إبراهيم محمود القلم والألم

د. محمود عباس

لا يخلى محفل من محافل النقد والبحث في الأدب العربي الحديث من يراع المفكرين الكرد المعروفين أمثال عبدالواحد علواني وإبراهيم محمود، أقلام مميزة لهم حضورهم في مجالس البحث الفكري والأدبي، ضربت بهم الأمثلة لمواقفهم وأساليبهم في الكتابة وعمق النقد والتحليل، تذكرهم الإعلام العربي  المقروء بكل عمق. وهنا أود أن أبحث عن إبراهيم محمود ووجوده على الساحة الثقافية الكردية والتي لا تنفصل عن المجالات السياسية، الكاتب الذي برزت يراعه ومفاهيمه وإنتقاداته  في وجه  الأحزاب الكردية وأساليب نضالهم في غرب كردستان، خلق الباحث إبراهيم على مدى سنوات طويلة جدالات متنوعة فكرية وسياسية وفلسفية في الوسط الثقافي والسياسي،
كثيراً ما كانت كلمته مدوية في الإعلام الكردي، ولم تكن سويتها أقل من صداها في مجال النقد  والفكر الفلسفي في العالم العربي، أبتعاده في الفترة الأخيرة عن المواقع  الكردية ومواجهة  الثقافة الموبوءة المسيطرة على الأجواء الثقافية والسياسية والإجتماعية خسارة للمجتمع الكردي، سوف تنتبه إليها الشريحتين الثقافية والسياسية  قريباً.
   يتكاثر في المجتمع الكردي أعداد المارقين والسفهاء من السياسيين والكتاب، الأقلام التي تنقب كثيرة، لكن معظمهم يكتبون وينتهون لا يهمهم إن أحدثوا تغييراً في المجتمع أم لم يحدثوا،  فالأغلبية تبحث عن ذاتها، لا تكتب  لغاية التغيير الكلي ومعالجة الخلل في الواقع الثقافي والسياسي، وتصحيح مسار الثقافة العامة، يتمرغون في الصراعات  من منطق الفكر المطلق لا التحليل والبحث وإيجاد الأفضل، أقلام العديد منهم كالخطوط على رمال البحر، أما مثال المفكر إبراهيم  محمود  ينقشون في الصخر، فغيابه في الأونة الأخيرة عن الساحة الثقافية الكردية خسارة للمجتمع عامة  وللحراكين الثقافي والسياسي خاصة، وبودنا أن نذكره بأن المفكرون الحقيقيون هم الذين لا يرهقون في المعركة ضد الإنتهازيين، لذلك فهم أكثر الناس يتعذبون، فهم الأنقياء والجادون في حمل أعباء الأمة الفكرية والثقافية، بصدق وضمير، كثيرون من الحركة الثقافية يحاولون حملها لكنهم  بدون مساعدة ومساندة جماعية ومن كل الأطراف سيكونون أضعف من أن يواجهوا المآىسي التي تنشرها الثقافة الموبوءة حاضراً والتي تبحر في أجوائها السياسيين الإنتهازيين، هؤلاء الذين قضوا نصف قرن  في الشحادة أمام دوائر الطغاة، والطاعة لأولياء الأمر من السلطة الشمولية، والذين لا يتوانون من القضاء على كل قلم نقي يقف في دروبهم، وإزالة  كل من فضح حراكهم بنقد أو توجيه لنضالهم، ولا أريد أن أذكر هنا الأسماء.
   إبراهيم محمود القلم النابع من فكر واسع الأبعاد يجب أن لايبخل على الكرد بيراعه، رغم أنني أحس بكلية المعاناة وقساوة الحياة التي لا تغادره، وتأبى أن تتركه بدون رفقة، وقد لمستها بمطلقها يوم دخلت عليه ضيفاً بمرافقة الأخ الأديب كوني رش الذي عرفني به في مكتبته في القامشلي، عام 1999 وكنت برفقة رفيقة العمر الشاعرة أفين إبراهيم. لحظات من العمر تترسخ في الذاكرة بكليتها، بكل تفاصيلها، ولقائي بالأديب كوني رش عن طريق صديق الطفولة شعلان يوسف، وبالمفكر والناقد إبراهيم محمود فيما بعد كانت بعد غياب عن الوطن طال عقدين من الزمن، وكان ذلك آخر  لقاء لي بهم جميعاً وذلك بسبب البعد الثاني عن الوطن منذ حينها، علماً ان القلم  يجمعنا والرسائل تربطنا، حتى ولو كانت متباعدة، لكنهم حاضروا الوجود، وإبراهيم محمود من المفكرين الذين يبحث المجتمع المثقف عن كتاباته في الزوايا المعتمة لينير بها لحظة التيه في الفكر.
  أكتب خلال الفترات القصيرة التي أسرقها من العمل المخالف للواقع الفكري، والذي يزداد سوءاً في وقت كان يمدني بالكثير، مادة وثقافة وراحة فكرية، أكتب لأنني أرى: أن الثقافة المهترئة تحوم المجتمع ويجب أن تتبدل، والحركة الثقافية  بدون مشاركة الكل المقتدر لا تقوى على التغيير. أكتب لأن الواقع السياسي غارق في الدونية ومفاهيم الذل والإستجداء، وتتمرغ تحت سيطرة أجندات خارجية، ومفاهيم  مَنْ مِنء الأعداء يقدمون الأفضل عند الشحادة، وبدون وجود أقلام كيراع باحثنا الكردي الحاد في النقد والتنبيه فإن معظم الحراك السياسي سيغرق في هذه الثقافة وهم متلذذون