فقط… فنجان من الشاي

شهناز شيخه

” في حضرة الحزن .. أمام صمته وجبروته … تتعرى الجريمة … لتظهر بكل قبحها .. وبشاعتها .. تستحم بجثث بيضاء .. وتشتعل .. هكذا ..هكذا .. أمام عيوننا .. تماماً … كالجحيم ! انه الزمن .. يدق من جديد .. يحمل بين ذراعيه .. جراحنا .. آه يا جراحنا ما أعمقك .. و آه .. يا جراحنا ما أكثرك .. و نحن .. الذين ولدنا بشراً .. و لم نعش أبداً حياة بشر .. نغني للموت .. في ذكرى ميلاد الموت !”

بتلك الكلمات بدأ (عمر) صفحة أخرى في دفتر مذكراته .. قبل أن يمضي إلى الكلية .. و كان التاريخ مبيناً في مقدمة الصفحة: اليوم الاثنين: السادس عشر من آذار.
كان الوقت صباحاً .. ” الحياة شيء جميل” قال عمر في نفسه و هو يشاهد عدداً من الأطفال يذهبون مسرعين إلى مدارسهم …ابتسم “لا شك بأنهم متأخرون”…”الحياة شيء جميل ” قالها وهو يتجاوز شجرة ورد تحمل الكثير من البراعم ..وتوقف قليلا ًعند العم أبو محمود بائع السحلب..اشترى منه كأساً لكن أحشاءه المليئة بالحزن في ذلك اليوم بالذات رفضت تناوله ..عندها شكر العم الطيب وأكمل طريقه ..”الحياة شيء جميل ” فلماذا إذاً يولد الطغاة ؟لماذا يريدون أن يشوهوا جمال الحياة ؟  
أشياء كثيرة ..أفكار كثيرة كانت تضج في عقل عمر وهو يتذكر ..في كل خطوة يتذكر ..ترتسم أمام خطواته صور كثيرة ..لأطفال صغار ..لا يتحركون لا يبتسمون ..لايتنفسون  رغم أنهم لم يولدوا كذلك …
  وصل عمر إلى مبنى الكلية صعد الدرج بخطى شاردة ..و…آه إنه الدكتور  منيرالذي يحبه عمر ويحترمه كثيراً ..
صباح الخير دكتور
صباح الخير عمر..كيف الحال؟
الحمد لله
عمر..تعال إلى مكتبي
إ..إ…حاضر دكتور
ولكن ما الأمر ..صحيح إن عمر يتردد إلى مكتب الدكتور أحياناً للسؤال عن بعض النقاط ..وصحيح أنه اختار اختصاص الدبلوماسية..لشدة حبه لهذا الدكتور و إكراماً لعينيه ولكن أن يدعوه إلى مكتبه …!؟
– اجلس يا عمر ..
– شكراً دكتور
– ما أخبار الدراسة
– جيدة ..الحمد لله
– حسناً يا عمر سوف تتناول معي فنجاناً من الشاي
(ولكن موعد !!..الحداد !!..زملائي)
ولكن يا دكتور لدي محاضرة هامة جداً..تشريع ضريبي ..وعليّ أن أحضرها ..شكراً لك
لا..لا..ستتناول معي فنجان من الشاي..
“ياإلهي ليس من عادته دعوتي لتناول الشاي أو غيره..ما الأمر  ؟!”
–  ولكن عذرا ًدكتور لا  استطيع
– وفجأة تغيرت اللوحة الهادئة المرسومة على وجه الدكتور وخاطبه
بلهجة حادة آمرة..
–  عمر ألا يوجد لديكم مناسبة معينة في هذا اليوم ؟
– مناسبة !.. أية مناسبة ؟
–  ألم يخبرك الشباب ؟
– أي شباب ؟ وبما يخبروني ؟ لا أفهم ما تعنيه يا دكتور ؟
–  بل تفهم .. وتعرف ..أليست اليوم ذكرى ..حـــ..لبجة؟
–  عفواً يا دكتور .. أنا أعرف ذلك دون أن يعلمني أحد ..
–  اسمع.. عليك أن تنتبه إلى أنك من عين العرب .. وأن تتنبه إلى كلمتي عين و العرب لتدرك أنه لا وجود لاعتبارك…بل لتدرك بأنه لا وجود لكم أساساً في تلك المنطقة عندها أحس عمر بتلك الصورة الجميلة لذلك الأستاذ وهي تتحطم..وتلك البراءة التي يتمتع بها خيال عمر و التي رسمت لذلك الأستاذ وجهاً ملائكياً..تلك البراءة أحست بالخجل أمامه وهو يرى أستاذه المقدس يتكلم بهذه اللهجة المليئة بالسخرية عن قومه ..لم ينتظر منه يوماً أن يذكرهم بالخير..أو يمدح عظماء من أجداده بذلوا دماءهم في سبيل الوطن ..لم ينتظر منه ذلك ..لكنه لم ينتظر منه أيضاً أن يسخر منهم بهذه الطريقة ..ولكن تلك الضربة المؤلمة لم تكن مميتة ..إنما أيقظت عمر و أزاحت وشاح المحبة عن ذلك الشخص الغريب الأطوار .. الذي طالما أحبه عمر بكل جوارحه ..
–  عفواً يا دكتور و لكنك تدرك تماماً إن تسمية عين العرب هي على الورق فقط و أن الاسم الأصلي لهذه المنطقة هو (كوباني) أي المرتفع .. أما قصة وجودنا فأنت لا تستطيع أن تغير بكلمة أو بلافتة صغيرة ..ديموغرافيا تلك المنطقة .. إن التاريخ و الجغرافيا و الديموغرافيا .. كلها محفورة في صدورنا جيلاً بعد جيل و لا يمكن محوها .. و لا يمكن أن تزول مهما تعرضت للتشويه .. حاول يا دكتور أن تجري إحصاءاً حقيقياً لسكان عين العرب و أنا أجزم لك بأنك قد لا تجد أكثر من عائلة أو اثنتين ليسوا أكراد .. و هؤلاء أيضاً ستجدهم يتكلمون الكردية لأنهم أحبونا ولأننا أحببناهم ..
