دهام حسن
محاضرة عن المجتمع المدني لـ دهام حسن.
محاضرة عن المجتمع المدني لـ دهام حسن.
استضاف مكتب حزب الوحدة الديمقراطي الكردي في سوريا “يكيتي”- في القامشلي مساء يوم الجمعة 2792013م الأستاذ دهام حسن لإلقاء محاضرة بعنوان “المجتمع المدني- النشأة ورحلة التاريخ”، حضر الندوة نخبة من المهتمين بالشأن الثقافي والسياسي، أعقب المحاضرة نقاش وجرت مداخلات حول أفكار ومفاهيم أثارتها المحاضرة. ولأهمية الموضوع ولتعميم الفائدة آثرنا نشر المحاضرة بالنص وبموافقة السيد المحاضر..
المجتمع المدني.. المدني هنا مشتقة من المدينة، أو نسبة إلى المدينة، وهو مجتمع البيوتات الكثيرة مع مرافق عديدة صحية وثقافية وخدمية وسواها، وأيضا هو تعبير عن حالة اقتصادية اجتماعية ثقافية متقدمة تتجاوز في وضعيتها حالة القبيلة أو العشيرة أو الطائفة، لها أيضا دلالة حضارية، فالمدني أو التمدن تعني الحضارة والرقي تمييزا عن الريف والبادية، نقول: خرج من حالة البداوة وتخلق بأخلاق أهل المدن، والمجتمع المدني هو نتاج المجتمع الحديث وقرين بالمجتمع البرجوازي في طلائعه الأولى وبدايات ظهوره فتكوّنه ..
لكي يستقيم تناولنا للموضوع من الضروري الوقوف والتذكير بالنهضة العلمية عموما والجانب الفكري منه على الوجه الأخص في أوربا، والتأريخ لها، حيث بزغت شمس النهضة الفكرية في النصف الثاني من القرن الخامس عشر لتزدهر في الربع الأول من القرن الساس عشر، في هذه الحقبة بسنواتها القصيرة جاء اختراع الطباعة التي عدّها مارتن لوثر:(من أسمى فضائل الرب على عباده) كما تم اكتشاف البوصلة والبارود، وجاءت الاكتشافات الجغرافية (اكتشاف أمريكا سنة 1492م) واستتبعت ذلك ببروز التيارات الفكرية من العقلانية في القرنين السابع عشر والثامن عشر فالتنوير في القرن الثامن عشر، والعلمانية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وهكذا..
من المعلوم بقدر ما يتقدم الفكر تتقهقر سطوة الدين لاسيما تلك الأضغاث وجانب الغيبيات فيه، وتتبدد شيئا فشيئا تلك التخيلات الموروثة من الماضي البعيد، وهنا يمكن القول إن الدعوة قضت بوجوب تحرير الناس من القيود التي نسجها هو ذاته حول نفسه، أي التحرر من واقع وفكر الخيال والخرافة والتقليد، وهنا لابد من التنويه والإشادة بطلائع البرجوازية الأولى، فعندما أخذ العلم يتمرد على الكنيسة فما كان بوسع البرجوازية هذه الطبقة النابتة الناشئة إلا أن تستأنس بالعلم وتعتمد عليه حيث أخذ وعيها بالتشكل، وكان لها شرف المشاركة في التمرد، حيث أصبحت أكثر إدراكا واستفادة من مناهضة الماديين لمزاعم الكنيسة، لأن الطبقة البرجوازية غدت في أوار صراعها مع الإقطاع في مصالحة مع العلم المتمرد على أحكام الكنيسة، لقد سدد علماء تلك الفترة سهامهم إلى اللاهوت، ولابأس من الإشارة هنا إلى المادية التاريخية التي دأبت لتبيان المنابع الحقيقية للدين، وبأن الدين بتعبير ماركس من صنع خيال الإنسان، فالدين لا يصنع الإنسان بل الإنسان هو الذي يصنع الدين، من جانب آخر فقد سعت الكنيسة الكاثوليكية دائبة في توحيد أوربا ضمن منظومة سياسية لتكرس بالتالي الواقع الإقطاعي، فراحت تمجد مؤسساته بهالة من الرعاية الإلهية، وتسخر الإيمان لشد أزر الإقطاع..