بها ويتفاخرون في التعامل على سويتها، وسيجدون إلغاء الأخر المخالف لهم سياسةً وتكتيكاً لا بد منه، مثلما هي التشبث بالشخصية الحزبية غاية النضال على حساب الشخصية الوطنية، وهنا أقول: الشهور التي غاب فيها الكاتب إبراهيم محمود عن الساحة الكردية، وفي فترة الثورة السورية وحيث الشعب غارق فيه بكليته، وعلى الجميع المدرك أن يعمل قدر المستطاع، عمل يجب ان يحاسب عليه، فالكاتب عندما يصل إلى سويته لا يعد ملكاً لذاته بل يصبح ملك  شعبه ومجتمعه، فهو النبع الذي يجب ان لا ينضب بالعطاء. إنه واجب مطلوب من ناقد وباحث من أمثال ناقدنا المشار إليه أكثر من الآخرين، الإبتعاد عن الساحة الثقافية عند المقدرة دليل على علة، وعلة الإبتعاد عن مواجهة الإنتهازيين السياسيين تعفف،  كثيرة هي الأقلام المثلومة وكذا السياسيون التائهون، الذين لا  يملكون الرؤية ولا الفكر في معرفة الواقع الحقيقي،  يبحثون في القشور من الأمور، ويعالجون الفتات الملقية على أطراف الطاولة، الخربشة لدى الكثيرين ثقافة وفكر، ومصارعة الآخر سياسياً على الثانويات من الأمور يرونها بحوث في المبادئ، مجموعات تحتاج إلى تعديل فكري  وثقافي وأساليب سياسية مغايرة في النضال قبل تغيير المجتمع.
    الكتاب والمثقفون الذين يتعرضون إلى التهجم من قبل الأحزاب السياسية أو من الأقلام التابعة لتلك الأطراف بجموديتها، هي أعمق الأقلام  تاثيراً، لا شك أننا نستثني هنا الصراعات الضحلة التي تظهر على القشور، ولا تخدم سوى حضور الذات، ولا تفيد العمق الثقافي والبعد الفكري السياسي.  تعرض العديد من الكتاب الكرد والباحث إبراهيم محمود من ضمنهم،  لمهاترات دونية وسفاهات  وصلت إلى سوية كلمات بذيئة ومقالات هجومية متنوعة، ولا نود هنا ذكر الأسماء، يحطاط المثقف الهادف جاهداً تجنب الإنزلاق فيها.  أرى القلم  الذي لا يعرف سوى الدونية في النقد لا يستحق الجدال، من الملاحظ  أن بعضاً من كتابنا يغادرون الساحة  لضحالة النقاشات، والمفكر إبراهيم محمود من الذين أختصروا الطريق بالإبتعاد، وتركوا المجابهة،  فامثاله قلما يغادرونها،  بل لديهم فترات استراحات، لديهم  حساسية عميقة الأبعاد، وألمٌ حادٌ في الفكر والنفس،  لا يشعرون به إلا الذين يملكون قدرة الرؤية فيما وراء الوعي،  ومن السهل لهم البحث في زوايا اللاشعور، المفكر يكتب عندما يعاني، ويعاني الماً وصراعا داخلياً عندما ينقل الفكر إلى الصفحة، لأنها تكون عصارة نتاج ثقافة منقاة من مجالات واسعة الأبعاد.
  سمعت عن وضعه، وهجرته نحو الشرق، وانا أول من يجب أن يعلم ماذا تعني الهجرة، جذور تقلع، ودماء تنزف من الأعماق، ودموع  تنهمر دون أن تظهر، وفكر يتصارع مع الوجود والضياع، إنها الألم بكل آهاته. إبراهيم محمود  يعاني من ألم جسدي أفظع من النفسي، وعذاباً  فكريا مضاف على الواقع الموجود والمعاش، والمعاناة اليومية مع هجرته مثل الأعداد الهائلة من الشعب الكردي إلى خارج جغرافيته الفكرية والمكانية، أنتقل من كردستانه إلى الكردستان الأخرى التي قارنها ونقدها ألماً يوماً كحلم، على خلفية معاناة فكرية عكستها الصراعات السياسية والثقافية على الساحة الكردية في غرب كردستان، وقد أدركنا بأنه الأقرب إليها وجوداً وذات داخلية، وهو الأن يسكن في الأقليم الكردستاني يعاني الغربة رغم الجغرافية الموحدة الممتدة، والألام متنوعة جسداً وفكراً، ومعاناة اقتصادية ثقيلة، وتكريمه أومساعدته في مصارعة الحالتين، رغم أنه عين موظفاً براتب بسيط لا ترقى إلى سوية مفكر بقامة إبراهيم محمود، فهو يضاهي العديد من السياسيين الكرد الذين ينعمون في الرخاء بدون حراك يذكر، ويضاهي أمثال عزمي بشارة الذي وفرت له  دولة القطر كل عوامل الراحة. الأمم ترقى بقدر ما تقدم لمفكريها، ومثقفيها، وبقدر ما توفر لهم الخدمات الكلية،  بؤس حكومة لا تقدرهم، ويا أسفي عليها يوم يكون مستشاريها ثلة من السياسيين المنافقين، و يا للمستقبل الذي سيبنونه عندما تكون الشريحة الأكثر إنتهازية هم الأقرب إلى البلاط، والمثقفين في دونية الإهتمام، فالكلمة الثمينة لا تزال سوقها ضيقة في المجتمع الكردي.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأميريكية

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…