أحمد اسماعيل اسماعيل
صديقي الغالي
كيف الحال؟
صديقي الغالي
كيف الحال؟
بداية أرجو أن تقبل اعتذاري عما صدر عني حين هاتفتني آخر مرة، إذ كان ردي جافاً ولا يخلو من نزق، حسب رواية زوجتي، التي لم أشأ أن أصدق روايتها رغم قسمها برؤوس أولادها وأخوتها وأبيها وبرأسي أولاً وأخيراً، إذ كيف لي فعل ذلك مع صديق طفولتي ورفيقي الذي لم يقطع حبل التواصل معي رغم بعد المسافة بيننا، فقلت في نفسي: لا شك أنها تبالغ، ولما لا والمبالغة عندها فطرة وطبع ككل نسائنا في هذه البلاد المجنونة، اللواتي يختلفن عن نساء موطنك الجديد، في الشكل والقوام والوجه والأنوثة.. والطبع أيضاً. وأنت أعلم مني بذلك وأدرى.
ولكن، وفجأة، راحت المكالمة التي جرت بيننا تتردد في داخلي بكل تفاصيلها كشريط مسجل. واخجلتاه، كيف حدث ورددت عليك بتلك الطريقة الجافة؟!
صديقي العزيز
لا شك أنك تعلم مدى حبي لك، واصراري على دوام العلاقة بيننا كما كانت قبل أن تغادر البلاد وتهاجر إلى أوربا، هل تذكر كيف كنا أيام زمان؟ أيام الدراسة الثانوية ومن ثم المرحلة الجامعية: تؤام سيامي، روح واحدة في جسدين. لقد كان ظهور أحدنا بمفرده في مكان ما وبمعزل عن صاحبه مثار تساؤل ودهشة كل الأصحاب والمعارف، هل تذكر ذلك؟ أم أن الغربة أنستك ذلك كما فعلت مع من نسوا في بلاد الغربة أوجاع أوطانهم وأهليهم بل وحليب أمهاتهم.
ولكنك لو عرفت السبب لبطل العجب، هل تعرف كم كانت الساعة حين اتصلت بي؟ لقد كانت الخامسة صباحاً، نعم الخامسة أو بعدها بقليل، ولا أعرف كم كانت عندك؛ في بلاد أوربا أوطاني، فقبل اتصالك بنحو ساعة تقريباً استسلمت للنوم؟ وذلك بعد قضاء سهرة لا أبهى ولا أجمل في مكان لن يتسنى لك ولا لكل أهل استكهولم الذين صدعت رأسي بالحديث عنهم، قضاء وقت خاطف فيه، مغامرة لا تشبه مغامراتك العاطفية التي لا تنفك تحدثني عنها، وسهرة من أجل سدِّ جوع لا يشبه جوعك الدائم إلى جسد المرأة؟ هذا الوحش الذي كان ينهش احشاءنا أيام زمان، أيام الشباب العقائدي ونحن صامتين، بل راضين ومفاخرين بهذا الصمت والرضا. لقد عدت من سهرتي تلك وأنا أبكي من شدة الانفعال، نعم أبكي يا صديقي، وكيف لا أبكي وقد قضيت أكثر من خمس ساعات في طابور طويل عريض أمام كوة الفرن الآلي، طبعاً لابدّ أن تذكر مكانه، أخشى أنك نسيت موقعه هو الآخر كما نسيت أشياء كثيرة في هذا البلد الأمين، لابأس، الفرن الآلي يا صديقي يقع مقابل الملعب البلدي والحديقة المدينة العامة، لابدّ أن تذكرته الآن، حسن، أما سبب وقوفي الطويل هذا فلم يكن للمتعة أو تزجية أوقات الفراغ، بل من أجل الحصول على الخبز، نعم الخبز أو العلف كما يحلو لبعض الظرفاء تسميته، جوع لا يشبه ذلك الجوع الذي كنا نعانيه أيام زمان للجنس أو الحرية أو حتى المعرفة التي كنا نقبل عليها أيام زمان ونلتهمها كشحاذ جائع في وليمة الأغنياء. التزمت بالوقوف في طابور طويل راح يطول ويطول، ووسط أجساد بشرية كانت تتدافع أمام كوة صغيرة تقذف ربطات الخبز في وجوهنا كالصفعات، وأمواج من الأجساد تستطيل وتتربع وتعلو وتهبط وتتداخل وهي تهدر بكل اللغات واللهجات التي تزخر بها مدينتا: شاتمة، مستجديه، باكية مستعطفه، الأمر الذي جعلني أيقن من أن وصولي إلى تلك الكوة مستحيل تماماً، فاضطررت للتسلل من وسط هذه الأمواج والذهاب نحو السماسرة الموزعين في المكان لشراء الخبز بثلاثة أضعاف ثمن الربطة الواحدة. اشتريت ربطتين وأنا سعيد بما فعلت. بل فَرِح بحظي السعيد. هذه