إكمالا للصورة لابد أيضا من الإشارة والإشادة بالجمعيات العلمية التي جاء تأسيسها في وقت مبكر بغرض البحث العلمي ففي لندن تأسست الجمعية الملكية عام1622م ثم جاء تأسيس أكاديمية التجربة العلمية عام 1657م في فلورنسا بإيطاليا، فالأكاديمية الفرنسية في باريس عام 1666م وأكاديمية بطرسبورغ الروسية1729م وأخيرا وليس آخرا أكاديمية برلين عام1744م وهكذا.. وبهذه المنارات العلمية تحقق مبدأ العمل الجماعي والتخطيط مع رعاية الدولة للعلماء وإنفاقها على أبحاثهم، وبها تحققت إنارة العقول بالمعرفة بدلا من حشدها بالأضغاث والغيبيات واللاعقلانية..
بزغت فكرة المجتمع المدني في أواسط القرن السابع عشر على أساس أن المكونات البشرية من إنتاج البشر أنفسهم، وأن السلطات السياسية من أصل مجتمعي دنيوي وبالتالي فأن المجتمعات والسلطات السياسية هي بنت التاريخ لا بنت السماء، وبهذا ارتبطت فكرة المجتمع المدني بفكرة الدولة الدنيوية العلمانية وبمعارضة المجتمع التقليدي، لقد جاء طرح المجتمع المدني كفكرة وكمفهوم في أوربا بالتوازي مع المجتمع السياسي الذي عنى كما هو معلوم الدولة ومؤسساتها ومراتبها، وبالتوازي أيضا مع المجتمع الديني الذي عنى الكنيسة ومؤسساتها، فقد رأى المجتمع الديني في الدولة امتدادا إلهيا على الأرض، وبالتالي فالحاكم يستمد شرعيته من الله لا من الشعب، بالمقابل راح المجتمع المدني يدعو للحكم المدني، وبأن الدولة ظاهرة وضعية بشرية تستمد شرعيتها من الشعب، وبهذا برز مفهوم المجتمع المدني كرد وتعبير عن وجوب انتقال مبدأ السيادة من السماء (الحكم بالحق الإلهي) إلى الأرض (الحكم على أساس العقد الاجتماعي) دون نفي أو استبعاد لطبيعة الاستبداد في الحكم، وفي هذا الإطار نادى ميكافيل 1469-1527م في كتابه الأمير بتحرير السياسة من اللاهوت عالج فيه من أن السياسة شأن بشري خالص، مع التنويه أن ميكافيل كان يميل إلى الحكم المطلق بغرض توحيد إيطاليا وتخليصها من البرابرة..
ويجدر بنا هنا الإشادة بحركة الإصلاح الديني البروتستانتي، فقد كانت حركة جريئة، كما قيض لها قائد جريء هو مارتن لوثر1483-1546م الذي حمل لواءها قرابة ثلاثين عاما، ودأبت حركته إلى الدعوة للحرية الدينية فجاءت المناداة بلبرلة الدين أي (كل حر في دينه) ورغم أن حركته اللوثرية نشأت من منطلق ديني إلا أنها توافقت مع الحركات السياسية القومية فجاءت ممالأتها من بعض القوميين الذين تطلعوا لإنشاء دول قومية، ورأينا كيف تحققت الوحدة الإيطالية والاتحاد الألماني فيما بعد، لكن غالبية الأباطرة ظلوا في شك من المذهب البروتستانتي ومالوا إلى المذهب الكاثوليكي المحافظ ولم يهدأ القتال بين معتنقي المذهبين، فضلا عما لاقاه معتنقو المذهب البروتستانتي من الويلات على أيدي محاكم التفتيش أكبر من أن يسرد أو يوصف..!
في أواخر القرون الوسطي رأت الفئات الاجتماعية البرجوازية المرتبطة بأسلوب الإنتاج الرأسمالي رأت في هيمنة الأيديولوجيا الدينية من أنها لا تنسجم مع الأفكار التي أخذت تنمو في أوساطها والتي تدعو إلى استقلال التفكير العلمي عن الديني، دون بالضرورة كما يرى ابن رشد وسواه أن يتطابق الحقيقة الدينية مع الحقيقة العقلية أو العلمية..
