وفي قسمات وجهه المنبسطة حيناً ، والمتقلصة أحياناً ،وفي كل حركة تبدر عنه ، يتضح
مدى ما بلغه من قلق واضطراب؛ فهو تارة يندفع بسرعة كثور هائج ،وقد تملكه الغضب،وتارة أخرى يسير بتراخ وكسل وقد زاغت عيناه في حلم ما ، أو يقف في بعض
صراخ خاني المكتوم يأتيه من داخل الغرفة حاداً ،مؤلماً ، فتجتاحه موجة من الحيرة والقلق
يود لو فعل شيئاً ما؛ يخفف به من عذاب خاني .. فلا يجد سوى الانتظار والترقب . ينسى الطفل قليلاً ويفكر في رفيقة دربه ،وما تعانيه من آلام المخاض ، فيتذكر قولها المعهود له،والذي كانت تكرره دائماً ، بمناسبة وبلا مناسبة :(أتدري يا سلو.. على الرغم من كل ما يقال عن آلام الوضع ، إلا أنني أتوق إلى تلك اللحظة ،ويقيناً أنني لن أصرخ ، أو أنَّ فيها ، بل سأضحك وأضحك ..ولكن آه..متى يا رب !!
يندفع نحو غرفة خاني ليقتحمها ، ويذكر زوجته بوعدها ؛ علَّها تكف قليلاً عن هذا الصراخ
الذي يمزق نياط قلبه ، إلا أنه أحس بالخجل ، فانكفأ راجعاً.
في مكان غير بعيد عن غرفة خاني ، قرفص بانكسار وقد هدَّه الانتظار والقلق . أشعل لنفسه سيجارة ، عبَّ منها أنفاساً عميقة ومتلاحقة، فتكاثفت أمامه وفوقه سحب من الدخان الأزرق
التي تماوجت ، وانداحت وهي ترتفع في الأعلى ، ثم تتبدد بعد أن اتخذت أشكالاً مختلفة في
الفضاء ، راح يتأملها ويتخيل من خلالها صورة طفله المنتظر ..مُطلقاً العنان لمخيلته ، التي
راحت تنمي الطفل بسرعة ضوئية عجيبة ؛ فها هو وليد يُداعبه في المهد ، وها هو يافع يتردد
على المدرسة ، وهو ذا شاب وعريس في ليلة عرسه ، ورجل يعتمد عليه : إنه ابنه ..ابن سلو الذي سيكون مفخرة البلدة ، كيف لا ؟ وهو سيصبح طبيباً مشهوراً !! سيشير إليه الجميع بالبنان وهم يقرصون أولادهم ويقولون : انظر ..انظروا إلى ابن سلو ..انظروا أي رجل عظيم
قد صار !!
ينتفض فجأة كالمصعوق ، يفغر فمه غير مصدق وصرخة الوليد التي سمعها للتو تتردد في أذنيه ، أتاه الصوت بعيداً وعميقاً ، وبلهفة وخجل أخذ يقترب من الباب . كل مسامة في جسده
تحولت إلى أذن ، أو آذان صاغية ، وعيناه ترقبان خروج إحدى النسوة من غرفة خاني
حاملة البشرى ، وسمع صراخ الطفل مرة أخرى يأتيه من غرفة خاني : واق..واق .
ذهل ، تسمرت قدماه . أحسن بقشعريرة سارة وغريبة تدغدغ أعصابه ، كانت نشوة غامرة قد سرت في دمه ، ملأت كيانه وأسكت لبه، وبفرح طفولي طاغ أراد أن يغني ، ويرقص..أن
يصلي حمداً وشكراً لله، وأن .. تزاحمت في رأسه وصدره أسراب من الأفكار والمشاعر الجياشة . أحس بنفسه خفيفاً يحلق عالياً في أجواز الفضاء ، يفترش غيمة وردية سابحة . يتربع مع طفله على قمة جبل سيروان وكولان ،وكل حلبجه تشخص بأبصارها نحوهما ، متهللة ، متعجبة .
إحساس غريب بدأ يتسلل إلى داخله في تلك اللحظة ، والتي بدت فيها أسراب من الطائرات
تتقدم نحو البلدة كالعقبان الهائجة وهي تهدر بجنون ، لم يلحظها سلو ، أو يحس بوجودها، بل
أحس بالضيق ، وبالاختناق ،والغثيان ، فتذكر ،وهو على تلك الحال ، تحذير الناس له من نتيجة الفرح المفاجئ ، والذي قد يودي بعقله . ضحك في سره ، وأكد بأن الأمر لا بد أن يكون كذلك .
غامت الدنيا أمام عينيه . بهت كل شيء أمام ناظريه ،أحس بالدوار، وبرائحة نافذة وحادة ، تشبه رائحة الثوم ، قد بدأت تتسلل إلى أنفه ، وتخترق جمجمته . سدَّ منخريه وهو يتساءل بضيق وقرف : من أين هجمت عليه هذه الرائحة ؟! هذه الرائحة التي طالما كرهها منذ صغره، فكان يمتنع عن تناول أي طعام يحتوي على هذه المادة ، حتى خاني حرم عليها
تناول الثوم ، إذا صادف وتناولته وشم رائحته من فمها ، فإنه لا بد أن يخاصمها ، ويدير لها
ظهره طوال الليل . بدأت قواه تخور ، فلقد أحس بخدر يسري في عروقه ،وثقل يشل لسانه ،وغبش يعمي بصره. ترنح قليلاً في صحن الدار، تلوى ، سقط، ثم اعتدل ، حاول أن يمشي
تخبط ، أخذ يجول ببصره فيما حوله ، فتح عينيه على اتساعهما،ولكن لا شيء واضح لعينيه
السواد شمل كل شيء، والطائرات حجبت ضوء الشمس عن البلدة، وهي تصدر هديراً مرعباً
يصم الآذان . حملق في السماء بصعوبة ، فتبين له ،ومن خلال الغبش المنسدل على عينيه وحوش حديدية تحوم فوقه ، وهي تنعق هادرة ، أرعبه هذا المشهد والذي جعله يوقن بدنو أجله ، فالطائرات ،كما عهدها ،لا تحلق في سماء وطنه إلا لتحصد الناس ،وتزرع الموت في كل ركن ،وكل حي ،أراد أن يلعن بأعلى صوته، أن يستنجد ، أراد يطلق صرخة مدوية،تصل
إلى كل أصقاع الأرض ، وإلى الرب في عليائه ، عسى أن يهرع أحد إلى نجدته ، استجمع في
حنجرته كل ما فيه من قوة وعزيمة و صاح : هوااااااار…
فندت عنه صرخة واهنة .وبصعوبة بالغة شدَّ قامته لتنتصب ، وبكل حقد وتحد، أرسل نظراته الملتهبة ،والساخطة نحو الطائرات التي ولت هاربة ككلاب مسعورة، بعد أن أفرغت ما في
جوفها من سموم !!