الأزمات التي لم تكن جديدة علينا فيما مضى من الأيام، وإن كانت بدرجات أقل مما هي عليه الآن، راحت تعصف بنا بقوة وشدة، ولقد زاد التفجير الذي وقع ظهر أمس وسط المدينة وبالقرب من فرع الأمن السياسي من مخاوف الناس أن يكون ما حدث شرارة الحرب التي ستشتعل هنا أيضاً. لمعرفة الناس بأن هذا النوع من التفجيرات هو الحلقة الاولى التي سبقت مسلسل القتل والتفجير في المحافظات الأخرى، بالمناسبة، لم يكن التفجير بعيداً عن الحي الغربي الذي أسكنه، ولذلك حين سمعت دويه وخرجت إلى شرفة منزلي في الطابق الرابع، شاهدت بوضوح عمود الدخان المتصاعد نحو السماء كمارد ناري راح يتطاول ويعرض وهو يلفظ من جوفه شظايا وأشلاء وكتلاً اسمنتية وقطع الشاحنة المتفجرة، كانت الساعة الواحدة والأربعون دقيقة ظهراً، وكنت قد عدت لتوي من السوق، أحدث الانفجار ما يشبه زلزالاً ضرب المدينة فأرتجت له البيوت، اقتحمت على إثرها عاصفة قوية النوافذ والأبواب وحطمت زجاج النوافذ والمحال التجارية القريبة من الموقع.
لابدّ أنك شاهدت ما حدث أو علمت بأمره من خلال القنوات الفضائية، ألا لعنة الله عليها كلّها، المؤيدة منها وغير المؤيدة، فلقد حوّلت أخبارنا ومجريات أحداث الثورة إلى ما يشبه فيلم أو مسلسل بوليسي أصبح يثير التشويق والمتعة أكثر مما يثير الحزن أو التعاطف والغضب.
حين وجدت الهاتف بيد زوجتي وهي تطلب مني الرد على المكالمة بسرعة، لم استطع تمييز صوتك، وظننت أنني ما زلت واقفاً في ذلك الطابور الطويل، وأشاهد السماسرة ورجال الأمن ووكلاءهم الجدد يدفعون الناس ويطلقون الشتائم والإهانات، والرصاص أيضاً، وهم يصفونهم بالهمج والغوغاء، فأثار الأمر استفزازي وتفوهت بتلك الكلمات غير اللائقة، والتي كانت تتردد في داخلي حين كنت هناك وسط تلك الأمواج البشرية الهادرة، ولم اطلقها حينئذ، خجلاً وربما خوفاً، ووجدت نفسي فجأة أرسلها لك عبر الهاتف رغم اشارات زوجتي لي وهي تلكزني محذرة حيناً وتنخزني وتعض على شفتها عاتبة ومؤنبة حيناً آخر.
اعذرني يا صاحبي فأنا لم أقصدك حين وصفتك بتلك الصفات المشينة، إذ كيف يصبح من كان يحمل قيماً وطنية واخلاقية نبيلة سمساراً ومنافقاً وبليداً في يوم وليلة؟ ولكن سامحك الله، أنت السبب، حديثك الغريب عن السهرة التي قضيتها مع أجمل امرأة في أوربا هو الذي استفزني، هل كنت مخموراً؟ كم كاساً من الويسكي كنت قد كرعت؟ بل كم ليتراً؟ ستقول لي الكثير، أعلم ذلك، وأعلم أنك ستجيب: والكثير من الجميلات أيضاً كن برفقتي، اللهم بلا حسد، وحلال عليك يا عم، ولكن حذار من رواية ذلك لصديق أو شخص آخر غيري، فلولا معرفتي بما كنت عليه أيام زمان لأسأت فهمك، وقلت عنك كلاماً ووصفتك بنعوت لا تليق بشاب كان يحمل قضية شعبه بالطول والعرض قبل أن يهاجر إلى بلاد الله الأوربية، وذلك رغم ما كان يعانيه من فقر وعوز شديدين، ولكن الناس، الناس يا صديقي لم تعد في هذه الأيام كسابق عهدنا بها: بساطة وطيبة وصمت ومسايرة. الأحداث العاصفة التي تدور في الوطن كشبح، غيرت كل شيء، وأصوات المدافع ومشاهد القتل وتقطيع الأوصال ايقظت الناس على حقيقة جديدة وغيرت قناعاتهم، بل حتى سلوكياتهم، وهنا، في مدينتنا التي لم تُدرج بعد في جدول القصف والقتل والتدمير، نابت أزمة المحروقات والمواد التموينية بل وأزمة الثقة.. الثقة بكل شيء، عن تلك العمليات في قتل أرواحنا وما كنا نملك من القيم والمشاعر والنظريات المسبقة الصنع التي كنا نباهي بها الدنيا.