المجتمع المدني كمفهوم وكما هو متداول ولد من رحم العقد الاجتماعي فهذا توماس هوبس1588-1679م في منتصف القرن السابع عشر راح يعنى بالمجتمع المدني المجتمع المنظم سياسيا عن طريق الدولة القائمة على التعاقد، فالمجتمع المدني بهذا يضم المجتمع والدولة في الفكر الغربي، بل هو الأساس للدولة فقد تزامن ظهور المجتمع المدني في خضم النهضة الأوربية وبالتزامن مع انتصار الثورات البرجوازية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تلك الانتصارات التي توجت بتشكيل دول حديثة، فتنحت الإقطاعية مع قيمها إلى متحف التاريخ، كما انزوت الكنيسة كحليف مؤازر لها حيث فقدت دورها ومكانتها..
أما فكريا فقد تزامن هذا مع ظهور العقلانية كفلسفة في القرن السابع عشر، وقد عنت العقلانية مما عنت تحكيم العقل بدل تحكيم النص والهوى، وتعود العقلانية كمصطلح فلسفي إلى ديكارت1596-1650م وفرنسيس بيكون1561-1626م ثم أن العقلانية هي بالضد من التفكير الأسطوري، فكانت في علاقة صراعية مع اللاعقلانية الفكرية التي مثلتها الكنيسة والفكر اللاهوتي، ومن ذكر اسم ديكارت في هذا السياق يقفز إلى بالنا مبدأ الشك الذي أثارته العقلانية بقوة، وهنا كان الشك في المسبقات، وكان أهم توجه أو مفهوم تزيّا به المجتمع المدني هو العقلانية والعلمانية وفصل الدين عن الدولة، هذا من جانب ومن جانب آخر فقد ساعدت مؤسسات المجتمع المدني لإصلاح فساد المجتمع السياسي، وإعادة بنائه على أسس أخلاقية وإنسانية، وتغليب الجانب المجتمعي على الجانب البيروقراطي الوظيفي التراتبي وإنتاج آليات الديمقراطية بالتالي، هذه هي الوظيفة المثلى والأساسية للمجتمع المدني التي ينبغي لها أن تتم وتتحقق..
في الحقبة التي سبقت الثورات البرجوازية وإبان نشوبها برز تيار اجتماعي سياسي وفلسفي في أوربا باسم التنوير ظهر في القرنين السابع عشر والثامن عشر كان من أبرز أعلامه فولتير1694-1778م وجان جاك روسو1722-1778م وقد خاض التنويريون نضالا لا هوادة فيه ضد أنظمة الإقطاع، فشنوا نقدا لاذعا ضد تعسف الإقطاعيين وجور الملوك، كما ناضلوا ضد الأوهام الدينية، برزت التنوير حركة أدبية وفلسفية امتدت إلى الثورة الفرنسية 1789م لكن التنويريين كانوا مثاليين في رؤيتهم وتناولهم لمثالب الأنظمة القائمة، فلم يتحرروا من أضغاث الطوباوية، فرأوا إمكانية التخلص من كل هذه الشرور بنشر المعارف العلمية، والترويج لأفكار الخير والعدالة، ولم تنضج بعد الفكرة التي تقول للإطاحة بالقوة المادية الحاكمة لابد من وجود قوة مادية أخرى تطيح بها وتحل محلها..
بالتوازي مع التيارين العقلانية والتنوير برز تيار فلسفي ثالث متقدم عرف بالعلمانية وهو يعود إلى تفكير رجالات الثورة الفرنسية 1789م وإلى مؤسساتها المعرفية، والعلمانية في جانب من تفكيرها تعني الانطلاق من أمور هذه الحياة، وتحكيم العقل في معالجتها، والاستقلال عن عالم ما وراء الطبيعة، وعن المسلمات الغيبية، واعتبار السلطة السياسية من شأن هذا العالم، وبالتالي وجوب انفكاك الفكر والحياة عن الارتهان بالمطلق، والغيب هنا هو المطلق، وكثيرا ما وصفت العلمانية بأنها فصل الدين عن الدولة، كما توسم بحرية الاعتقاد والتعبير، وقد ازدهرت المادية فيما بعد في الماركسية، كما تجلّـى واضحا في المادية التاريخية لماركس1818-1883م..
