وقال لي الآخر

 إبراهيم محمود

وقال لي الآخر الذي هو أنا في بعض منه: ها قد تداعت البلاد والعباد، وأنت في مخاض صروف الدهر، اختلط عليك الزمان والمكان، كما تداخلت الجهات، فلا أنت بسندباد لتحكي حكايتك، ولا أنت براوية لتقنع كاتبك على الإصغاء إليك، سوى أنك تسترشد ببعض من المتوفَّر في جغرافيتك الناطقة بلسانك، وربما بتاريخ يؤانسك، رغم حالة اللاضمان، وأنت في اللامستقر بينك وبين نفسك، بينك وبين مرئيّك، بينك وبين أنفاسك، بينك وبين حلمك، بينك وبين بقايا من بقايا مأثور عما يخص البلاد والعباد، بينك وبين جدوى أن تعيد للأشياء أسماء تعينك على الكتابة، وأنت البعيد عن” أنت” وعن” هو” بعدك عن ” أناك” التي استلهمتك كثيراً، وأنت وسط وحولك الكثيرة، ومجاورة الكثير الكثير من الذباب والبعوض والفئران، وعتمة جل الجهات، سوى أنك كنت المشدود إلى جهة ما،
وها قد سقطت مرساتها في هاوية يستعصي عليك تقدير عمقها أو التكهن بآفاتها.. إذ لذ بـ”أناك” الجديدة، وقر عيناً ببعض من الأشياء التي وفَّرت لك أسماءها، أو إمكان تطعيمها بأسماء أخرى، لتمكين آخرك من اللوذ بالمكان الجديد والزمان الجديد ودفق الحياة المستجد..
وقالي لي الآخر مجدداً، والذي هو أنا في بعض آخر منه: الق بمرساتك في الهواء المسترسل من حولك، أو في الماء المستبحر داخل جماع قواك، أو رؤاك، استدع حياتك التي تناثرت في بعض جهاتك الأخرى، استشر بعدوى الخيال في جهات حدودك التي أودعتك نِسَباً من حنانها الكردي، قر روحاً لتمكّن روحك من الانفراد بجغرافية أنت في حضرتها، أقر بما أنت عليه، بح ببعض بعض مما لديك، لتصل إلى المتواري خلفه، علَّك تستدعي جلَّك في هذا المنقلب في المكان والزمان، والأشياء التي تلح عليك بأسماء تتبعها، أو أسماء تودعها، وما أنت إليه راحل، صحبة خيال، تعاشرتما كثيراً، في إقامة تواجهك بمسياتك وخلافها..
وقال لي الآخر القريب البعيد، البعيد القريب دقةً، حيث أُستكثَر بأسمائه، صاحباً أكثر من صاحب: لا بأس عليك، والحياة إليك، وهي تمد أكثر من يد تدر هواء نقياً خلل الأنامل، وربما، جرَّاء فلترة روح هي ذاتها تعيش نهب المكان المعنَّى به، أو هي هكذا، توازي بين الجهات، وتسعى ما وسعها جهدها إلى ابتكار جهتها، أكثر من سنن عمر أو  وجوه تداخلت لديه، كما لو أنه يستخلص وجهه المنفي منها..
وقال لي الآخر الذي يعول على عويله كثيراً، كما يحصل من بعد، كما لو أنه يلملم جراحات تسمّيه وتعنيه وتكفيه لكتابة سيرة حياة تستفز ظلال كثيرين: حنانيك يا الآخر مني بدوره، ترو في ارتياد نواحي الألم ومناحي دهشة الاكتشاف لمن كانوا وما كانوا، ومن صاروا كأنهم ما كانوا، وصاروا حيثما دارت بهم ظلال الغير، عضضت على جانب خفي من روحي، لحظة سماع هذه الطلعة النافذة من عويل معتد بنسبه بين بلاد تتضور موتاً وبلاد تمهل موتها القديم بدفعة من حيوات خفية، أسلست قياداً لخيال غير معهود، وأنا أشارف قائمة جراحاته التي تسرب جموحه، ولذت بحياة ربما واتتني فرصة معاقرتها بمهماز من قول الآخر العتي فيَّ..
وقال لي الآخر، وما أبعده مكاناً، ما أقربه احتواءاً، وبيننا تعج مسافات لا تطوى كما يُظن، سوى أن وده البعيد المقرَّب، اختصر الكثير، وأنا أتلمسه في قرب القرب:
العهد هو أن توجد عهدك في زمن يزيّف العهود، أن تتابع مسيرتك، وإن كنت مثقلاً بأزمنة وأمكنة ابتدعها قيافو الأثر سيئو الصيت، وحرت في أمر لغته الدقيقة، وأنا أستأنس بلغتي وادعة خلفها أو طيَّها، فاختفت المسافات القصية، لأهنأ بوجهه الذي كان وما زال، وأنا أستعيد بعضاً من أنفاسي، لأستشرف تفاصيل اللقيا، وصوتي يسابقني: آه يا صاحباً لي، كالذي كان، يا صاحباً، يوائم بين لغة وأخرى، ولا تعدو المسافة أن تكون تنويهاً دون تنويه، صافحني، كما لو أنه تجاوز النبض فيَّ، وأنا في غربة تريني شقاوتها، رغم سلاسة المكان في بعض وافر من المستعذب فيه..
وقال لي الآخر، وفيما يشبه الوثبة أو شهقة الحربة: أين بلادك وعبادك يا عبد المستوفى منه، وما هو في الانتظار؟ أين حدودك التي شهقت بك، وأنت في عراء يعلمنا باسمك، فأجفل إثر سماع هذا الآخر المركَّب، مسائلاً هذا التكاثر في أسمائه وفي سرعة تحولاته، والتنكر لنسَب ما، يقرّب ما بيننا.. بغتة أو دونها، أستعيد ذاكرة لبلاد وعباد، ووجوه أعيت بلاداً وعباداً، وها هي في سرعة التنقل، في سرعة التحول، إخلاصاً لما هو مرَّتب عن بلاد وعباد ذات مردود يعنيها ليس إلا، ثبتُّ نظري في هذا الآخر المشهود له بالتحول، كما لو أنه هو البلاد والعباد..
استعنت بأكثر من آخر، يلهمني صبر المكابدة، ويشد في أزر روح، منثورة في حمى بلاد وعباد، صحبة آخرين آخرين، كرداً أقحاحاً، إن لم تخني البصيرة..
قلت: شكراً يا هذا الآخر، في الكثير منك، وقد أثريت قليلي إذ يكفيني مداد حياة مرتقبة، شكراً يا هذا الآخر، أو بعض الآخر، لأعزز بعضاَ من الآخر فيَّ وأحيا..
 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ا. د. قاسم المندلاوي

