بين فترةٍ وأخرى تُقرع طبول الغمز واللمز والقيل والقال بين سكان إحدى المناطق أو إحدى القرى التابعة لها على شرف أسرةٍ أدخلتها قوانين العادات والتقاليد إلى متاهاتها المظلمة. لقد هربت ابنتهم مع ابن الفلان يا لعارها .
وتنشط خلايا المخ والمخيخ لدى الناس بسرعةٍ قياسية لتنسج حول الفتاة وأهلها عشرات القصص والأقاويل بدءاً من كيفية تعرّفها على الشّاب وانتهاء بهروبها معه مع ما يتوسط البداية والنّهاية من أحداث. ولتبدأ في تلك الأثناء محاكماتٌ صورية للأهل (أهل الفتاة طبعاً) الذين أهملوا تربية ابنتهم حينما رفعوا عنها قيود المحاسبة والعقوبات وعطلوا رادارات المراقبة والترصد صوبها.
أمّا الأهل المساكين فتنشبُ بينهم معركة عاتية من الاتهامات والمشاجرات وتلهو بهم أخيلة العار والمذلة فعلى الأب وحسب عرف العادات أن يقبع في داره لأيّام وأيّام وإن خرج لأمر ضروري فعليه أن يطأطئ الرّأس ويغضّ الطرف فشرفه مدنّس, والأمّ المنكوبة تظلّ تبكي وتنوح وتندب حظها العاثر والأمر ينطبقُ على باقي أفراد الأسرة.
أمّا الأهل (أقصد أهل الوالدين وخاصة أهل الوالد) يا للـهــــــووول يتوافدون فرادى وجماعات وهم يحملون قنابل موقوتة من اللوم والعتاب والتوبيخ والتنديد على والدي الفتاة لتقصيرهما في تربية ابنتهما وطبعاً المذنب الأوّل والضّحية الأولى تكون الأمّ حين تجد نفسها محاصرة بسهام ونبال الهرج والمرج المتصاعد من لهيب ألسنتهم وأفواههم كونها تُعتبرُسرّ ابنتها وكان من واجبها مراقبة تحرّكاتها وأحياناً – ولدفع التهمة عن نفسه- يشاطرهم والد الفتاة باتهاماتهم للأمّ حين يصرّح على الملأ إنّه غائبٌ عن البيت معظم الوقت والأمّ هي المسؤولة عن كلّ شؤون البيت والأسرة وهي أدرى بخفايا البنات وتصرّفاتهنّ وتحركاتهنّ .وتتحوّل حياة الأسرة إلى مأساةٍ ما بعدها مأساة وكذلك حياة الأهل وحتى بعض أفراد العشيرة الذين يثابرون على عقد جلساتٍ مغلقة وموسّعة ليتوصّلوا إلى صيغةٍ نهائية يحدّدون بها مصير الفتاة. ولأنّ أسرة الفتاة تصبح محط أنظار الناس الذين لا يوفرون جهداً في السّؤال والاستفسار عن أهلها من جدّهم الأوّل والأخير وينبشون في جذور شجرة العائلة والعشيرة وطبعاً هؤلاء الناس لا يتذكرون من محاسنهم شيئاً بل يركزون على ما قد تبدو مساوئ فقط.وتزداد الاتهامات حدّة أو تخفّ طبقاً لهوية الشّاب الخاطف ومستوى عائلته الاجتماعي والاقتصادي والطبقي وطبقاً لتدخلات الوسطاء والدّخلاء وانتماءاتهم.
نعم ما زالت الابنة والمرأة بشكل عام تعتبر شرف الرّجل والأهل عموماً وعرضهم دون التركيز على أمور أخرى تشكل صلب الشّرف والعرض.
نعم هذا ملخص ما هو حاصل على أرض الواقع إذا ارتكبت فتاة تصرّفاً يعتبر مشيناً ومخالفاً للعرف العام.
