كان ذلك في صيف عام 1977 م و كنت عائداً من حلب مع طفلي “سلمان” و أختي “صفية” و ابنتها الصغيرة “روزين”. كنا جالسين في آخر مقعد في “الأوتوماتريس”, القطار, و الى الجهة المحاذية لنا من اليسار مقعد فيه أربعة أشخاص: شاب و شيخ مسن سمين أبيض الشعر, أخضر العينين, و فتاتان مراهقتان, ظهر فيما بعد أنهما جزراويتان من الأرمن في القامشلي. كنت أنظر الى هذا الشيخ المسن و أردد النظر متوهماً أنه أحد أغنياء و بورجوازيي القامشلي. و ذات مرة, ناديت على بنت أختي “روژين” آمراً إياها ألا تتحرك كثيراً, فقال الرجل المسن: “من هي روژين؟” فقلت: “هذه الطفلة بنت أختي” فقال منتهزاً الفرصة ليكلمنا: “خودى وى بهيلى” يعني /الله يطول عمرها/ فقلت: “تو ساغ بي” .. أي /تسلم/. فعاد و سأل: “ما درجة قرابتكم بـ (الملا صالح الكرمي)؟” فقلت: “هو جدي” , قال: “كان زميلاً لي في حجرة سيداي (ملا عبيد الله) و كنت أراجعه بعض الدروس لأنه تأخر في الدراسة”, فقلت مندهشاً: “من حضرتكم؟”, فقال:” (جكرخوين) !!” فقمت على الفور و صافحته بشوق و قلت: “لكنني كنت أتخيلك حسب صورة لك في الديوان الأول!!؟”, فقال: “العمر يمضي و يشيب الإنسان و يتغير” فاستسمحت الشاب الجالس الى جانبه, و كان مرافقاً له, أن يأذن لي قليلاً حتى أحادث (سيدا) فأومأ إليه و قال لي:”اجلس أهلاً و سهلاً”
بدأ حديثنا دينياً و فلسفياً حول فكرة الألوهية بين الدين و الفلسفة و في غمار الحديث .. قال لي:” اليونانيون فكروا في الإله ألف عام فلم يستفيدوا شيئاً, خير للإنسان أن يفكر في عقار يضعه في زجاجة و يقدمه كدواء لمريض من أن يفكر في هذه الأمور؟ فقلت:” و إذا فكر و لم يستطع مقاومة هذه الأفكار؟” , قال:” لا يستفيد شيئاً .. البشرية بحاجة إلى من يفكر لها و لخدمتها … و انقاذها من الظلم و التخلف و الاستغلال.” فانتقلنا بعد ذلك إلى الأدب الكردي و اللغة الكردية, ذكرت له أنني أكتب الشعر بالعربية فنصحني بأن أكف عن ذلك و قال:” لن تستطيع أن تصبح مثل (أحمد شوقي) فعليك أن تشق طريقك في ميدان الأدب الكردي و باللغة الكردية”, أخذت نصيحته بعين الاعتبار و شكرته على ذلك, ثم صرت أطرح عليه أسئلة عن رأيه في المرأة و في شعره و في القادة الكرد قديماً و حديثاً, فأبدى آراءه بعفوية و مباشرة و دون تكلف. و عن المرأة و الحب قال:” الكون كله محبة و أهم عنصر يجلب هذه المحبة /المرأة/ و في الكردية نصف اسم الإله هو اسم المرأة (!) خودا: فـ (خو) يعني طبع و طبيعة, و (دا) يعني الأم” هكذا قال !! ” و يجب أن نعتني بالمرأة كثيراً و نهيء لها أجواء الراحة و السعادة و الكرامة و نخلصها من التقاليد و العادات السيئة … إلى آخر كلامه الجميل … . سألته عن رأيه في زعماء التنوير و الاصلاح الديني في مصر كجمال الدين الأفغاني و محمد عبده و الكواكبي فأبدى إعجابه بهم و لكنه أضاف ” أن الإسلام السياسي لم ينجح في مدى ألف عام فعلى الناس أن يرجعوا الى الأفكار التقدمية و الاشتراكية بالأسلوب الديمقراطي فهناك النجاح” … ثم انتهى بنا المطاف عن وضعه السكني في القامشلي, فقال:” إن فقراء الكرد بنوا لي منزلاً جميلاً جنوب جامع (قاسمو) و إني أشكرهم و لكني أعاتب أغنياء الكرد لأنهم لم يتعاونوا معي في ذلك” … و وعدته أن أزوره في بيته الجديد فرحب قائلاً:” أز ز ديندارى شهرزا حزدكم!!” أي /أنا أحب المتدينين المتحضرين/.
وتوقف “الأوتوماتريس” في (أخترين) لمدة ساعة فكانت فرصة سعيدة لمزيد من الحديث معه. كنت أقرأ في غضون وجهه الممتلىء الأشقر ملامح الذكاء و المودة و العفوية و شيئاً من الاستياء و البرم بالواقع الكردي, حيث قال لي فيما بعد:” إنه لا يعجبني أي حزب كردي الى الآن” و انتقد الأحزاب الصغيرة و الكبيرة و ضحالة منتسبيها فكرياً و سياسياً و دبلوماسياً و أكد أن الحالة الكردية حالة عقم و عجز و لا شك أن الواقع الدولي أيضاً ليس في صالح الكرد. ” و لكن علينا بإتاحة الدور للقلم” قال ذلك حين ذكرته ببيت شعر له يقول: (في سياق: شاهناما شهيدان)
قلم فيده دكه إيرو تو رابه – خوا شيرين ژ بو ته پر عذابه
شكرته في النهاية على الصدر الرحب و الصبر الجميل الذي يتصف به شاكراً مرافقه و معتذراً له على الإطالة بسبب عطشي إلى لقاء هذا الشخص الوطني الجليل إبن كردستان بامتياز و وعدته بزيارته في القامشلي و نزلت الى كوباني مع من معي.
ملی کرد
نقلا عن مدارات کرد
وتوقف “الأوتوماتريس” في (أخترين) لمدة ساعة فكانت فرصة سعيدة لمزيد من الحديث معه. كنت أقرأ في غضون وجهه الممتلىء الأشقر ملامح الذكاء و المودة و العفوية و شيئاً من الاستياء و البرم بالواقع الكردي, حيث قال لي فيما بعد:” إنه لا يعجبني أي حزب كردي الى الآن” و انتقد الأحزاب الصغيرة و الكبيرة و ضحالة منتسبيها فكرياً و سياسياً و دبلوماسياً و أكد أن الحالة الكردية حالة عقم و عجز و لا شك أن الواقع الدولي أيضاً ليس في صالح الكرد. ” و لكن علينا بإتاحة الدور للقلم” قال ذلك حين ذكرته ببيت شعر له يقول: (في سياق: شاهناما شهيدان)
قلم فيده دكه إيرو تو رابه – خوا شيرين ژ بو ته پر عذابه
شكرته في النهاية على الصدر الرحب و الصبر الجميل الذي يتصف به شاكراً مرافقه و معتذراً له على الإطالة بسبب عطشي إلى لقاء هذا الشخص الوطني الجليل إبن كردستان بامتياز و وعدته بزيارته في القامشلي و نزلت الى كوباني مع من معي.
ملی کرد
نقلا عن مدارات کرد