اعذرني يا صاحبي، يجب أن تعذرني على ما بدر مني، لو كنت مكاني في تلك المعمعة لسكبت في أذن محدثك في الهاتف ما سكبته في أذنك من كلمات نابية. قد تستغرب مني، أنا الرجل المهذب، استخدامي مفردات غير لائقة، لا تستغرب ذلك، وادعُ ربك ألا يتجاوز الأمر معي هذا الحد، فما أخشاه هو أن أتحول أنا أيضاً إلى خرتيت مثلما بدأ يحدث للناس هنا، الآن وهنا، هل تذكر الخرتيت، خرتيت يوجين يونسكو؟ تلك المسرحية العبثية التي كنا قد اعتبرناها أيام الشباب الثوري من نفايات الثقافة الغربية، ترف فكري، بدأت تصبح واقعاً في مدينتك نصف الريفية، ليس بين السياسيين رفاق الأمس وحسب، وهو ما كان ساري المفعول منذ زمن بعيد وكنا عنه غافلون، بل بين العامة أيضاً،
اسمع هذه الحكاية التي كنت شاهداً عليها: في فجر يوم من أيامنا السوداء، وأمام فرن مرادو الذي لابدّ أن تذكره، ذلك الفرن البسيط الكائن بالقرب من جامع قاسمو، جامع الوحدة في السجلات الرسمية، والذي أصبح هذه الأيام على بساطة بنائه وتواضعه أشهر من الجامع الأموي بدمشق، أو قلعة حلب، ووسط جمهرة الناس المتدافعة أمام كوة هذا الفرن، رأيت رجلاً مسناً يسقط مغشياً عليه، كم كان منظره مؤثراً حين راح يمسك بطرف نافذة الفرن خشية فقدان مكانه وضياع دوره! كانت عيون الناس تنظر إليه بشفقة دون أن تترجمها إلى فعل أو سلوك “إنساني” خشية ابتعادها عن المكان الذي احتلته بعد مدافعة وطول انتظار بالقرب من نافذة البيع، حينها كفرت بكل المبادئ والمقولات الكبرى التي كنا نؤمن بها ونرددها ليل نهار كالببغاوات.
ستقول، وكعادتك: عادية، تحدث في أرقى الأماكن، لابأس، قد تحدث هنا أو هناك، في أرقى الأماكن واحسنها، ولكن أن تتكرر بكثرة كما بدأ يحدث هنا؟ ذلك هو السؤال، تلك هي المسألة، كما يقول العم شكسبير.
هل تعرف إنك أول من خطر ببالي حين سمعت بما حدث لنساء حيك الشرقي لحظة سماعهن دوي الانفجار؟ هؤلاء الناقصات الأنوثة كما تصفهن حين تقارنهن بنساء أوربا: الهيفاوات، الشقراوات، النظيفات، الشهيات، ذات السيقان المصقولة واللامعة كالرخام، اللواتي إذا سكبت على افخاذهن المصقولة السمن البلدي ورحت تلحسه بلسانك فلابدَّ من أنك ستستعيده كاملاً وبنكهة افرنجية، ولك يا سيامندو أن تتخيل ماذا سيحدث لك حين تطبق التجربة على أفخاذ ناقصات الأنوثة عندنا. كلامك هذا الذي حفظته عن ظهر قلب هو من جعلني أتذكرك في لحظة عصيبة كهذه، وما زلت ضحكتك الماجنة تتردد في أذني بعد أن أفرغت حديثك هذا فيها تاركاً إياي على الطرف الثاني من الخط أتلمظ وألهث مثل كلب.