إذا كان مفهوم المجتمع المدني الحديث يستبعد اليوم الدولة الاستبدادية بجميع مظاهرها وتجلياتها فهو يستبعد دولة الأقلية، يستبعد دولة الطغمة، يستبعد دولة الحزب الواحد والدولة الدينية، هنا لابد من التنويه من أن المجتمع المدني لا يعارض الدين كعقيدة أو إقامة الشعائر الدينية، بل يعارض سلطة المؤسسة الدينية التي تدّعي لنفسها العصمة والحق في القوامة على شؤون الدين..
إن الدعوة للحرية والديمقراطية لم يكن شكل الدعوة في الماضي كما هي عليه اليوم، وسوف نقف عند هذه النقطة وهي مهمة بعد قليل، فهو كمفهوم لم يكن منفصلا عن الدولة، بل جاء كرد وتعبير عن وجوب انتقال مبدأ السيادة من السماء أي الحكم بالحق الإلهي على الأرض، إلى الحكم على أساس اجتماعي بشري حتى لو ظلّ الحكم ديكتاتوريا، ودون أي انفصال بين الكيان المجتمعي والمجتمع السياسي هذا ما كان عليه كثير من دعاة المجتمع المدني في تلك الحقبة..
نعود إلى سياق موضوعنا فنطرح أفكارا بصيغ أسئلة مستحضرين عصر النهضة أو كما كانت تطرح في تلك الفترة مؤداها: هل الدولة القائمة (هي دولة الحق الإلهي المقدس) أم هي الدولة المستمدة شرعيتها من المجتمع الدنيوي.؟ من المعلوم أن الحكم الديني وحتى الإقطاعي كحليف مؤازر للديني كان يرى في الدولة القائمة امتدادا إلهيا على الأرض، وبالتالي فالحكم أو الحاكم يستمد شرعيته من الله لا من الشعب، من هنا وجدنا قيصر روسيا إيفان الرهيب 1533-1584م يقول: (من يعارض السلطة إنما يعارض الرب) وفي ذات المعني يقول لويس الخامس عشر :(إننا لم نتلق التاج إلا من الله، فسن القوانين هي من اختصاصنا) أما جيمس الأول ملك إنكلترا كان يزعم :(إننا نحن الملوك نجلس على عرش الله على أرضه) ووجدنا مثل هذه الأحكام والفتاوى في الحقبة الإسلامية المديدة، فما قاله الخليفة المنصور لا يخرج عن هذا السياق إذ يقول:(أيها الناس إنما أنا سلطان الله في أرضه) وعندما اجتمعت كلمة المسلمين على خلع الخليفة عثمان بن عفان والتأبت عليه الأمصار انبرى الخليفة عثمان قائلا ):لا أخلع قميصا ألبسنيه الله) حتى انتهى الأمر بقتله، في حين أن المجتمع المدني يرى في الدولة ظاهرة وضعية من صنع البشر تستمد شرعيتها من الشعب لا من أي كائن متخيل آخر، أدين توماس هوبس في عام 1683م أي بعد رحيله بأربع سنوات، أدين من قبل جامعة أكسفورد لأنه استنتج أن أصل الدولة أو السلطة دنيوي وليس لاهوتيا، ما قاله هوبس: إن ظهور الدولة تعبير عن ضرورة طبيعية في تطور المجتمع لا تجسيد لمشيئة الله في الأرض، بعد هوبس جاء مواطنه الإنكليزي جون لوك1632-1704م الذي رأى أن الأصل الذي تقوم عليه الدولة هو أصل تعاقدي اختياري وليس أصلا إلهيا قسريا، وطالب لوك الفصل بين الدولة والكنيسة، ورأى أن هدف الدولة هو الحياة الأرضية، أما هدف الكنيسة فهو الحياة السماوية، والمواطنون يولدون ملكا للوطن لا ملكا للكنيسة، والدولة بهذا المعنى غير ملزمة بطقوس الكنيسة، لكن ما يمكن قوله هنا من أن التعاقد عند هوبس ولوك كان يعني تنازل الأفراد عن حريتهم لينشأ بالتالي هذا الجسم المصطنع باسم الدولة، ويمثله حاكم أو هيئة لها مطلق الصلاحية، فالمجتمع المتمثل في دولة، ليست دولة فحسب، إنما هي دولة مطلق الصلاحية كما قلنا، والأفراد هم رعايا..
