سباق الخُطب الرنانة

غسان جانكير

حدثنا العطال البطال قال : لما طال أمد الثورة, والناس على رحيل المافيا مُصرّة, توّاقة للخلاص من نظام بات على الألسن مسخرة, وكي لا يتزحزح عن الكرسي قيد شعرة, ألزم أبواقه ترويج نظرية المؤامرة, التي (خططت لها كائنات في كواكب المجرة) , و كانت وسائله للدعاية الصفراء مُضطرة, تدّعي سيطرة النظام على كلّ المناطق , ويتسابق في ترويجها كل أفّاقٍ مُنافق, وتُحوّر مجازرها بحق المدنيين, بأنها قتلت مجاميع الإرهابيين, و تتغاضى عن غباء صورايخ السكود, و عمّا تعانيه أعمال الناس من ركود, و تتباهى بقوانين الحكومة المُشجّعة للسياحة, وتتعامى عن أنّ في كلِّ حارة و قرية مناحة, و تُفرد عن أنشطة دار الأوبرا الصحائف, و لا تُبالي بهرب الناس من القذائف .
و لمّا ضاقت بيّ سُبل العيش, و فقدتُ الأمل في حكومة لا يُعرف عنها سوى الطيش, لجئت إلى ما خبأته من المُدخّرات, وهي في الحقيقة بعض الشياه والعنزات, واقتصدتُ فيما تُلزمُني الصرفيات, وانقطعت عن أصحابي في السهرات, أتلهّف لرؤيتهم أيام الجُمع في المظاهرات .
وبينا أسير في الشارع العام , في خطوات تفتقد الانتظام, وبحركات افعوانية أمر بين أكوام الزبالة, خشية أنّ يتّسخ مداسي الذي أخذته من البالة, أو أفقد توازني من كثرة النطّ و الإمالة, وإذ بسيارة مُفيّمة تزعُقني ببوقها, وتكاد تصدم مؤخرتي بطبونها, فألتفتُّ لأستبين الأرعن الذي بيده مقودها, لاعناً مَن أعطاه رُخصة القيادة أو جددها, فرأيت النافذة تُنزل بشكل أوتوماتيكي, واصطكت مِن الشدهة حَنَكي, وإذ أبو مُخطة يُقهقه ملء شدقيه, وطرِباً يُصفق بكفيه, وبعد السلام وتبويس الخدود, أشار لي بالصعود مُستمرا في القهقهة كما القرود, ولمّا استكان ورجع اليه الوقار, وعدّل ربطة عنقه التي تشبه رسن الحمار, طلب مني أبو مُخطة السمسار, أنّ نتناقش في بعض الأمور, فقلت : بكل سرور, هلمّ بنا إلى المُظاهرة, هي على وشك الانطلاق, تجوبُ أصداءها الآفاق, بشكلٍ أسرع من البُراق. قال : أنا مشغولٌ هذه الساعة , ولن أأخذ من وقتك سوى ربع ساعة. قُلت : هات ما عندك, ويسّر الله لك غدك, قال : مُحدّثُك أصبح عضواً في اللجنة المركزية , و مُتحدّثٌ بارع في اللقاءات الجماهيرية, خُطبي ذات أفكار وليدة, تستقرىء ملامح المستقبل البعيدة, فيها دُرر الألفاظ, يُرددها الناس في النوم والإيقاظ, وتفعل مفاعيل سهام الألحاظ, ترتجّ لها القاعات, لا يُملُّ منها إن طالت لساعات .
قُلت : الويل لك .. لا أبا لك , مِن أين لك علمٌ بالإيجاز , حتى تُفتن المتلقين بالإعجاز ,
قال : كاتبٌ كان يُسعفني بالخُطب , راضٍ بأُعطياتي و مؤدب, وجُعبته من ألفاظ المُراوغة لا تنضب, فحسدني عليه الحزب المنافس, وبذل له الدراهم والنفائس, ولم يزل به حتى تركني, وفي الوسط السياسي هتكني, فهلا دليتني على كاتبٍ لا يخونني أو يتركني .  
Ghassan.can@gmail.com

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

دريس سالم

 

«إلى تلك المرأة،

التي تُلقّبُني بربيع القلب..

إلى الذين رحلوا عني

كيف تمكّنْتُ أنا أيضاً على الهروب

لا أريدُ سوى أن أرحلَ من نفسي…».

يفتتح الشاعر الكوردي، ميران أحمد، كتابه «طابق عُلويّ»، بإهداء مليء بالحميمية، ملطّخ بالفَقد، يفتتحه من قلب الفَقد، لا من عتبة الحبّ، يخاطب فيه امرأة منحته الحبّ والحياة، لقّبته «ربيع القلب». لكن ما يُروى ليس نشوة…

علي شمدين

المقدمة:

لقد تعرفت على الكاتب حليم يوسف أول مرّة في أواخر التسعينات من القرن المنصرم، وذلك خلال مشاركته في الندوات الثقافية الشهرية التي كنا نقيمها في الإعلام المركزي للحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا، داخل قبو أرضي بحي الآشورية بمدينة القامشلي باسم ندوة (المثقف التقدمي)، والتي كانت تحضره نخبة من مثقفي الجزيرة وكتابها ومن مختلف…

تنكزار ماريني

 

فرانز كافكا، أحد أكثر الكتّاب تأثيرًا في القرن العشرين، وُلِد في 3 يوليو 1883 في براغ وتوفي في 3 يونيو 1924. يُعرف بقصصه السريالية وغالبًا ما تكون كئيبة، التي تسلط الضوء على موضوعات مركزية مثل الاغتراب والهوية وعبثية الوجود. ومن المميز في أعمال كافكا، النظرة المعقدة والمتعددة الأوجه للعلاقات بين الرجال والنساء.

ظروف كافكا الشخصية…

إبراهيم اليوسف

مجموعة “طائر في الجهة الأخرى” للشاعرة فاتن حمودي، الصادرة عن “رياض الريس للكتب والنشر، بيروت”، في طبعتها الأولى، أبريل 2025، في 150 صفحة، ليست مجرّد نصوص شعرية، بل خريطة اضطراب لغويّ تُشكّل الذات من شظايا الغياب. التجربة لدى الشاعرة لا تُقدَّم ضمن صور متماسكة، بل تُقطّع في بنية كولاجية، يُعاد ترتيبها عبر مجازٍ يشبه…