لقد ركضت ناقصات الأنوثة جميعهن في الشوارع وهن حافيات، سافرات، بعضهن كان في ثياب النوم، وأخريات كن يرتدين أثواباً خاصة ومخصوصة للبيت وأمام المحارم، كن يولولن وهن يتوجهن نحو مدرسة الحي الابتدائية، كثيرات منهن سقطن في منتصف الشارع ورحن يضربن تلك الأفخاذ ذات الجلود السميكة والمسامات العميقة كما وصفتهن بقوة وعنف وهن يبكين أولادهن بطريقة لا يمكن لنسائك الأوربيات ذوات الأفخاذ المصقولة اللجوء إليها حتى لو قامت الدنيا ولم تقعد، لقد كثرت روايات الشهود على ما حدث للجميع، للنساء والرجال والأطفال، وكعادة أهل مدينتك، فإن المشهد الذي انفطرت له القلوب تحول فيما بعد إلى مصدر سخرية وتندر، حينها قلت لصديق لنا مشترك: سأخبر صديقنا نعمان بما حدث وخاصة لنساء حينا، فكان جوابه قاسياً، وبما إنني لن أذكر لك اسمه فسأكتفي برده، قال: دعك من هذا المنافق الذي استغل قضية شعبه للوصول إلى هناك، الذي وبدل أن يتحول إلى لسان حال من خرج باسمهم؛ تحول إلى لسان يلحس أفخاذ عاهرات موطنه الجديد، يسكب عليها النبيذ أو السمن البلدي الذي ترسله أمه له بين الحين والآخر، ويلحسها مثل كلب، ذلك السمن الذي كان يحلم بتذوقه ممزوجاً بالبيض البلدي. أين هو من كل ما يحدث وما حدث في الثاني عشر من آذار سنة 2004 في مدينته التي يزعم أنه مجنونها: مجنون “قامشلو”، يبدو أنه ترك قاموسه الثوري هنا ورحل كما يحدث الآن مع كثير من الثوريين الطارئين في هذه الأيام . من الشباب وغير الشباب؟
لا تنزعج، ليس هذا الصديق أول من يوجه لك سهام النقد ولن يكون آخرهم، الحساد عندنا كثر، إذ كيف لا يكونون كثر وأخبار تحولك إلى “لورد” قد وصلت إلى كل من يعرفك. يعلم الله أنني دافعت عنك كثيراً، وأكدت لهم بأنك تغيرت ولم تعد تحدثني عن بطولاتك ومغامراتك النسائية كما كنت تفعل في السابق، بل رحت في كل مكالماتك الأخيرة ورسائلك تركز على أخبار الثورة.
كذاب.
عفواً، ناقل الشتيمة ليس بشاتم. ولكن بهذه الكلمة رد أغلب الأصدقاء على ما قلت بقوة وقرف كبصقة،
ولكن قل لي يا صاحبي، مما تخشى وأنت هناك في بلادك الجديدة وبعيداً عن متناول اليد؟! حتى تواصلك مع الأصدقاء يكاد يقتصر على حديثك معي فقط! ومع أهلك حين ينفد لحم القلي الذي يرسلونه لك، ذلك اللحم المطبوخ والمجفف الذي كنا نحلم كلانا بالتهام تنكة كاملة منه. وكم كانت سعادتنا كبيرة حين كان يطلب أحدهم منا مشاركته هذا الطعام المزدان بعيون البيض البلدي والمضاف إليه القليل من عصير الليمون.
ستقول لي: لقد تغيرتُ، غيرتني الثورة التي كنا ننتظرها على أحرٍّ من الجمر منذ نعومة أظفارنا وعواطفنا وعقولنا، أعلم ذلك، فمن منا لم تغيره هذه الثورة؟ بل ما الذي لم تغيره الثورة؟ لست الوحيد من تغير، وإذا كانت الغربة قد غيرتك كما يقولون؛ فجعلت منك أنت الشاب الوطني والمثالي رجلاً داعراً، ثم حولتك أخبار الثورة إلى متابع ومتعاطف معنا، كما تقول، فإن أيامنا المجنونة هذه قد غيرتنا جميعاً، غيرت شعباً بكامله، فلم تعد الكلمات تعني ما كانت تعنيه قبلا، ولا المبادئ هي المبادئ، لم يبق أحد على حاله، اللهم سوى الحمقى وأولئك المبتلين بداء تكلس العقلية،
لا أعرف ماذا أسمي ما يحدث، ولماذا حدث كل هذا التغير فجأة رغم طول انتظارنا له حتى عيّل الصبر، هل هو الجوع؟ الجوع إلى الحرية كما يقولون: حرية تتجاوز ملء البطون ولحس أفخاذ مصقولة كالكلاب؟ لا أعرف، لم أعدْ أعرف شيئاً.
ما أعرفه يا نعمان، بل ما أحتاج إليه الآن هو النوم، النوم الهانئ والعميق الذي أصبح أمنية عزيزة وصعبة المنال، بل ضرورة للاستعداد لقضاء سهرة أخرى أمام كوة الفرن، ولأدعك تكرع ما تبقى ما في كأسك من خمر، أو تقبيل أماكن ولحس زوايا وتضاريس من جسد المرأة التي برفقتك، فأنا أعلم أن تغيرك هذا وتعاطفك ليس سوى حفنة من الكلمات: كلمات، كلمات.. كلمات.