يمكن القول هنا أن الدعوة إلى مجتمع مدني في البدايات كانت الغاية الأولى منها على ما يرجح هي التحرر من سطوة الكنيسة ومباركتها لهؤلاء الطغاة، ومن أن الحاكم الطاغية يستمد شرعيته من السماء لا من الأرض، وبالتالي هذا الاعتقاد السائد يسوغ له تواصله الأبدي في الحكم واستمراره في الجور والقهر، فكان الرد أن شرعية الحاكم مستمدة من البشر كائنات الأرض لا من السماء، ربما كانت هذه النقطة هي الأبرز والأهم في الدعوة لمجتمع مدني في البدايات، وسنعود بعد قليل لنقف عند الغاية من الدعوة للمجتمع المدني في العقود الأخيرة من القرن العشرين وحتى تاريخ اليوم..
بعد هوبس ولوك جاء الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو1722-1778م الذي، رأى أن الدولة نتاج التعاقد وليس الإكراه، وأورد في عقده الاجتماعي مفاهيم ومصطلحات أصبحت شائعة ومتداولة حتى تاريخ اليوم مثل الدستور، الشعب، الأمة، حقوق الإنسان، القانون، المواطن، المساواة، الحرية، الحقوق الطبيعية للفرد، إلخ.. ويرى بعضهم أن المجتمع المدني خرج من (العقد الاجتماعي) لروسو، فالعقد الاجتماعي كمفهوم جاء استخدامه من قبل بعض المفكرين لتفسير أصل الدولة والقوانين والأخلاق، فتذهب نظرية العقد الاجتماعي من أن الإنسان كان يعيش أول الأمر في “الحالة الطبيعية” فقد كان يهتدي بغريزة حفظ البقاء وبالمصالح الشخصية فقط معتمدا على قواه الذاتية فحسب، كل هذا خلق حالة من (حرب الكل ضد الكل) مما نجم عن ذلك حالة من العبث بمصالح كل فرد، ولهذا عقد الناس فيما بينهم عقدا يقضي بأنهم يلتزمون بمراعاة قواعد معينة في السلوك، من جانب آخر فالعقد الاجتماعي لروسو جاء أيضا وخصوصا لنزع الصبغة الدينية التي تضفي القداسة على الحاكم، وربما هذه النقطة هي الأهم تاريخيا كما نوهنا من قبل..
من جانب آخر فسمات المجتمع المدني عند روسو هي ذاتها سمات المجتمع البرجوازي، فهو يؤكد على ضرورة ضمان الملكية الخاصة للبرجوازية، والمساواة عنده تقوم على المساواة القانونية الحقوقية فحسب، وليست على المساواة الاجتماعية، من هنا نلفت الانتباه إلى بعض الحقائق، فنقول عن المجتمع المدني بأنه قد اقتصر بداية على دعوات العناصر البرجوازية، أو فلنقل على نشاط وتطلعات تلك العناصر الثورية من البرجوازية كون المجتمع المدني هو الوجه الآخر للبرجوازية على الأقل في تلك الحقبة، وفي هذا الإطار يقول هيجل 1770-1831م عن المجتمع المدني هو المجتمع القائم على الملكية الخاصة، والليبرالية الاقتصادية، ومجتمع السوق وحرية الاستثمار، أما هوبس فيقول: المجتمع المدني هو مجتمع السوق، ويرى جون لوك بأن المجتمع المدني هو مجتمع الملكية الخاصة، في حين يشاطره الرأي أحد معاصريه فيرى من أن مؤسسات المجتمع المدني أصبحت إحدى المكونات الأساسية التي انبنت عليها طلائع البرجوازية الوليدة حيث أفضت أخيرا إلى النظام الرأسمالي المعاصر، ويرى هيجل أيضا بأن المجتمع المدني هو نظام المصالح الفردية، وهو فضاء الصراع الطبقي، في هذا السياق أيضا يرى ماركس 1818-1883م من أن المجتمع المدني هو المجتمع البرجوازي، وقلما استخدم ماركس عبارة المجتمع المدني ورأى كما يرى هيجل من أن المجتمع المدني هو مجال أو فضاء الصراع الطبقي، في هذا المنظور اعتبر الفكر الاشتراكي المجتمع المدني هو المجتمع البرجوازي، وهذا جدا صحيح من جانب تكونه التاريخي وتطلعاته الفكرية والسياسية..
