صدمتي مع المجرم لقمان ديركي…..!!

شيروان ملا إبراهيم

في بلاد المأساتستان بالنسبةِ لنا ككرد سوريا، التقيتُ به بعد أن ألقى القبض على مشاعري الكامنة، عندما سمعت بقدومه إلى أربيل، تاركاً وراءه دمشق الحضارات و مهد الثقافات و عاصمة الإنقلابات العسكرية، في اللّحظة الأخيرةِ سلّمت نفسي له و هرولت إليه في الفندق الذي يرتاده، قساوة قلبي المصطنعة المستوردة من معامل السياسة النتنة، جعلتني أُسَلم عليه بكل ما أوتيت من رسميات الدبلوماسية.

تكلمنا بشكلٍ طبيعيٍ لبرهة من الزمن، منتظراً مصيري المحتوم، و هو أن يبدأ الفنان القدير و الكاتب المبدع لقمان ديركي بممارسة أقوى وسائل التعذيب على عالمي الداخلي، و يتكلم عن حياة الثقافة و الفن و الشباب و الطلبة و غير ذلك في دمشق، و ما إن بقينا لوحدنا متممين أحاديثنا العامة، حتى بدأ الجزار لقمان بقلب صفحات ذاكرتي و أنا أنفخ على الغبار المتراكم عليها…

 و ما كان لقمان يدرك أنه بحديثه الفني الثقافي و كذلك الصحفي، و بمرونته في الكلام المرفق لابتسامته، بأنه يقطعني داخلياً، “إرباً أرباً”، ظناً منه أن نظراتي الثاقبة باتجاهه ليست إلا تركيزاُ من صحفي أعلامي على أهمية حديثه، و ما كان يعلم أن النّار تلتهم أحشائي يميناً و شمالاً، و أنا أتخيل أصدقائي الشباب قبل 10 سنوات، و هم يضعون ال(25) ليرة سورية في جيوبهم، متجولين حول المراكز الثقافية المجانية و دور الفن من غناء و مسرح و سينما “رخيصة الأسعار” و أماكن تواجد شخصيات الثقافة في دمشق و مثيلاتها السورية، و يعودون في المساء إلى غرفهم في السكن الجامعي أو بيوت الأجار في الأحياء الدمشقية النائية، لتكرار المناقشة فيما بينهم، بجدّيتهم الممزوجة مع النكت و الفكاهة الكردية، ناهيك عن لعب الشدة في تلك الغرف التي كانت تحتوي أحياناً على عشرة شباب و هي مخصصة لشخصين أو ثلاثة فقط.

في العام 2005، أثناء وداعي لقائدنا و أستاذنا الشاب الكبير سناً ” مشعل التمو”، قال لي آخر لحظة بيننا: “أنتم بهذا الخروج لن تستطيعوا الهروب من المآسي، حياتكم كشباب داخل بلدكم، مهما كانت سيئة، إلا أنها تبقى أروع من ما تتخيلون، لهذا ابقى و تحمل كل شئ لأن ذلك سيكون أفضل لك، كونك في ريعان الشباب… أنا أعي ما أقول لك، لكن بالرغم من قراراك بالخروج، سترى حقيقة كلامي، و ستشتاق إلى هذه الأزقة الفقيرة بالمال و الغنية بكل شئ، لأنك لن تجد ما يعوضك عنها)، و بعد خروجي الشبه القسري بسنتين، سألتني الوالدة الغالية ذات مرة: (هل اشتقت إلينا يا ولدي؟)، فأجبتها (و لا أعلم ما إن كان جوابي وقاحة، أم عفوية في الصراحة) قائلاً: “”نعم يا أماه، بالتأكيد اشتقت لكم، و لكن ليس بقدر شوقي إلى حياتنا الشبابية في المدن الجامعية السورية..!!!”” نعم كم كنت ما زلت اتوق إلى تلك الأيام، و العمل في المطاعم و الفنادق و الأعمال الشاقة المصاحبة لأيام الدراسة و روعة العزوبية فيها، تلك الأيام التي كانت تكمننا من الوصول إلى كل ما نريد بمبلغ لا يزيد عن 100 ليرة سورية، نحصل عليها في يوم الغياب الجامعي مقابل العمل في ملهى “للسكرجية” أو مطعم أو ماشابه…!! لكسب ما يبقينا على قيد الحياة، و شراء جهاز موبايل نستخدمه فقط للرسائل و التأشيرات.

بعد أن “رضينا بالهم بس الهم ما رضي فينا”، و تفتت حياة تلك الأيام مؤقتاً، زرت سوريا عدة مرات بطرق “غير شرعية كما يراه نظام المجازر”، و كانت فرحتي بالتأكيد ستكون بلقاء هؤلاء الشباب بعد سنوات من الفراق، هؤلاء الشباب الذين وظفوا “جمعاتهم الشبابية” في إشعال ثورة “سبارتاكوس” في المناطق الكردية إلى جانب الداخل السوري، و اصطدم بافقتاد الوطن لمعظمهم، بعد أن فتتت أجهزة نظام الضبع شملهم، و دلّهم البعض من تجار السياسة الكردية للهروب إلى تركيا و كردستان العراق و غيرها من الجوار، متفرغين في تلك الغربة، لسماع و نشر “أخبار تقطيع الأطفال في محال قصابي النظام البائد” على العالم أجمع، أملاً بالحصول و لو على عطف البشرية على الأقل، و يصطدموا بردّات فعل تجار السياسة و الثورة السورية في هذه الدول، هؤلاء التجار المفلسين أصلاً، و المحاولين لركوب الثورة على كدّ هؤلاء الأبطال.
بالعودة إلى الحديث حول لقائي بلقمان، الذي رأيت في ابتسامته العفوية كل شبابنا التائهين حالياً و الأغنياء بحياتهم المليئة سابقاً، لمست في نظراته كل حلاوة العيش في سوريا، لا بل حتى ب”حلاوة بالجبنة” في حمص العدية المدمَّرة، و الزعتر السوري الذي يحترق الآن في أرياف حلب، لابل حتى بأكلة “السيرك” الكردية في أرياف ديرك و مناطق آليان بالجزيرة، و حتى أشجار الزيتون و الكرز المختنقة في عفرين و أريحا و الزاوية، بدخان القذائف المدمرة حتى لأملاك الله و الطبيعة فيها، كما اختناق هواياتي في المسرح و الغناء بدخان الهجرة الفاطس، كاختناق آمال كل شباب سوريا بدخان لهيب الغربة في المهجر، و بقذائف النظام البائد داخل الوطن أيضاً.