ملاحظة :
منذ زمن بعيد، وعندما كنت أنصت لحديثك عبر الهاتف وأنت تروي لي بصفاقة قصص مغامراتك العاطفية والحياة الهانئة التي تعيشها هناك، متجاهلاً ما أعانيه من جوع، جوع لكل شيء، كانت كلمة واحدة تتردد في داخلي كثيراً ولم أستطع النطق بها رغم محاولات كثيرة لفعل ذلك، أما الآن وبمناسبة حرية التعبير وغيرها من الحريات أقولها بصراحة وبكامل الحرية: أنت كلب.
سيامند
صديقي العزيز
لا شك أنك تعلم مدى حبي لك، واصراري على دوام العلاقة بيننا كما كانت قبل أن تغادر البلاد وتهاجر إلى أوربا، هل تذكر كيف كنا أيام زمان؟ أيام الدراسة الثانوية ومن ثم المرحلة الجامعية: تؤام سيامي، روح واحدة في جسدين. لقد كان ظهور أحدنا بمفرده في مكان ما وبمعزل عن صاحبه مثار تساؤل ودهشة كل الأصحاب والمعارف، هل تذكر ذلك؟ أم أن الغربة أنستك ذلك كما فعلت مع من نسوا في بلاد الغربة أوجاع أوطانهم وأهليهم بل وحليب أمهاتهم.
ولكنك لو عرفت السبب لبطل العجب، هل تعرف كم كانت الساعة حين اتصلت بي؟ لقد كانت الخامسة صباحاً، نعم الخامسة أو بعدها بقليل، ولا أعرف كم كانت عندك؛ في بلاد أوربا أوطاني، فقبل اتصالك بنحو ساعة تقريباً استسلمت للنوم؟ وذلك بعد قضاء سهرة لا أبهى ولا أجمل في مكان لن يتسنى لك ولا لكل أهل استكهولم الذين صدعت رأسي بالحديث عنهم، قضاء وقت خاطف فيه، مغامرة لا تشبه مغامراتك العاطفية التي لا تنفك تحدثني عنها، وسهرة من أجل سدِّ جوع لا يشبه جوعك الدائم إلى جسد المرأة؟ هذا الوحش الذي كان ينهش احشاءنا أيام زمان، أيام الشباب العقائدي ونحن صامتين، بل راضين ومفاخرين بهذا الصمت والرضا. لقد عدت من سهرتي تلك وأنا أبكي من شدة الانفعال، نعم أبكي يا صديقي، وكيف لا أبكي وقد قضيت أكثر من خمس ساعات في طابور طويل عريض أمام كوة الفرن الآلي، طبعاً لابدّ أن تذكر مكانه، أخشى أنك نسيت موقعه هو الآخر كما نسيت أشياء كثيرة في هذا البلد الأمين، لابأس، الفرن الآلي يا صديقي يقع مقابل الملعب البلدي والحديقة المدينة العامة، لابدّ أن تذكرته الآن، حسن، أما سبب وقوفي الطويل هذا فلم يكن للمتعة أو تزجية أوقات الفراغ، بل من أجل الحصول على الخبز، نعم الخبز أو العلف كما يحلو لبعض الظرفاء تسميته، جوع لا يشبه ذلك الجوع الذي كنا نعانيه أيام زمان للجنس أو الحرية أو حتى المعرفة التي كنا نقبل عليها أيام زمان ونلتهمها كشحاذ جائع في وليمة الأغنياء. التزمت بالوقوف في طابور طويل راح يطول ويطول، ووسط أجساد بشرية كانت تتدافع أمام كوة صغيرة تقذف ربطات الخبز في وجوهنا كالصفعات، وأمواج من الأجساد تستطيل وتتربع وتعلو وتهبط وتتداخل وهي تهدر بكل اللغات واللهجات التي تزخر بها مدينتا: شاتمة، مستجديه، باكية مستعطفه، الأمر الذي جعلني أيقن من أن وصولي إلى تلك الكوة مستحيل تماماً، فاضطررت للتسلل من وسط هذه الأمواج والذهاب نحو السماسرة الموزعين في المكان لشراء الخبز بثلاثة أضعاف ثمن الربطة الواحدة. اشتريت ربطتين وأنا سعيد بما فعلت. بل فَرِح بحظي السعيد. هذه الأزمات التي لم تكن جديدة علينا فيما مضى من الأيام، وإن كانت بدرجات أقل مما هي عليه الآن، راحت تعصف بنا بقوة وشدة، ولقد زاد التفجير الذي وقع ظهر أمس وسط المدينة وبالقرب من فرع الأمن السياسي من مخاوف الناس أن يكون ما حدث شرارة الحرب التي ستشتعل هنا أيضاً. لمعرفة الناس بأن هذا النوع من التفجيرات هو الحلقة الاولى التي سبقت مسلسل القتل والتفجير في المحافظات الأخرى، بالمناسبة، لم يكن التفجير بعيداً عن الحي الغربي الذي أسكنه، ولذلك حين سمعت دويه وخرجت إلى شرفة منزلي في الطابق الرابع، شاهدت بوضوح عمود الدخان المتصاعد نحو السماء كمارد ناري راح يتطاول ويعرض وهو يلفظ من جوفه شظايا وأشلاء وكتلاً اسمنتية وقطع الشاحنة المتفجرة، كانت الساعة الواحدة والأربعون دقيقة ظهراً، وكنت قد عدت لتوي من السوق، أحدث الانفجار ما يشبه زلزالاً ضرب المدينة فأرتجت له البيوت، اقتحمت على إثرها عاصفة قوية النوافذ والأبواب وحطمت زجاج النوافذ والمحال التجارية القريبة من الموقع.