أوّلاً أحبّ أن أوضح للجميع أنّني لا أوافقُ الفتاة على تصرّفها أبداً ولا أحاول أن أبرّر لها فعلتها ما دامت تدركُ جيّداً العادات والأعراف التي تحاصرنا وتسيّرنا /فكراً ووجداناً وكينونة/ وكنتُ أتمنى عليها لو كانت تصرّح بحبّها لأهلها وتدافع عنه لا أن تضع أهلها في مثل هذا الموقف المحرج جدّاً وهي تدري سلفاً النتائج المأساوية التي ستجنيها هي وأهلها من تصرّفها هذا وثانياً لم أرغب في إثارة هذا الحدث لأجعله موضوعاً قابلاً للنقاش فيه إنّما أردتُ أن أجعل منه منطلقاً ومدخلاً لموضوع ما زلنا نعاني منه ومن تبعاته على الرّغم من ادعائنا التحضر الفكري والاجتماعي والمنهجي.
أجل ما زلنا نحاسب كلّ أفراد الأسرة على خطأ أو تصرّفٍ غير مرض يرتكبه أحد أفرادها ذكراً كان أم أنثى وإن كانت الأنثى تنال حصّة الأسد / كما يُقال/ كأن نحاسبَ كلّ أهل المقامر أو المهرّب أو مَنْ يتعاطى المخدّرات أو يرتكب أفعالاً مخالفة للأخلاق العامّة على ما ارتكبوها من أفعال وأقوال… أو نصدر أحكامنا المطلقة على أهل المرأة أو التابعين لهم على ما بدر منها. ألا يحق للبعض أن يسأل: ألم يحن الوقت الذي نحاسبُ فيه الإنسان كشخص وفرد مستقل وندع أهله أو المعنيين بأمره بحالهم؟؟!!
أيّ أبٍ أو أيّة أمّ يتمنى لابنه أو ابنته أن يقع في مستنقع الخطأ والرّذيلة؟؟ مَنْ من الأهل يرغبُ في أن يسلك أحد أبنائهم وبناتهم مسلكاً مخالفاً للعرف والقانون والأخلاق؟؟؟ إنّني واثقة أنّنا جميعاً مشتركون في هذه الآراء والأحكام بغضّ النظر عن انتماءاتنا الفكرية والمذهبية والثقافية وما زال كلام ذلك الشّخص الحامل لشهادة عليا والمعتبر نفسه في عداد المثقفين يدغدغ سمعي حين علق بالقول على طلاق أحد أقربائه لزوجته بعد أن ألصق بها أي (الزوج) تهمة مشينة: ( كيف سأخطبُ في المستقبل ابنة هذه المرأة لابني أو أعطي ابنتي لابنها وأنا أعرف جيّداً السّبب الذي كان وراء طلاقها؟؟!!) وشابّ آخر كان يبحثُ عن فتاةٍ ليخطبها فأشار إليه البعض على إحدى الفتيات وبعد أيّام فوجئوا بالشّاب يرفض التقدّم لخطبتها لأنّ سمعة جدّتها ومنذ أكثر من خمسين أو ستين عاماً كان قد غزاها بعض التشويش والأمثلة كثيرة لا تعدّ ولا تحصى.
لا تقولوا لي هذه حالاتٌ استثنائية أو نادرة بل هي الحالات السّائدة مع الأسف الشّديد
لماذا نحرقُ مشاعر الأهل والأقارب في لهيب تصرّفٍ طائش أو غير مسؤول من فتى أو فتاة مراهق أو أي فردٍ آخر لا يدرك عواقب ما يفعل أو لا يبالي؟؟
لا تتهموني بالتّرويج للإنحلال الأخلاقي من خلال التبرير للأسر المتجاوزة لحدود الأخلاق والعرف كما لاأتمنى أن يفهم من حديثي في هذا الموضوع تبرئة لذمّة الأهل والأسرة من تربية أبنائهم والاهتمام بهم ومراقبة تصرّفاتهم إنّما قصدتُ أن نتجاوز أعرافاً وجدنا أنفسنا في قوقعتها منذ أن تحّركت شرايين الوعي والإدراك في نفوسنا وضمائرنا ولكن ما نُلام عليه حقاً هو استسلامنا لها وعدم سعينا للحدّ من مؤثّراتها السّلبية أو إزالتها لأنّ ما أدعو إليه أوّلاً واقعيّ ومنطقيّ وثانياً هناك أمور أخرى تدخل في خانة الأخلاق والمبادئ لا بدّ لنا من مراعاتها والالتزام بها كطرق وأساليب المعاملة والمناقشة والحوار والجدل والصّفح والتسامح وعدم إطلاق الشّائعات الكاذبة والمسيئة على بعضنا على الآخر وعدم انتهاج سلوك الكذب والنفاق والافتراء.