في حديثي مع لقمان و من دون مبالغة، شعرت قليلاً بآلام القائد الإسطوري الأسكتلندي “وليام والاس” و أنا أتخيل مشهد تعذيبه المروع حتى القتل في فيلم “القلب الشجاع”، عندما قطع الجزارون الإنكليز أوصاله و مزقوا أحشاءه، مستعملين في ذلك أقذر أنواع السيوف و الفؤوس و المقاصل، منتهين بقطع رأسه بعد أن نادى بأعلى صوته الممكن (حرية)، ليموت جسداً و يبقى اسماً خالداً في عالم ثورات “لا للعبودية”، الفرق بيني و بين “والاس” حينها، هو أنه كان قائداً اسطورياً قُتل بأبشع وسائل الجماد على يد أعدائه، كي يموت إلى الأبد و تُحرر ثورتَه فيما بعد، كامل البلد، أما أنا… فشخص عادي ليس إلا، مزّقني الجزار لقمان ديركي برومانسيته و هو يسحب دخان سيكارته في الحديث، مقطعاً أحشاء عالمي الداخلي بمصطلحاته في الكلام، من أمثال “الدومري.. سُمح في سوريا… بقعة ضوء… المركز الثقافي الفرنسي… بولمانات دمشق – قامشلو… المدينة الجامعية… ركن الدين… اوتستراد المزة… يوسف آغا ديركي… و غيرها من وسائله للتعذيب الأحاسيسي و هو لايدري ما يفعل، كي لا أموت مثل العظيم “والاس”، بل لكي أولد من جديد، و أتيقن تماماً، أن الوطن دائماُ يبقى كما كان، شامخاً، رغم المجازر و رغم القصف، لطالما الغربة في الخارج و القصف في الداخل، لم يزد إلا حب شبابه و أبنائه له.

شكراً على مجزرتك الهادئة بحقي، يا مبدعنا و فناننا القدير لقمان ديركي، شكراً لك يا من أجبرتني و أنت لاتدري، على فتحي لصفحات ذاكرتي، ماسحاً الغبار المتراكم عليها، كي أستمر في كتابتها من جديد……..و ليتني في اللقاء الأول احتضنتك بعيداً عن الرسميات المصطنعة، كي أبكي و أبكي و أبكي على سنوات الشباب الضائع، و أنا أشتم منك رائحة الوطن الجريح.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبد الستار نورعلي

أصدر الأديب والباحث د. مؤيد عبد الستار المقيم في السويد قصة (تسفير) تحت مسمى ((قصة))، وقد نشرت أول مرة ضمن مجموعة قصصية تحمل هذا العنوان عن دار فيشون ميديا/السويد/ضمن منشورات المركز الثقافي العراقي في السويد التابع لوزارة الثقافة العراقية عام 2014 بـحوالي 50 صفحة، وأعاد طبعها منفردة في كتاب خاص من منشورات دار…

فدوى كيلاني

ليس صحيحًا أن مدينتنا هي الأجمل على وجه الأرض، ولا أن شوارعها هي الأوسع وأهلها هم الألطف والأنبل. الحقيقة أن كل منا يشعر بوطنه وكأنه الأعظم والأجمل لأنه يحمل بداخله ذكريات لا يمكن محوها. كل واحد منا يرى وطنه من خلال عدسة مشاعره، كما يرى ابن السهول الخضراء قريته كأنها قطعة من الجنة، وكما…

إبراهيم سمو

فتحت عيوني على وجه شفوق، على عواطف دافئة مدرارة، ومدارك مستوعبة رحيبة مدارية.

كل شيء في هذي ال “جميلة”؛ طيبةُ قلبها، بهاء حديثها، حبها لمن حولها، ترفعها عن الدخول في مهاترات باهتة، وسائر قيامها وقعودها في العمل والقول والسلوك، كان جميلا لا يقود سوى الى مآثر إنسانية حميدة.

جميلتنا جميلة؛ اعني جموكي، غابت قبيل أسابيع بهدوء،…

عن دار النخبة العربية للطباعة والتوزيع والنشر في القاهرة بمصر صدرت حديثا “وردة لخصلة الحُب” المجموعة الشعرية الحادية عشرة للشاعر السوري كمال جمال بك، متوجة بلوحة غلاف من الفنان خليل عبد القادر المقيم في ألمانيا.

وعلى 111 توزعت 46 قصيدة متنوعة التشكيلات الفنية والجمالية، ومتعددة المعاني والدلالات، بخيط الحب الذي انسحب من عنوان المجموعة مرورا بعتبة…