حتى آخر مقاتل بالقلم

   فرمـان بونجــق

ذات يوم , كنا نكوّر الحروف في تلافيف ريّش أقلامنا , فتتساقط قطرات قطرات , لا يبرحها الندى حتى ترتسم جسد المفردة التي نشاء , فتأتي أحياناً كما لا نشتهيها , نتبرأ منها تارةً , نضحك منها , أو نضحك معها ,  و نخسِفها تارات و تارات على عجل . هكذا مضت المواضي , حتى أمسكنا بلجام اللحظة , لنمتطي صهوة ذات الحروف , حرفاً حرفاً , نسوقها قدامنا كما نشاء و نبتغي , في رحلة تململها , تأرجحها ، تذمرها , ثم ارتعاشة استسلامها الأخيرة , فنستأنس لها , و نستأنس بها , كأخٍ شقيق , و أُختٍ شقيقة .
كنا ذات يوم , نحاول أن نكسب ودّ الكلمة , نجانس بينها وبين ذواتنا , عواطف و مشاعر, قناعات و رؤى , نحاول صهر الذات مع وقارها , تلك التي لم تعد تجفل منّا , نهمس لها , ننفخ في أوتارها , فتظهر لنا الحنين المشوب بالشغف , حتى أتت تلك اللحظات الخالدات , ونحن نقبض على جوهر الزمان فيها , فنتلو عليها آياتنا المحكمات , و هي صاغرة دون حراك .
 كذات اليوم , يأتي اليومَ يومٌ , تزمجر فيه أصابع غضّة في وجه ذات القلم , فتتحسس متنه الرشيق , يأبى أن ينصاع , يتمرد مراراً و مراراً , ينزق ، يشاكس , ولكنه لا يملك إلاّ أن يلين , فيسيل لعابه الندي على القرطاس في لحظة الشوق , لتبدأ رحلة العناق الرهيب , كرهبة ولادة الخلق على أديم كونــــــ “ه” المتصل باللاحدود و اللانهاية .
 يومٌ مبجلٌ كهذا , يولد فيه قلمٌ و عقل نقي , تلكم قصة التآخي بين ما هو مرئي و غير مرئي , لحظة اندماج الحاضر الغائب , بالغائب الحاضر , حيث تستحضر روح المبدع أرواح أقرانه الأولين , فيحاكيها كما يجب أن تحاكى , و يقدم لها الوفاء كما يجب أن تُوفى , و يستعير من إشراقتها التي لا تخبو أبداً أبداً …
 من الأوان الذي لا يتكرر كثيراً , من حيرة الجَزع التي تنفلت من عقالها , من الريشة الصمّاء التي تجيد لغات العالم , لغةً لغةً , أنّى جاءت , يعلن الزمن أن العقل البشري معطاءٌ دون غايةٍ و دون سبب , و لكنه يرجّح للقارئ و السامع ، أن هناك في قلب الحيرة هدف , وسيبقى كذلك حتى آخر مقاتل بالقلم .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

تنكزار ماريني

 

فرانز كافكا، أحد أكثر الكتّاب تأثيرًا في القرن العشرين، وُلِد في 3 يوليو 1883 في براغ وتوفي في 3 يونيو 1924. يُعرف بقصصه السريالية وغالبًا ما تكون كئيبة، التي تسلط الضوء على موضوعات مركزية مثل الاغتراب والهوية وعبثية الوجود. ومن المميز في أعمال كافكا، النظرة المعقدة والمتعددة الأوجه للعلاقات بين الرجال والنساء.

ظروف كافكا الشخصية…

إبراهيم اليوسف

مجموعة “طائر في الجهة الأخرى” للشاعرة فاتن حمودي، الصادرة عن “رياض الريس للكتب والنشر، بيروت”، في طبعتها الأولى، أبريل 2025، في 150 صفحة، ليست مجرّد نصوص شعرية، بل خريطة اضطراب لغويّ تُشكّل الذات من شظايا الغياب. التجربة لدى الشاعرة لا تُقدَّم ضمن صور متماسكة، بل تُقطّع في بنية كولاجية، يُعاد ترتيبها عبر مجازٍ يشبه…

ماهين شيخاني.

 

وصلتُ إلى المدينة في الصباح، قرابة التاسعة، بعد رحلة طويلة من الانتظار… أكثر مما هي من التنقل. كنت متعبًا، لكن موعدي مع جهاز الرنين المغناطيسي لا ينتظر، ذاك الجهاز الذي – دون مبالغة – صار يعرف عمودي الفقري أكثر مما أعرفه أنا.

ترجّلتُ من الحافلة ألهث كما لو أنني خرجتُ للتو من سباق قريتنا الريفي،…

إبراهيم سمو

عالية بيازيد وشهود القصيدة: مرافعةٌ في هشاشة الشاعر:

تُقدِّم الكاتبة والباحثة عالية بيازيد، في تصديرها لأعمال زوجها الشاعر سعيد تحسين، شهادةً تتجاوز البُعد العاطفي أو التوثيقي، لتتحوّل إلى مدخل تأويلي عميق لفهم تجربة شاعر طالما كانت قصائده مرآةً لحياته الداخلية.
لا تظهر بيازيد في هذه الشهادة كامرأة تشاركه الحياة فحسب، بل كـ”صندوق أسود” يحتفظ…