يؤكد علماء التربية على اهمية التعاون بين البيت والمدرسة بهدف النهوض الافضل بمستوى التلامذة. ولو تابعنا المشهد اليومي لوضع البيت والانشطة التي تجري داخل المدرسة لوجدنا اختلافا بين الجانبين.

هناك اتهام من قبل المدرسة على غياب اولياء الامور وابتعادهم عن المساهمة الجادة للجوانب…

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

الحسن بن هانئ المَعروف بأبي نُوَاس ( 145 _ 198 ه / 762_ 813 م ) ، شاعر عربي مِنْ أشهرِ شُعَراءِ العصرِ العَبَّاسِي ، وَمِنْ كِبار شُعَراءِ الثَّورةِ التجديدية . أحدثَ انقلابًا في مَضمونِ الشِّعْرِ العربيِّ وأُسلوبِه ، فَقَدْ تجاوزَ الأغراضَ التقليدية كالمَدْحِ والفَخْرِ ، واتَّجَهَ إلى…

حيدر عمر

هناك حكايات تتنازعها عدة ثقافات، مثل حكاية “شَنْگلو مَنْگلو / şekgelo menglo”التي تتنازعها الثقافتان الكوردية والفارسية، وهي مروية على لسان معزاة توصى صغارها الثلاث بألَّا يفتحوا باب الحظيرة في غيابها إلَّا بعد أن يسمعوا منها أغنية معينة تغنيها لهم. سمعها ذئب في أحد الأيام، كان يمر في الجوار. بعد ابتعادها عن صغارها،…

تنكزار ماريني

الصمت يتسلل إلى الوجود،

بدون ضجيج، صمت متلاشي.

الوقت يتساقط،

يرقص، يكشف ويبقى في طيرانه

متى يعود الدائرة،

متى يتم إعادة تحديد المسار؟

بسهولة، على حافة الصمت،

متشابك مع النهاية؛

تتساقط قطرات من الكلمات،

تنهار جسور من السطور،

تفتح الحروف الساكنة البوابات.

تتفكك الأصوات، تلمع الورقة،

تنبعث منها ضوء المقاطع؛

تستقر الكلمات أو تتدفق،

تتحول بهدوء.

الفن يعانق الحب.

في كل حصاة يعيش أنا.

السماء تتسع،

كل نظرة هي جنة صغيرة.

اليوم يمسح…