لابدّ أنك شاهدت ما حدث أو علمت بأمره من خلال القنوات الفضائية، ألا لعنة الله عليها كلّها، المؤيدة منها وغير المؤيدة، فلقد حوّلت أخبارنا ومجريات أحداث الثورة إلى ما يشبه فيلم أو مسلسل بوليسي أصبح يثير التشويق والمتعة أكثر مما يثير الحزن أو التعاطف والغضب.
حين وجدت الهاتف بيد زوجتي وهي تطلب مني الرد على المكالمة بسرعة، لم استطع تمييز صوتك، وظننت أنني ما زلت واقفاً في ذلك الطابور الطويل، وأشاهد السماسرة ورجال الأمن ووكلاءهم الجدد يدفعون الناس ويطلقون الشتائم والإهانات، والرصاص أيضاً، وهم يصفونهم بالهمج والغوغاء، فأثار الأمر استفزازي وتفوهت بتلك الكلمات غير اللائقة، والتي كانت تتردد في داخلي حين كنت هناك وسط تلك الأمواج البشرية الهادرة، ولم اطلقها حينئذ، خجلاً وربما خوفاً، ووجدت نفسي فجأة أرسلها لك عبر الهاتف رغم اشارات زوجتي لي وهي تلكزني محذرة حيناً وتنخزني وتعض على شفتها عاتبة ومؤنبة حيناً آخر.
اعذرني يا صاحبي فأنا لم أقصدك حين وصفتك بتلك الصفات المشينة، إذ كيف يصبح من كان يحمل قيماً وطنية واخلاقية نبيلة سمساراً ومنافقاً وبليداً في يوم وليلة؟ ولكن سامحك الله، أنت السبب، حديثك الغريب عن السهرة التي قضيتها مع أجمل امرأة في أوربا هو الذي استفزني، هل كنت مخموراً؟ كم كاساً من الويسكي كنت قد كرعت؟ بل كم ليتراً؟ ستقول لي الكثير، أعلم ذلك، وأعلم أنك ستجيب: والكثير من الجميلات أيضاً كن برفقتي، اللهم بلا حسد، وحلال عليك يا عم، ولكن حذار من رواية ذلك لصديق أو شخص آخر غيري، فلولا معرفتي بما كنت عليه أيام زمان لأسأت فهمك، وقلت عنك كلاماً ووصفتك بنعوت لا تليق بشاب كان يحمل قضية شعبه بالطول والعرض قبل أن يهاجر إلى بلاد الله الأوربية، وذلك رغم ما كان يعانيه من فقر وعوز شديدين، ولكن الناس، الناس يا صديقي لم تعد في هذه الأيام كسابق عهدنا بها: بساطة وطيبة وصمت ومسايرة. الأحداث العاصفة التي تدور في الوطن كشبح، غيرت كل شيء، وأصوات المدافع ومشاهد القتل وتقطيع الأوصال ايقظت الناس على حقيقة جديدة وغيرت قناعاتهم، بل حتى سلوكياتهم، وهنا، في مدينتنا التي لم تُدرج بعد في جدول القصف والقتل والتدمير، نابت أزمة المحروقات والمواد التموينية بل وأزمة الثقة.. الثقة بكل شيء، عن تلك العمليات في قتل أرواحنا وما كنا نملك من القيم والمشاعر والنظريات المسبقة الصنع التي كنا نباهي بها الدنيا.
