صالح برو
بدون الأمس لا يمكن فهم اليوم، وصعوبة فهم المرحلة السياسية هذه بشكل عام متعلقة بصعوبة فهم الحكومة التي تمارس العمل السياسي، ولكن القليل من البحث في التاريخ يكفي للوصول إلى الحقيقة التي كشفت الستار عن مسرح عديمي الأخلاق من السياسيين الذين كرسوا الغوغائية صيغة وحيدة للعمل السياسي، عن هؤلاء الأقزام التي تقول عن صوتها: “نقيقنا أجمل صوت في الكون”.
ورغم أنَّ ملامح القدر السياسي لواقع المنطقة لم يتضح بعد فإنَّ الشعب قد وصل إلى حقيقة مفادها أنَّ هناك عنصرين شديدي الأهمية في تاريخ المنطقة، الأول هو الإخفاق من خلق وسط مناسب للسياسة، والثاني هو عدم ظهور شخصية سياسية قيادية مناسبة.
ولطالما أنَّ الظلم قد غلف المجتمع العربي عموماً والمجتمع السوري خصوصاً ولا عدالة في توزيع الأشياء إلا الألم فما على الشعب إلا أنْ يحدث دوياً عالياً في العالم كله ليخلق قدراً يليق به وعلى مقاسه، لأنَّ عدم الاستقرار في ظرف كهذا لم يعد مخيفاً بالنسبة له بعد تجربة الاستقرار التي دامت أكثر من أربعين عام حيث كانت أكثر وجعاً وأشد خطورة مقارنة مع الواقع الراهن.
وقد كان “أدونيس” محقاً حينما قال: “نعم، تولد الحرية في البلاد العربية كل عام غير أنها تلد ميتة”، بل أقولُ أنَّ الحرية تنحر في البلدان العربية لمجرد أن تصبح فكرة فقط، أو حتى حلم، ولو كان محض صدفة.
ففي البلاد العربية بشكل عام كل شيء محكوم عليه بالموت، وليس بوسع أحد أن يلوذ بالفرار إلا أنْ ينظر من خلال الباب، أو النافذة وينتظر المجهول لأنَّ الموت العشوائي، والقتل المجاني هما الطريقتان الوحيدتان اللتان تعلمتها الأنظمة بحرفية عالية خلال تجربتها الطويلة. والسبب في ذلك أنَّ طبيعة روح هذه الأنظمة تحتوي على البيروقراطية العملاقة التي يديرها الآلاف من الكائنات المعدية بالجراثيم، وما على الشعب إلا أنْ يعلن الحرب ضد الجلادين، وهو الشيء الوحيد الذي له معنى في الوقت الراهن.
ولكن كل الخشية كما ذكرت في مقالات سابقة في نفس هذا الإطار من أنْ تصبح الحرب أداة عشوائية، وهمجية، وضرب الثورة كما حدث في بعض المناطق وهذا ما تطمح إليه السلطات. وهذا احتمال قائم لأننا لو عدنا إلى حسابات تلك الأنظمة لاكتشفنا أنها أسّست مجتمعاتها على أسس مهزوزة وهشّة تحسباً لظرف كهذا كي تلعب بأحجار الشطرنج ضمن المربعات الطائفية.
ولكن الهشاشة، من جهة ثانية، كانت الألم الذي وحّدَ الناس حاملين معاً شعار زمرة دم الإنسانية الواحدة. وما يؤكد صحة هذا القول أنه ما من ثمة زمرة دموية تؤكد أن هذا كردي وذاك مسيحي والآخر عربي، وهذه هي المعادلة الإنسانية الحقّة.
أما إذا دققنا بمطالب الشعب سنجد أنه لا يطالب بالوجوه الجديدة كما يحدث الآن من تغييرات طفيفة في الواجهة السياسية إنما يطالب بنظام جديد يخدم مصلحة المواطن لا السلطة، يضمن كرامة المواطن لا الطاغية.
ولو فكرنا عبر تاريخنا الإنساني الصامت لوجدنا أنَّ وصمة العار في هذا العصر لصيقة بنا تماماً بخاصة عندما جعلنا من المجرمين رجال دولة، ومن الجلادين قضاة يحكمون على العادلين والشرفاء بأنْ يموتوا ميتة المجرمين
. ولكننا الآن اخترنا الحياة والحقيقة في وطن حكمه الصمت والإهانة وجبروت الطغاة.