المقامة الاسطنبولية

غسان جانكير

حدثنا العطال البطال قال : لما شحّت مواردنا في المعاش, وصار جُلّنا جوعى و عِطاش, وتاجر الجملة يستنزف مُدخّراتنا كالخفاش, لا يرتدع إن وصفته بالهبّاش, أو إن ضَربتَ على قفاه بالكلاش, حتى أنه لن يحسّ بالاندهاش, فالفرصة في الثراء قاصرة, وعامودا لن تبقى أبد الدهر مُحاصرة, و فوق هذا يمُنُّ علينا في البيع, ويخفي فرحه بما يجنيه من الريع, يكتم أسرار مخازينه و لا يُذيع, و ينبوعه في اختلاق الكذب وسيع, يحلف بالطلاق ثلاث, و يُقْسِم بقبور أجداه ذكوراً و إناث, أنه لم يبق من البضاعة سوى المعروض, ويستوكلك الله في كشف الخفايا و الغموض, ولأنه يصوم و يُصلّي فالتشكيك به مرفوض, وقبِلنا على مضض هذا الحال, مُعللين النفس بالآمال, بسقوط النظام الدجّال, و التخلّص من سطوة البغال .
ورُغم تآلفنا مع الحصار, و النار تستعر في الاسعار, التي باتت صُلبّ كلِّ حوار, في الصحوِ والنوم على رقابنا كالسيف البتّار, و تحويلنا الضروريات الى الكماليات, كي لا نلجئ الى القوادين والعرصات, الذين باتوا يتحكّمون بأرزاقنا, فتجاوزوها الى التحكّم برقابنا, و سلب حرياتنا, فضاقت بنا البلاد, حين ضغط الأخ على أخيه الزناد, لأمرٍ لا يعرفه سوى ربّ العباد, فشدّينا الرحالى الى اسطنبول, بقلبٍ مثكول, وجسدٍ مكلول, و أملٌ مُسخنٌ في الجراح غير مقتول, و خِرجٌ فيه أسمالنا البالية, وجيوبنا من النقود تكاد أن تكون خالية, و لما حوّلناها الى الليرة التركية,تحوّلنا أوتوماتيكياً الى مليارديرية, فتباهينا بما نملك كما الطاؤوس, وهدأت بعد الأضطرابِ النفوس, فدخلنا الى كازينو لقرع الكؤوس, و صرنا نحكي عن الأسعار بالمليارات, دون أن نُصاب بالخيبات, هذا يتباهى بسندويشة فلافل ثمنها المليارات, وذاك يتبجّح بقضاء الحاجة في التواليت بالبليونات, وتصنّعنا وقار أبنا الذوات على مُحيانا, وسَمَتّ المليارات بنفوسنا الى ما فوق سمانا, فلما أتانا النادل بالفاتورة, رجعت لنا حالتنا المقهورة, وفرغت الجيوب من النقود, وصار المبيت في الفندق طريقه مسدود, فأشار علينا أصحاب الخير, بخمس كيلومترات من السير, حيث تكّية الشيخ محجوب, الورع التقيّ, عند الله والناس محبوب, كراماته جابت الآفاق, والناس تُقبّل يده دون نفاق.
وبينا نحن في التكية بانتظاره, مأخوذين بمُريده يتحدث عن أسراره, وإذ في الخارج هرجٍ و مرج, وبعض المُريدين يحبون على الاربع كبغلٍ سقط منه السرج, ولما فُتح البابُ قمنا وقوفا بخشوعٍ وحياء, إجلالا لشيخٍ يسبقه النور والضياء, مُطأطئين الرؤوس وهو يمشي بخُيلاء, وإذ برفيقي أبو مُخطة ينكزني, وبصوتٍ خافت يُحدثني : أن أُنظر , أليس هذا بعثيكو قربانو, فتفرّست في وجهه, وقلت والله هو عينه, فغمزنا الشيخ بعينه أن اسكتا, فتجمدت شفاهي و ما تحركتا, وبعد أن أختلينا ببعضنا, صار الشيخ دخيل عرضنا, ألّا نفضح أمره بجهلنا . قلت له : الويل لك, لا أبا لك, كيف وكُنت سارقاً المال العام, وتسعى بالنميمة بين الأنام, مُنافقٌ في حزبك العنصري, وتهتف للطاغية في المسيرات بصوتٍ جهوري؟!. 
قال الشيخ محجوب: أُسكت أيها الحاسد, ولا أُبالغ إن وصفتك بالحاقد, فاشلٌ أنت في جمع المال, فتتستّر بالمبادئ في نقد الناجحين من الرجال .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

علي شمدين

المقدمة:

لقد تعرفت على الكاتب حليم يوسف أول مرّة في أواخر التسعينات من القرن المنصرم، وذلك خلال مشاركته في الندوات الثقافية الشهرية التي كنا نقيمها في الإعلام المركزي للحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا، داخل قبو أرضي بحي الآشورية بمدينة القامشلي باسم ندوة (المثقف التقدمي)، والتي كانت تحضره نخبة من مثقفي الجزيرة وكتابها ومن مختلف…

تنكزار ماريني

 

فرانز كافكا، أحد أكثر الكتّاب تأثيرًا في القرن العشرين، وُلِد في 3 يوليو 1883 في براغ وتوفي في 3 يونيو 1924. يُعرف بقصصه السريالية وغالبًا ما تكون كئيبة، التي تسلط الضوء على موضوعات مركزية مثل الاغتراب والهوية وعبثية الوجود. ومن المميز في أعمال كافكا، النظرة المعقدة والمتعددة الأوجه للعلاقات بين الرجال والنساء.

ظروف كافكا الشخصية…

إبراهيم اليوسف

مجموعة “طائر في الجهة الأخرى” للشاعرة فاتن حمودي، الصادرة عن “رياض الريس للكتب والنشر، بيروت”، في طبعتها الأولى، أبريل 2025، في 150 صفحة، ليست مجرّد نصوص شعرية، بل خريطة اضطراب لغويّ تُشكّل الذات من شظايا الغياب. التجربة لدى الشاعرة لا تُقدَّم ضمن صور متماسكة، بل تُقطّع في بنية كولاجية، يُعاد ترتيبها عبر مجازٍ يشبه…

ماهين شيخاني.

 

وصلتُ إلى المدينة في الصباح، قرابة التاسعة، بعد رحلة طويلة من الانتظار… أكثر مما هي من التنقل. كنت متعبًا، لكن موعدي مع جهاز الرنين المغناطيسي لا ينتظر، ذاك الجهاز الذي – دون مبالغة – صار يعرف عمودي الفقري أكثر مما أعرفه أنا.

ترجّلتُ من الحافلة ألهث كما لو أنني خرجتُ للتو من سباق قريتنا الريفي،…