الطفيلية الإعلامية تفترس الثقافة الديمقراطية !!

د. سّيار الجميل      

 يشير مفهوم الثقافة الديمقراطية ، بصفة عامة ، إلى أداء الحريات إزاء مجموعة القيم والأفكار والمعتقدات والمعارف وحزمة الاتجاهات السائدة في  مجتمع تّربى عليها ،  وتعامل بها مع الدولة والسلطات  . وعليه ، فإن مكونات تلك الثقافة تتباين بين المجتمعات تباينا شاسعا . أن الثقافة السياسية ليس بالضرورة أن تكون متجانسة بالنسبة للجميع ، إذ تتنامى ثقافات فرعية لهذه الفئات أو تلك التكوينات ، كما وتنتقل قيمها  بين الأجيال بوسائل تربوية وإعلامية تقوم بها أجهزة ومؤسسات عديدة كالأسرة والمدرسة والجامعة والنادي والحزب والملتقى والمقهى والنقابة ووسائل الإعلام … إلخ.

      وتولي النظم السياسية الحديثة ، بمختلف أشكالها، اهتماماً بالتربويات القيمية وبالثقافة الإعلامية لما لها من تأثيرات مهمة في مختلف جوانب الحياة السياسية، وبخاصة تلك المتعلقة بقضايا تعود للتوازن بين الشرعية السياسية والمشاركة السياسية حتما . وفي ضوء ذلك، فإن الديمقراطية ليست مجرد تعليمات عادية أو عمليات انتخابية وإجراءات مؤسسية لإدارة العلاقة بين الدولة والمجتمع فحسب، ولكنها محصلة لمجموعة من القيم والمبادئ والذهنيات والأساليب التي تعّد بمثابة الإطار الثقافي للنظام الديمقراطي. إن من أهم تلك القيم : الاعتدال، والتسامح السياسي والفكري، والقبول بالتعددية في مجال الفكر والسياسة، والاعتراف بالأفضل والإيمان بالحوار كوسيلة للإقناع والاقتناع، وبالتنافس السلمي كوسيلة لكسب ثقة الناخبين من أجل أهداف سامية وتطلعات عليا ، مع تقبُّل الهزيمة في حال عدم الفوز..  كما أن قيم الحرية والمساواة والمشاركة وسيادة القانون .. ، تعد من المكونات الرئيسية للثقافة السياسية الديمقراطية.
      وعليه ، فان الضرورات لا تبيح المحظورات حسب ، بل تقضي بترسيخ تربية الأجيال على مثل هذه القيم منذ التنشئة الأولى .. ونقد كل ما يتم إنتاجه إعلاميا  في الحياة العربية ..         إن الإعلام العربي ما يزال استعراضي غير حيادي يثير العواطف ويشحن الأعصاب ويقدّم أدوارا مفجعة للتهييج السياسي  والغوغاء الإيديولوجي كونه يعتمد أساسا على الخطاب العاطفي ، ويعمل على بث روح التمرد وفوبيا الانقسام .. فضلا عن الممارسات الديماغوجية التي يمارسها من دون أي حياء ، فهو يعتمد التهريج بديلا عن الهدوء ، ويثير التعصّبات ويبث روح الانقسامات .. بل وقد وجدنا أكثر المرئيات حرفية تثير جملة من المشكلات السياسية لا بسبب مصداقيتها وحرفيتها ، بل بسبب  تعصبّاتها وبث ثقافة القمع وسيادة الرأي الواحد وإتباع أسلوب التشكيك والنيل من دول وشخصيات ومواقف وتواريخ ..  وعرض حوارات صاخبة وجارحة لا تسمع فيها إلا سباب وشتائم وبذاءات واتهامات .. إن الديمقراطية ليست هكذا ولا الحوار هكذا كما يتوّهم العرب الجدد .. ، بل هو أسلوب ومنهج وهي ثقافة ومشاركة عالية المستوى .. ثقافة احترام الرأي المقابل ومقابلة الحجة بالحجة وإقامة الدليل واحترام التجارب .. أو التراجع والاعتذار المهني عن المعلومة الخاطئة .. إن الحوار بحد ذاته ، فلسفة قائمة بنفسها ، وفيه يشعر الإنسان انه في قمة المسؤولية ، فضلا عن أن كلا من السؤال والإجابة ضربان من ضروب الفن والمهارة ..
     إن العقلية الإعلامية العربية لا تفهم عمليتها كونها أداة مستقلة للتطور السياسي والاجتماعي لكل من الخبر والرأي والمفهوم ، بل تؤمن إيمانا أعمى بأن العملية للتهجم والمناورة والشتائم واخذ الثارات والترميز والتحقير ونشر المفاخرات واستعراض العضلات وأداة القوة ونشر التهديدات والبيانات والرسائل والشفرات .. ومن هنا فان مشكلة الديمقراطية العربية هي فاقدة للأرضية والأداة معا .. وان الإعلام العربي  يسيء للتطور الديمقراطي كثيرا ، فالأمر ليس بإطلاق العواطف على عواهنها ، بل في معرفة ما يمكن ان يعرفه المتلقي وما لابد له أن يدركه من المعلومة والخبر والمفهوم والرأي . ليس من الحكمة أبدا أن يغدو الإعلام المتطور وسيلة للتهريج وللفضائح أو للتسلية وهز البطون أو للمواعظ والخطب المنبرية وأقوال الصحف  ويغيب عنه الحوار العلمي والجدل الفكري والثقافة الجادة والتحليلات المركزة .. لا يمكننا أن نتخيّل إن ثمة ترسانة من القنوات الفضائية العربية التي تبّث إعلاما متخلفّا مقارنة ببريطانيا التي تعتبر معقلا للديمقراطية وهي تمتلك قرابة خمس قنوات فضائية مستقلة فقط لا علاقة للحكومة بها ، ولكن ينجذب العالم كله لها ؟؟
    إن غياب الوعي السياسي لدى أجهزة الدولة وشرائح المجتمع في حياتنا العربية يجعل الأمور مختلطة على الفهم ، ويجعل من الإعلام التجاري والطفيلي الخاص ( حتى وان أتى بتمويل رسمي ) مسيطرا على الإعلام الناضج والملتزم والجاد الذي يعطي لكل ذي حق حقّه .. ويعمل على تطوير الحياة وتنمية التفكير واغتناء الوعي ونقد الأخطاء وتوثيق المعلومات .. ويعتمد الحوار الهادئ في التوّصل إلى نتائج تبني ولا تهدم .. تشيد ولا تعدم .. أن العرب مدعوون اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى عقلية جديدة تعمل على تأسيس ديمقراطية حقيقية بعيدا عن كل الفوضى والتسّرع والإباحية والتردّي والتشّنج والتعّصب والإرهاب . عقلية  محايدة ونظيفة لا تزرع الإثارة ولا توزع الدعارة ولا تنشر التضليل ولا تخلق التناقضات ..
    إن الديمقراطية لا تبنى بسرعة البرق ، وسوف لن تنجح في واقع يعجز تماما عن الفصل بين الحقائق والطوباويات ، وعن قبول الآخر والرأي الآخر .. وعن إدراك الحريات في إطار القانون والأعراف .. وعن التمتع بالحقوق إزاء ما يقّدم من واجبات .. وعن فهم البديهيات  . إن حياتنا العربية قد تأخرت جدا عن مسيرتها النهضوية الأولى ، بل وبدل أن تتجانس فقد افترقت بها الطرق ، ولعبت بها الاهواء والتعصّبات  وبدل أن تتكتل لتغدو مشروعا عالميا ، فقد اجتزأت واهترئت وغدت منبوذة من العالم .. وبعد ، ألا يحق لنا بعد الآن أن نعالج الطفيلية الإعلامية من اجل مستقبل سوف لا تواجهنا فيه إلا التحديات ؟؟
www.sayyaraljamil.com
البيان ، 7 ديسمبر 2006