الأمر الآخر الذي لابد من التذكير به هو أن المجتمع المدني ظاهرة أوربية من حيث المنشأ رافقت ظهور البرجوازية حتى صعودها كطبقة حاكمة على أنقاض النظام الإقطاعي، فجاء طرح مفهوم المجتمع المدني مرة تحت اسم المجتمع البرجوازي وأخرى باسم المجتمع التجاري، أما عودة مصطلح المجتمع المدني أو تكرار عودته بين فينة زمنية وأخرى تحت مسميات مغايرة وبصيغ مختلفة، جاء ذلك لأن المجتمع المدني كمفهوم عنى في كل مرة شيئا مغايرا كونه أتى في سياق متغير تاريخيا وبنيويا، يضاف إلى ذلك تراكم المعارف الإنسانية، فقد اقتصرت مطالب المجتمع المدني في البدء على الحقوق المدنية، ثم تطورت في حقبة لاحقة فاستقرت المطالبة على اعتبار المجتمع المدني قائما على التعاقد، وفي مرحلة ثالثة رؤي أنه من موجبات المجتمع المدني الانتخابات البرلمانية، ثم جاء توسيع نطاقها لتشمل مؤسسات أخرى عديدة، وفي مرحلة رابعة طالب المجتمع المدني بحقوق المواطنة كأعلى سقف لسواسية البشر وهكذا..
المجتمع المدني عملية تطورية بين حقبة زمنية وأخرى وهو يقود بالضرورة إلى الديمقراطية في آخر المطاف، في هذا السياق علينا التذكير من أن المواطنة والحقوق المدنية ناهيك عن المساواة بالآخرين ما كان يتحقق ذلك بيسر ولو حقوقيا في تلك الحقبة، فقد كان متعذرا على المواطن العادي من أن يمتلك أرضا ودارا وصوتا بتعبير فولتير في سياق آخر، ناهيك عن المساواة بالآخرين، كان النظام الطبقي القائم لا يزال في جبروته، وكان التمييز بين الطبقات فاضحا، والفارق بين الجنسين كبيرا جدا، فمثلا كمظهر من مظاهر التمييز الطبقي كان التصويت من حق الطبقة العليا وحدها، وظلّ هذا الأمر ساريا ومقتصرا على هذه الطبقة فحسب حتى الثلث الأول من القرن التاسع عشر، ثم كان الإصلاح الانتخابي في عام 1832م حينها سمح للطبقة الوسطى بالتصويت، أما العمال فلم يتمتعوا بهذا الحق إلا في نهاية القرن التاسع عشر، ولم يجز للنساء بالتصويت إلا في بدايات القرن العشرين، في الولايات المتحدة تحقق ذلك في عام 1920م وفي إنجلترا سمح لهن بالتصويت في عام 1928م..
بعد قيام الثورات البرجوازية وانتصارها في تأسيس دول قومية، عندها تحول النظام السياسي القائم من الملكية المطلقة واستنادها إلى الحق الإلهي المقدس تحول إلى ملكية دستورية أو جمهورية مسيجة بالدستور ومقيدة بالقوانين تستمد شرعيتها من الأرض لا من السماء..
