إسماعيل عمر …. الشامخ إلى الأبد

هيبت بافي حلبجة

شقيقي، أبن أبي وأمي، كم أنا ضائع تائه في هذا الزمن الأعور الأظلع، زمن الأوراق المتساقطة والأكاذيب المعسولة والنفوس المبقورة، زمن الثعالب والقطط البرية والأشكال المقيتة والصدور المنتفخة، زمن أشباه النظائر وأشباه الوعي الغائب والإدراك المبعثر، زمن الآهات الآيلة للسقوط ، زمن الأجساد برسم الذبح والانتهاك والبيض الرخيص، زمن المعرفة التي لامعرفة فيها، زمن العلم الذي لاعلم فيه، زمن الخطاب الذي لاكلمة فيه، زمن الزمن الذي لازمن فيه .
في هذا الزمن، أيها القادم من أعماق الخلود ، يتمسخ الرجال إلى كروش نتنة مليئة بالعلقم والخيانة ، يأدون صلاة المارق الدجال المنافق ، يلعقون مؤخرة أمرأة هجعت ثملة خائفة بجانب فانوس تتقاذفه أشباح الهزيع الأخير من الليل، ويجترون بجانب زوجاتهم ما تبقى من تعويذة فقدت عذريتها.
في هذا الزمن، تتشابك الكلمات وتتلاعن ، وتتصافر الأخاديد وتتفاقع، وتتيه البلابل ما بين الأحراش والأدغال وتعتصمن في كهوف متمردة وتأبين أن تغردن ظلفاً وتملقاً، لتعزفن عند أنبلاج الفجر لحناً شجياً يدمي القلب ويحبس الأنفاس .   
في هذا الزمن ، أيها العملاق المارد، يهفو إليك الوجدان، ويختلج الفؤاد كما لو أنه كان صائما أبد الدهر ، في هذا الزمن يرنو إليك البصر و يتماهى ظلال الزيزفون في صورة حقيقية تجاسد أروقة ماجدولين وقشعريرة بدنها الأخاذ، في هذا الزمن تتوق إليك الروح والنفس لترسما معاً صورة فريدة نادرة على كوكب لايشبه كوكبنا، أو على مجرة غير مجرتنا ، أو على ملامح وجوه غير وجوهنا ، أو على بيادر قرى غير قرانا، أو على ذرات رماد يتهاوى كالنسيان، و لتحررا معاً على مدونة مهترئة آفاق أفق يتلاشى مع الأمتداد رويداً رويداً .
في هذا الزمن ، يذوي المكان كالفراغ الذاهب إلى تموجات سرابية تدعي عناق السماء ، يبحث الأنسان عن سبب خسيس قميء ليبرر عجزه ، ويتكور حول ذريعة يستر بها أعماق عري فشله ، في هذا الزمن ، أيها الرائع الحنون، لايحملق الأنسان في تضاريسه المقززة وخلجانه المتكسرة ، إنما يتشدق في أحداق امرأة تغرف من وهن الحياة أسباب قوية لتطعم أحفادها ، أو في تجاعيد دوائر متصلبة على جذع فتاة آلمها الأشتياق، وأضناها الألتياع ، ومزقها رضاب اللذة والنعاس .
أيها الحبيب القادم من أعماق الحس والشعور، كم أنت رائع حينما تحفر في الوجدان ، عندما تداعب ريشة ترسم وردة تزركش السماء ، لما تهمس في آذان تصيخ بوجدها وهيامها إلى حفيف الأشجار وخرير الجداول .
أيها العزيز، أدري تماماً لماذا أشتاق إليك ، لماذا أتشهى أن أضمك إلى صدري ، لماذا تهرع الطبيعة نحو ذاتها ، لماذا هي الوردة جميلة ، لماذا هو اللحن الفراتي شجي متميز ، كيف ينتحر المطر أنهماراً لتكتس الطبيعة حلة جديدة ، لباساً يليق بها ويسحر الألباب .
أيها البعيد القريب ، ربما خانتني بعض المشاعر ولم أستطع في غفلة من الزمن أن أدرك تجلياتها وحسن مكانتها ، لكني أدرك الآن تمام الأدراك كم أنا أحبك .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبدالعزيز قاسم

(كان من المقرر ان اقدم هذه المداخلة عن “اللغة الشعرية في القصيدة الكردية المعاصرة ـ ڕۆژاڤا” في مهرجان فولفسبورغ للشعر الكردي اليوم السبت ٢٥ اكتوبر، ولكن بسبب انشغالي بواجب اجتماعي قدمت بطاقة اعتذار إلى لجنة إعداد المهرجان).

وهذه هي نص المداخلة:

من خلال قراءتي لنتاجات العديد من الشعراء الكرد (الكرمانجية) المعاصرين من مناطق مختلفة “بادينان،…

إبراهيم محمود

 

تلويح خطي

كيف لرجل عاش بين عامي” 1916-2006 ” وفي مجتمع مضطرب في أوضاعه السياسية والاجتماعية، أن يكون شاهداً، أو في موقع الشاهد على أحداثه، ولو في حقبة منه، إنما بعد مضي عقود زمنية ثلاثة عليه، دون تجاهل المخاطر التي تتهدده وتتوعده؟ وتحديداً إذا كان في موقع اجتماعي مرصود بأكثر من معنى طبعً، كونه سياسياً…

د. محمود عباس

حين يمرض الضوء، تبقى الذاكرة سنده.

قبل فترةٍ ليست بعيدة، استوقفني غياب الأخت الكاتبة نسرين تيلو عن المشهد الثقافي، وانقطاع حضورها عن صفحات التواصل الاجتماعي، تلك التي كانت تملؤها بنصوصها القصصية المشرقة، وبأسلوبها المرهف الذي حمل إلينا عبر العقود نبض المجتمع الكوردي بخصوصيته، والمجتمع السوري بعموميته. كانت قصصها مرآةً للناس العاديين، تنبض بالصدق والعاطفة،…

خالد حسو

 

ثمة روايات تُكتب لتُروى.

وثمة روايات تُكتب لتُفجّر العالم من الداخل.

ورواية «الأوسلاندر» لخالد إبراهيم ليست رواية، بل صرخة وجودٍ في منفى يتنكّر لسكّانه، وثيقة ألمٍ لجيلٍ طُرد من المعنى، وتشريحٌ لجسد الغربة حين يتحول إلى قَدَرٍ لا شفاء منه.

كلّ جملةٍ في هذا العمل تخرج من لحمٍ يحترق، ومن وعيٍ لم يعد يحتمل الصمت.

فهو لا…