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

تنكزار ماريني

 

فرانز كافكا، أحد أكثر الكتّاب تأثيرًا في القرن العشرين، وُلِد في 3 يوليو 1883 في براغ وتوفي في 3 يونيو 1924. يُعرف بقصصه السريالية وغالبًا ما تكون كئيبة، التي تسلط الضوء على موضوعات مركزية مثل الاغتراب والهوية وعبثية الوجود. ومن المميز في أعمال كافكا، النظرة المعقدة والمتعددة الأوجه للعلاقات بين الرجال والنساء.

ظروف كافكا الشخصية…

إبراهيم اليوسف

مجموعة “طائر في الجهة الأخرى” للشاعرة فاتن حمودي، الصادرة عن “رياض الريس للكتب والنشر، بيروت”، في طبعتها الأولى، أبريل 2025، في 150 صفحة، ليست مجرّد نصوص شعرية، بل خريطة اضطراب لغويّ تُشكّل الذات من شظايا الغياب. التجربة لدى الشاعرة لا تُقدَّم ضمن صور متماسكة، بل تُقطّع في بنية كولاجية، يُعاد ترتيبها عبر مجازٍ يشبه…

ماهين شيخاني.

 

وصلتُ إلى المدينة في الصباح، قرابة التاسعة، بعد رحلة طويلة من الانتظار… أكثر مما هي من التنقل. كنت متعبًا، لكن موعدي مع جهاز الرنين المغناطيسي لا ينتظر، ذاك الجهاز الذي – دون مبالغة – صار يعرف عمودي الفقري أكثر مما أعرفه أنا.

ترجّلتُ من الحافلة ألهث كما لو أنني خرجتُ للتو من سباق قريتنا الريفي،…

إبراهيم سمو

عالية بيازيد وشهود القصيدة: مرافعةٌ في هشاشة الشاعر:

تُقدِّم الكاتبة والباحثة عالية بيازيد، في تصديرها لأعمال زوجها الشاعر سعيد تحسين، شهادةً تتجاوز البُعد العاطفي أو التوثيقي، لتتحوّل إلى مدخل تأويلي عميق لفهم تجربة شاعر طالما كانت قصائده مرآةً لحياته الداخلية.
لا تظهر بيازيد في هذه الشهادة كامرأة تشاركه الحياة فحسب، بل كـ”صندوق أسود” يحتفظ…