–  يبدو أنك نسيت نفسك يا طالب ..
–  عفواً .. ولكنني في هذه اللحظة تماماً أدرك بأني طالب حقوق .. و بأن من حقي الدفاع عن كرامتي إذا ما تعرضت للإهانة ..و أنت تدرك بأن القانون يكفل لي هذا الحق..
و حاول الدكتور ضبط أعصابه :
–  عمر ..أنت شابٌ طموح وأنت على أبواب التخرج حاول أن تقف معنا وليس ضدنا
–  و لكننا لسنا في معركة ..لماذا بدل أن نقف بعضنا في مواجهة الآخر ..لماذا لا نقف في وجه أعدائنا الحقيقيين أعداء العدالة و الإنسانية ..أعداء وطننا ..نريد أن نعيش معاً بسلام ..و. . بحب   .. التاريخ يشهد أننا لم نكن يوماً أعداءً لقد حاربنا معاً الاستعمار.. حاربنا العثمانيين ..حاربنا الفرنسيين رغم إغرائهم لنا بإعطائنا امتيازات إن نحن وقفنا معهم ..وتشهد ثورة عامودا ..يشهد هنانو ويوسف العظمة ..تشهد أرواح أجدادنا أننا أبينا الخيانة لأننا ولدنا أحراراً .. حاربنا الإستعمارالانكليزي قبل ذلك و فتحنا القدس تحت راية صلاح الدين الذي كان شعاره (الدين لله ..و الوطن للجميع) و اتخذنا من مبادئه مُثُلاً لنا .. لطالما قال : إن الحياة تتسع للجميع و إن الحرب  ليست قانون الحياة .. فلماذا إذاً تريد أن تصنع من وجودنا حرباً ومن تآخينا معركةً ودماءً.. 
–  مسألة الوقوف هذه أليست ضد أمن الوطن ؟
–  الوقوف خمسة دقائق بصمت ..بحزن  ..جريمة ضد أمن الوطن !؟
الوقوف خمسة دقائق كي لا ينسى العالم بشراً قتلوا بالخردل دون أي ذنب
سوى أنهم ولدوا أكراداً جريمة ضد أمن الوطن..! الوقوف من أجل أرواح بريئة لم تدخل حرباً ولم تمسك سلاحاً جريمة ضد أمن الوطن ؟!
في تلك الأثناء كان أحد أفراد الهيئة الإدارية قد انضم إلى تلك الجلسة وقاطع عمر قائلاً :
–  هذا الكلام سيضر بك كثيراً
 وانتبه عمر إلى وجود الشخص الآخر فرد عليه :
– من فضلك .. أنا أتحدث إلى أستاذي !!.
وكم سخر عمر من أشياء لم يميزها في أعماقه ولكنه أكمل
: أستاذي الذي طالما بحتُ له بكل ما يختلج في نفسي وطالما حدثته عن أملي في أن أكون عضواً يخدم الوطن ..إنه شأن بيني وبين أستاذي !!وأنا لم أتعود إلا الصراحة مع ..أستاذي ..؟!
” ألو ..اسمع ..الطالب الذي يخرج الآن من أي مدرج .. تأخذ بطاقته وأي مظهر من مظاهر الوقوف أو الحداد يجب أن يلغى ولو بالعنف ..”
وأغلق الدكتور منير سماعة الهاتف .
الهواء يختنق في الغرفة ..وكأنها امتلأت خردلاً ..والصورة المحطمة لمنير تكمل تحولها عند عمر إلى أشياء مريعة ..مرعبة ..أشباح مؤذية بأنياب ضخمة ..ولسان ينفث ناراً ..te xwe  geleki esand bi van gotinen xwe
 .. هل .. هل أنت كردي ..!؟
لا .. لكنني بقيت سنة هناك في الجزيرة تمكنت خلالها من إتقان هذه اللغة
..أقصد اللهجة .
لا يا دكتور إنها لغة لها  قواعدها .. لها أحرفها الصوتية والصامتة ..إنها لغةٌ قويةٌ قوة الجودي .. عميقة عمق وان .. جميلة جمال بوطان والجزيرة ..ساحرة سحر عفرين وكوباني .
خرج عمر وهو يغلق الباب .. خرج تعباً ..قوياًً نزل الدرج بخطى شاردة ..لحقه زملاؤه الذين كانوا في انتظاره .. نظر إليهم بعينين دامعتين مليئتين بالحب وقال :
حلبجة لن تنسى يا أصدقائي .. في كل عام سنذرف دمعةً على قبرها .. عندها ستنتش من جديد وبينما هو يتحدث إلى زملائه مر الدكتور منير .. فناداه عمر: دكتور هل تسمح لنا أن نقف في الثامن عشر من نيسان أمام مبنى الكلية .
واستغرب الدكتور وسأل باحتقار : ولماذا؟ ؟
أجاب عمر :لحظة صمت.. كي لا تنسى قانا ! ارتبك الأستاذ وأنهى الموقف بالانصراف…
ماذا حدث يا عمر ؟ (سأله أحد زملائه) 
ماذا كان يريد منك الدكتور منير  ؟
التفت إليهم عمر .. ضحك .. ببراءته المعهودة ..
لاشيء ..دعاني  فقط..لتناول فنجانٍ .. من الشاي !!

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…