إبراهيم محمود
كان للشاعر الكوردي شيركو بيكس كورديته التي يبثها في نصه الشعري، حيث يكون الجبل والسهل، النهر والبحر والنبع والساقية، حيث يكون الليل والنهار، الشيخ واليافع، الحب والكره، المرأة والرجل، العاشق أبد العمر والشبق، عديم الظل ومديده طبعاً، الموت والحياة، الامتلاء بالكوردية وخواؤها..: الأبطال ذوي الصيت في مشهدياته الشعرية التي تترى، لعله كان يرسم كوردستاناً أفقاً وعمقاً، انفجار كوكب وائتلاق نجم. بلغ الشيخوخة وهو في أوج فتوته، توغَّل فيه المرض العنيد، وقد ارتقى إلى قمة العافية بروحه، كان حياة أكثر وموتاً أقل.
لا أظن أن شاعراً حظي باهتمام عدد أكبر من القرَّاء الكورد وسوى الكورد كما هو شيركو بيكس، لا أظن أن صوتاً ممْشطَ فضاء، وهجَّن جهات، ودحرج نجوماً في مركبته الشعرية الرحبة، كما استدرج إليه ينابيع زلال، وحلَّق عربات ملآنة بالضوء المحلَّى، لحظة مكاشفة نوعية علاقات القراء انطلاقاً مما كتبه شاعر مثل شيركو بيكس.
قد يكون في مقدور البعض، وأكثر من البعض الحديثَ عن نجومية موهوبة وأخرى تم توفيرها، أعني تدبيرها باللسان اليومي المتداول، لشاعر تجاوز حدوده الكوردية، واُعتمِد شاعراً معترفاً به حتى في لغة خصوم بني قومه في الجوار القريب والبعيد، على حساب آخرين” وما أكثرهم بالعلامة الحسية”، خصوصاً إذا أثيرت لعبة الإعلام والثقافة المروَّج لها، وهذا جائز، لكن قوة الدفع الرباعية لشعره تحديداً، أفصحت عن أصالة روح شعرية، أصالة شيركوبيكسية، وهو يمزج بين حضوره الشخصي وانتثاره الشعري، مصغياً إلى ذاته قبل قارئه، وباحثاً عن قارئه قبل أن يبحث قارئه عنه، تاركاً ناقده في الوسط القابل لحِرَفية المد والجزر.
مازلت أتخيل طيب النبرة الصوتية خلل مجموعات شعرية له قبل سنوات سنوات، مهداة إلي بخط يده في قامشلو دون أن تسنح لي فرصة للقائه، كان في مرتقى جبله ونشيده وأعلى من كرسيّه وأكبر من مراياه.
لا بد من التنويه إلى أن من السهولة تذوق نص شيركو بيكس، إلى درجة غض النظر عنه إزاء البساطة في طريقة صياغته ونوعية متخيله، وهي الحيلة القابلة للقياس، سوى أنها السهولة التي لا تتكرر في سعي كم وافر من دخلاء الشعر وأشقيائه والمسيئين إليه من الكورد، حيث الأصل عصي على النسخ، حيث الشفافية تعدُ برؤية المسافة، غير أنها لا تكفل أحداً في مسعى المناورة رغبة في الاقتداء والاستغراق في الزيف مع نسيان السطو والتقليد.
كان لشيركو بيكس يدان ورجلان” أعني أطرافاً أربعة” وعينان وأذنان وقلب واحد ولسان واحد في الخلية الوجهية ورأس واحد طبعاً، إنما انتبهوا” وعذراً عن استخدام فعل الأمر، وهو فعل يراد منه التنبه” إلى أنه كان يذيّله بتوقيعه، يمده بأجنحة وجمهرة من الأيدي والأرجل، وحزمة من العيون، وشبكة من الألسن، وقمة رأسية تعلو قامة الجسد…الخ، وإن لم تصدقوا سلوا شعره وكيف كان يُحتفى به لا حباً به بالتأكيد، وإنما انغواء بروحه الشعرية، أي مدد الملحمية..
في وسع المتابع لهذا الإنسان الإنسان أن يقول بيسر أنه عاش حياته بعمق، وأودعه شبوبيات تتخلل كتابته، وثمة ذخيرة من الفتوات تنتظر مقاربة لأكثر من طريقة نقدية، تستنطق بلاغة البساطة لديه، وتأمين الأبدية بلغتنا.
في وسعي أنا، أن أسمح لنفسي المطمئنة بشعر وليس أي شعر: رحلتَ شيركو بيكس.. رأيناك غداً !