اعذرني يا صاحبي، يجب أن تعذرني على ما بدر مني، لو كنت مكاني في تلك المعمعة لسكبت في أذن محدثك في الهاتف ما سكبته في أذنك من كلمات نابية. قد تستغرب مني، أنا الرجل المهذب، استخدامي مفردات غير لائقة، لا تستغرب ذلك، وادعُ ربك ألا يتجاوز الأمر معي هذا الحد، فما أخشاه هو أن أتحول أنا أيضاً إلى خرتيت مثلما بدأ يحدث للناس هنا، الآن وهنا، هل تذكر الخرتيت، خرتيت يوجين يونسكو؟ تلك المسرحية العبثية التي كنا قد اعتبرناها أيام الشباب الثوري من نفايات الثقافة الغربية، ترف فكري، بدأت تصبح واقعاً في مدينتك نصف الريفية، ليس بين السياسيين رفاق الأمس وحسب، وهو ما كان ساري المفعول منذ زمن بعيد وكنا عنه غافلون، بل بين العامة أيضاً،
اسمع هذه الحكاية التي كنت شاهداً عليها: في فجر يوم من أيامنا السوداء، وأمام فرن مرادو الذي لابدّ أن تذكره، ذلك الفرن البسيط الكائن بالقرب من جامع قاسمو، جامع الوحدة في السجلات الرسمية، والذي أصبح هذه الأيام على بساطة بنائه وتواضعه أشهر من الجامع الأموي بدمشق، أو قلعة حلب، ووسط جمهرة الناس المتدافعة أمام كوة هذا الفرن، رأيت رجلاً مسناً يسقط مغشياً عليه، كم كان منظره مؤثراً حين راح يمسك بطرف نافذة الفرن خشية فقدان مكانه وضياع دوره! كانت عيون الناس تنظر إليه بشفقة دون أن تترجمها إلى فعل أو سلوك “إنساني” خشية ابتعادها عن المكان الذي احتلته بعد مدافعة وطول انتظار بالقرب من نافذة البيع، حينها كفرت بكل المبادئ والمقولات الكبرى التي كنا نؤمن بها ونرددها ليل نهار كالببغاوات.
ستقول، وكعادتك: عادية، تحدث في أرقى الأماكن، لابأس، قد تحدث هنا أو هناك، في أرقى الأماكن واحسنها، ولكن أن تتكرر بكثرة كما بدأ يحدث هنا؟ ذلك هو السؤال، تلك هي المسألة، كما يقول العم شكسبير.
هل تعرف إنك أول من خطر ببالي حين سمعت بما حدث لنساء حيك الشرقي لحظة سماعهن دوي الانفجار؟ هؤلاء الناقصات الأنوثة كما تصفهن حين تقارنهن بنساء أوربا: الهيفاوات، الشقراوات، النظيفات، الشهيات، ذات السيقان المصقولة واللامعة كالرخام، اللواتي إذا سكبت على افخاذهن المصقولة السمن البلدي ورحت تلحسه بلسانك فلابدَّ من أنك ستستعيده كاملاً وبنكهة افرنجية، ولك يا سيامندو أن تتخيل ماذا سيحدث لك حين تطبق التجربة على أفخاذ ناقصات الأنوثة عندنا. كلامك هذا الذي حفظته عن ظهر قلب هو من جعلني أتذكرك في لحظة عصيبة كهذه، وما زلت ضحكتك الماجنة تتردد في أذني بعد أن أفرغت حديثك هذا فيها تاركاً إياي على الطرف الثاني من الخط أتلمظ وألهث مثل كلب.
لقد ركضت ناقصات الأنوثة جميعهن في الشوارع وهن حافيات، سافرات، بعضهن كان في ثياب النوم، وأخريات كن يرتدين أثواباً خاصة ومخصوصة للبيت وأمام المحارم، كن يولولن وهن يتوجهن نحو مدرسة الحي الابتدائية، كثيرات منهن سقطن في منتصف الشارع ورحن يضربن تلك الأفخاذ ذات الجلود السميكة والمسامات العميقة كما وصفتهن بقوة وعنف وهن يبكين أولادهن بطريقة لا يمكن لنسائك الأوربيات ذوات الأفخاذ المصقولة اللجوء إليها حتى لو قامت الدنيا ولم تقعد، لقد كثرت روايات الشهود على ما حدث للجميع، للنساء والرجال والأطفال، وكعادة أهل مدينتك، فإن المشهد الذي انفطرت له القلوب تحول فيما بعد إلى مصدر سخرية وتندر، حينها قلت لصديق لنا مشترك: سأخبر صديقنا نعمان بما حدث وخاصة لنساء حينا، فكان جوابه قاسياً، وبما إنني لن أذكر لك اسمه فسأكتفي برده، قال: دعك من هذا المنافق الذي استغل قضية شعبه للوصول إلى هناك، الذي وبدل أن يتحول إلى لسان حال من خرج باسمهم؛ تحول إلى لسان يلحس أفخاذ عاهرات موطنه الجديد، يسكب عليها النبيذ أو السمن البلدي الذي ترسله أمه له بين الحين والآخر، ويلحسها مثل كلب، ذلك السمن الذي كان يحلم بتذوقه ممزوجاً بالبيض البلدي. أين هو من كل ما يحدث وما حدث في الثاني عشر من آذار سنة 2004 في مدينته التي يزعم أنه مجنونها: مجنون “قامشلو”، يبدو أنه ترك قاموسه الثوري هنا ورحل كما يحدث الآن مع كثير من الثوريين الطارئين في هذه الأيام . من الشباب وغير الشباب؟
لا تنزعج، ليس هذا الصديق أول من يوجه لك سهام النقد ولن يكون آخرهم، الحساد عندنا كثر، إذ كيف لا يكونون كثر وأخبار تحولك إلى “لورد” قد وصلت إلى كل من يعرفك. يعلم الله أنني دافعت عنك كثيراً، وأكدت لهم بأنك تغيرت ولم تعد تحدثني عن بطولاتك ومغامراتك النسائية كما كنت تفعل في السابق، بل رحت في كل مكالماتك الأخيرة ورسائلك تركز على أخبار الثورة.