تحاشيا لأية إشكالية أو خلط لا بد من التمييز والتفريق بين المجتمع المدني والمجتمع الأهلي، فالمكونات المجتمعية التي وجدت قبل انتشار الرأسمالية كانت تعرف بالمجتمع الأهلي، والمؤسسات ذات الأنشطة ومختلف الفعاليات في تلك الحقبة كانت توسم بتنظيمات المجتمع الأهلي، وهي لم تزل قائمة في أصقاع شتى من العالم وفي العالم العربي لاسيما في الريف وحيث تسود الحالة القبلية ومفهوم العشيرة، وهو عادة يتكون من ثلاثة محاور أو ثلاثة تكتلات..
1- مجتمع أو تكتل القبائل والعشائر والعائلات فضلا عن الطوائف والمذاهب، حيث كانت كل وحدة بمثابة دويلة ضمن السلطة القائمة.
2- مجتمع التكاتف الخيري، وهو عبارة عن فرق اجتماعية تتضامن على فعل الخير والإحسان على الفقراء..
3- مجتمع الطرق الصوفية وقد غطت مناطق واسعة، وهي كانت بمثابة أحزاب حتى أن بعضها كانت ذات مفاعيل إيجابية.
لقد فقدت هذه الوحدات أهميتها مع تشكل الدولة الحديثة بمضمون برجوازي وركائز قومية ومنطلقات عقلانية وقيم ديمقراطية..
إذا كانت الدعوة للمجتمع المدني جاءت في بدايات النهضة في القرن السادس عشر وما تلاه بغاية التحرر من إلهية الحاكم والخلاص من تواطؤ الكنيسة والإقطاع في مواجهة الطلائع البرجوازية، فإن أسباب الدعوة لمجتمع مدني اختلفت في النصف الأول من القرن العشرين لاسيما العقود الأخيرة منه وإلى تاريخ اليوم، فإن التأكيد على فكرة المجتمع المدني كمفهوم ضروري للديمقراطية جاء بعد معاناة مريرة مع أشكال وتجارب لمنظومات حكم كالفاشية والنازية في أوربا والشيوعية في المنظومة السوفييتية، والدينية والقومية في العالم الثالث على وجه الخصوص، سواء على صعيد الدولة أم على صعيد برامج الأحزاب، فالمجتمع المدني يدعو وجوب الحد من هيمنة الدولة وضرورة ممارسة الضغط على الحكومة لحماية المجتمع من تجاوزاتها، من هنا كان لزاما أن تتضمن الدعوة لمجتمع مدني حرية السوق الاقتصادية من جانب واستقلال وسائل الإعلام مع شبكة ناجحة من الجمعيات الطوعية تغطي سائر مناحي الحياة الاجتماعية، أي إدارة الشعب لشؤونه الخاصة سواء أكانت نقابات عمالية، أم جمعيات حرفية، أم تجمعات نسائية، أم منظمات خاصة بحقوق الإنسان أو منظمات سياسية اقتصادية مع حرية التعبير والاجتماع، وهذه المؤسسات عندما تتمتع باستقلال ذاتي سوف تملك القدرة في التأثير على جوانب هامة في سياسة الحكومة والحد من آثار التحكم والسيطرة..
أوربيا اختفت الدعوة إلى المجتمع المدني في الثلاثينيات من القرن العشرين، ويمكن التأريخ له برحيل غرامشي في عام 1937م لتعود الدعوة للمجتمع المدني مجددا في نهاية السبعينيات في سياق أحداث بولونيا وحركة التضامن، ثم ازداد ضجيج الدعوة في الثمانينيات مع أحداث أوربا الشرقية في عام 1989م التي هدفت إلى تقويض النظام الاشتراكي، وللحقيقة نقول ليس كل من دعا إلى المجتمع المدني في أوربا الشرقية كان ضد الاشتراكية، بل جلهم أراد إصلاح النظام القائم، والخلاص من البيروقراطية والجمود والتحجر، والتحرر من الخوف المستبد بهم، وبالتالي عدم تجرؤهم على قول كلمة الحق، أو التحرر من حالة التملق والتزلف للأعلى صاحب النفوذ واختفاء النقد الهادف للأسباب ذاتها..
