خارج التاريخ. وصحيح أنني لا أعرف الأخ إبراهيم محمود عن قرب، لكن مؤلفاته الكثيرة لا تدع مجالاً للشك في أنه من مثقّفينا الروّاد الذين وهبوا أنفسهم للعلم، فقد جمع بين المعرفة الموسوعية، والتفكير العميق، والرؤية النقدية الجادّة، وقدّم للمكتبة الكردية خاصة وللمكتبة الشرق أوسطية نتاجاً معرفياً غنيّاً وقيّماً، فماذا يعني أن يُقدم مثقف مثله على بيع مكتبته، لسدّ بعض حاجات أولاده المعيشية؟
جيل التراجيديات الكبرى:
إن إقدام المثقف على بيع مكتبته أشبه بخرق المقدّس، وهل هناك من يخرق المقدّس إلا عن ضرورة قصوى؟! وكي يصبح الأمر مفهوماً، دعوني أوضّح أن لجيلنا- جيل الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين، وإليه ينتمي الأخ إبراهيم محمود فيما أرجّح- لونه ومذاقه النضالي الخاص، إن الغالبية العظمى منا لم يولد وفي فمه ملعقة من ذهب، لقد وُلدنا وفي أفواهنا، لا بل في كياننا، مرارات ومرارات، فتحنا أعيننا على الحياة في قبضة الفقر والقهر والتخلف، بكل ما يعنيه هذا الثلاثي من دلالات مرعبة.
نحن جيل التراجيديات الكبرى، كي نتعلّم كان علينا أن نمشي كل يوم بضع كليو مترات ذهاباً وإياباً بين القرية والمدرسة، نقتحم الأوحال، ونصارع عواصف الشتاء وأمطاره وثلوجه، بثياب كانت أعجز من أن تقاوم الزمهرير، وببطون قلّما كانت تحظى بالغذاء الكافي لتأمين الطاقة المطلوبة، وبأساليب تعليمية كان فيها قدر كبير من التخلف والتوحّش والشوفينية، كانت حرقة قلوب أهلينا من الفقر والقهر تدفعهم إلى أن يقولوا للمعلمين: اللحم لكم والعظم لنا، فكانت ثقافة العصا تنفلت من العقال، وتفترس أجسادنا الصغيرة دونما أية رحمة.
نحن جيل الجَلْجَلة، منذ أن ولدنا كنا نحمل صلباننا على ظهورنا، ونصعد جبل الحياة الوعر والوعر جداً، كل شيء تقريباً كان ضدّنا، العصر، سياسيات الإفقار والإقهار والصهر العنصري، ثقافة الإلغاء المتوحّشة، لقد دفعنا ضريبة جميع ذلك حسرات مكتومة، وآلاماً مخفيّة، ودموعاً جامدة في المآقي، لا بل أكثر من هذا؛ دفعنا ضريبة ذلك حرماناً من معظم متع الحياة، وخوفاً من مجهول لم نكن نعرفه تحديداً، لكن كنا نعرف يقيناً أنه متربّص بنا، ولا ندري متى ينقضّ علينا، ويغرز أظافره وأنيابه في وجودنا، نعم، الأهل كانوا طيبين وحنونين، لكنهم كانوا ضحايا عصور طويلة من الفقر والقهر والتخلف، هم أيضاً ولدوا حاملين صلبانهم على ظهورهم، وكانوا أعجز من أن يفهمونا ويحمونا، وكانوا أعجز من أن يرفّهوا عنا.
نحن الجيل الذي اخترق برازخ الظلمات، اجتزناها مكدودين برزخاً تلو برزخ، كانت البرازخ كثيرة ومرهقة، حفرنا طريقنا إلى التعلم بأظافرنا، حفرناه بإصرار- ومن ورائنا أهلونا البؤساء العظماء- شبراً شبراً، وخطوة خطوة، وميلاً ميلاً، لم نعرف المذياع ولا الصحف ولا المجلات في قرانا، كنا نقرأ ونحضّر للاختبارات على ضوء سُرُج الكاز والفتيل، كان أهلونا يحتارون كيف يتدبّرون مصاريف ملابسنا وكتبنا ودفاترنا وأقلامنا، كنت في الصف الرابع الابتدائي أرتدي بنطالاً وتاسومة حمراء، نعم، تاسومة قروية، وليس حذاء مدنياً (قُنْدَرة)، ولم يتردّد معلم اللغة العربية في السخرية من هذه المفارقة أمام زملائي، حقه! إنه ابن البورجوزاية المدنية، ولم يتحمّل حسّه الجمالي المتمدّن هذا المشهد الكاريكاتوري الجامع بين البنطال (رمز التمدن) والتاسومة (رمز الفُلُح والرعاة).
كان مصروفي (خرجيّتي) الأسبوعي الترفيهي سبع فرنكات فقط، صحيح أن الفرنك السوري الواحد كان يأتي إلى البيت بكيلوغرام من الخبز، لكن ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان يا سادة! كنا صبية وكانت لنا طموحاتنا كبقية صبية العالم، ثم صرنا في أول الشباب، وكانت طموحاتنا الشخصية تتجاوز (الخبز) بكثير. كان أهلونا عاجزين حتى عن شراء دراجات عادية، نستعين بها لاجتياز الرحلة اليومية بعناء أقل وبسرعة أكثر.
قُبيل مساء يوم شتوي كنا في طريق العودة من عفرين إلى قريتنا كُورْزَيل Kurzêl، منصرفين من المدرسة، الريح تعصف والمطر ينسكب، كان علينا أن نسرع، فالظلام قد بدأ بالزحف، نهارات الشتاء قصيرة، وكان علينا نحن الصغار أن نلحق بالكبار منا، الوحل يطوّق الجزمة من كل جانب، الوحل يَثقُل أكثر فأكثر، الزملاء يسرعون، أتأخر عنهم بسبب الوحول التي تحاصر الجزمة، ظلمة الليل مرعبة، وذئاب جبال لَيلون تنشط في الشتاء، ما العمل؟ خلعت الجزمة، وحملتها في يدي، وأسرعت للحاق بالركب، وصلت البيت، بادرت والدتي- رحمها الله- إلى غسل رجليّ من الوحل، دهشتْ وهي تجد حصاتين مغروزتين تحت قدمي!
لا أريد الذهاب بعيداً في هذه الذكريات، المرء لا يحب العودة إلى الظلمات ثانية، وما أريد قوله هو أننا جيل الآلام الكبرى، تعبنا كثيراً إلى أن تعلمنا، وتعبنا كثيراً إلى أن تثقفنا، وتعبنا أكثر وأكثر ونحن نبحث ونكتب، ورحلتنا مع تأسيس مكتبة متواضعة لم تكن أقل دراماتيكية مع رحلة التعلم والتثقف والبحث، قلت: ولدنا وفي أفواهنا مرارات ومرارات، وهل نجونا من المرارات بعد أن حصلنا على الشهادات؟ كنا نظن ذلك، لكن وا حسرتاه!
(يتبع)…
8 – 9 – 2012