كذاب.
عفواً، ناقل الشتيمة ليس بشاتم. ولكن بهذه الكلمة رد أغلب الأصدقاء على ما قلت بقوة وقرف كبصقة،
ولكن قل لي يا صاحبي، مما تخشى وأنت هناك في بلادك الجديدة وبعيداً عن متناول اليد؟! حتى تواصلك مع الأصدقاء يكاد يقتصر على حديثك معي فقط! ومع أهلك حين ينفد لحم القلي الذي يرسلونه لك، ذلك اللحم المطبوخ والمجفف الذي كنا نحلم كلانا بالتهام تنكة كاملة منه. وكم كانت سعادتنا كبيرة حين كان يطلب أحدهم منا مشاركته هذا الطعام المزدان بعيون البيض البلدي والمضاف إليه القليل من عصير الليمون.
ستقول لي: لقد تغيرتُ، غيرتني الثورة التي كنا ننتظرها على أحرٍّ من الجمر منذ نعومة أظفارنا وعواطفنا وعقولنا، أعلم ذلك، فمن منا لم تغيره هذه الثورة؟ بل ما الذي لم تغيره الثورة؟ لست الوحيد من تغير، وإذا كانت الغربة قد غيرتك كما يقولون؛ فجعلت منك أنت الشاب الوطني والمثالي رجلاً داعراً، ثم حولتك أخبار الثورة إلى متابع ومتعاطف معنا، كما تقول، فإن أيامنا المجنونة هذه قد غيرتنا جميعاً، غيرت شعباً بكامله، فلم تعد الكلمات تعني ما كانت تعنيه قبلا، ولا المبادئ هي المبادئ، لم يبق أحد على حاله، اللهم سوى الحمقى وأولئك المبتلين بداء تكلس العقلية،
لا أعرف ماذا أسمي ما يحدث، ولماذا حدث كل هذا التغير فجأة رغم طول انتظارنا له حتى عيّل الصبر، هل هو الجوع؟ الجوع إلى الحرية كما يقولون: حرية تتجاوز ملء البطون ولحس أفخاذ مصقولة كالكلاب؟ لا أعرف، لم أعدْ أعرف شيئاً.
ما أعرفه يا نعمان، بل ما أحتاج إليه الآن هو النوم، النوم الهانئ والعميق الذي أصبح أمنية عزيزة وصعبة المنال، بل ضرورة للاستعداد لقضاء سهرة أخرى أمام كوة الفرن، ولأدعك تكرع ما تبقى ما في كأسك من خمر، أو تقبيل أماكن ولحس زوايا وتضاريس من جسد المرأة التي برفقتك، فأنا أعلم أن تغيرك هذا وتعاطفك ليس سوى حفنة من الكلمات: كلمات، كلمات.. كلمات.
ملاحظة :
منذ زمن بعيد، وعندما كنت أنصت لحديثك عبر الهاتف وأنت تروي لي بصفاقة قصص مغامراتك العاطفية والحياة الهانئة التي تعيشها هناك، متجاهلاً ما أعانيه من جوع، جوع لكل شيء، كانت كلمة واحدة تتردد في داخلي كثيراً ولم أستطع النطق بها رغم محاولات كثيرة لفعل ذلك، أما الآن وبمناسبة حرية التعبير وغيرها من الحريات أقولها بصراحة وبكامل الحرية: أنت كلب.
سيامند
قامشلي 110 2012