قامت الدولة الحديثة في أوربا نتيجة انتصار الرأسمالية على الإقطاع، أما في المنطقة العربية فقد بدأت معالم الدولة الحديثة في بدايات القرن التاسع عشر مع قيام دولة محمد علي باشا في مصر والتأثر بحملة نابليون على مصر عام 1798م وما جاءت به الحملة من مضامين الحداثة الغربية، ثم كانت حملة إبراهيم باشا على سوريا عام 1832م لتطرق أبواب السلطنة العثمانية، من هنا كانت حركة الإصلاح في الدولة العثمانية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وكانت بمثابة تمهيد لقيام أسس الدولة الحديثة في المنطقة العربية في عهد الانتداب الفرنسي وبمضامين برجوازية مع انتشار الرأسمالية لكنها حملت في أحشائها كثيرا من سمات الدولة السلطانية..
في سوريا وفي فترة الانتداب الفرنسي وجدت عشرات بل مئات المؤسسات أو التنظيمات ذات الصبغة المدنية أو الأهلية، وفي فترة لاحقة فترة ما بعد الاستقلال كانت هناك أيضا مئات المكونات أو أشكال من مؤسسات وتنظيمات المجتمع المدني، لكنها كانت دون فاعلية تذكر، كانت خاوية النشاط كونها زرعت في أنظمة شمولية استبدادية لم تشهد أو لم تعش حياة ديمقراطية..
إن تشييد المجتمع المدني في العالم العربي يعني تحقيق جانب كبير من الديمقراطية، فالمجتمع المدني ليس مجرد إقامة المؤسسات المدنية الحديثة مع التنويه بأن الجميع يكاد يتفق من أن نشوء المجتمع المدني كفيل على إنتاج المجتمع لآليات الديمقراطية وكان غرامشي يقول من أن المجتمع المدني يؤدي إلى تدفق أمواج من الحريات وبالتالي الحد من مظاهر الفساد والتسلط والاستبداد..
علينا التنويه والتذكير هنا من أن مصطلح المجتمع المدني دخل ساحة الفكر العربي في العقدين الأخيرين من القرن المنصرم ومن أبرز رواده دون منازع الباحث المصري الدكتور سعد الدين إبراهيم فقد أصدر مركز دراسات الوحدة العربية تحت إشرافه دراسة وكتابا تحت عنوان المجتمع والدولة عام 1988م تناول فيها المجتمع المدني بشكل ملحوظ، ثم قام مركز ابن خلدون بإصدار نشرة شهرية بعنوان المجتمع المدني بإشراف الدكتور سعد الدين نفسه، كما أصدر في العام ذاته 1993م كتابا من تأليفه بعنوان المجتمع المدني ثم تتالت النشرات والكتب في المجتمع المدني، ومن نافل القول هنا التذكير والملاحظة من أن مفهوم المجتمع المدني يتغير مع تغير الموقف الفكري للمتكلم، فنظرة الليبرالي للمجتمع المدني تختلف عن نظرة الماركسي له، وهذه تختلف عن نظرة القومي وأيضا الديني وهكذا..
أخيرا نقول في هذا السياق والتناول المتشعب والإطالة لموضوع المجتمع المدني، نقول سوف نجمل حديثنا عن المجتمع المدني ربما في شكل آخر من التناول والتقديم لمزيد من الإيضاح بما يأتي:
بداية نذكر من أن المجتمع المدني في الدول القمعية والنظم الشمولية مقص عن الحيز العام، ورغم ذلك فهو يسعى لتأكيد دوره وتثبيت وجوده، ولهذا تطلق عليه أحيانا تسمية المجتمع المقاوم، ما يمكن قوله هنا من أن المجتمع المدني هو أحد أشكال تنظيم العلاقات فيما بين الأفراد والجماعات داخل المجتمع بغية تحقيق أهداف ومصالح أعضائها فضلا عن ممارستها لأنشطة متنوعة تدخل في خدمة سائر المواطنين عموما، المجتمع المدني هو جملة من المؤسسات والهيئات والمنظمات تؤسس لمد جسور من العلاقة والتضامن بين المواطنين، كما تعنى بشؤون مختلف فئات الشعب في ميادين شتى بغية تحقيق أغراض متعددة، منها سياسية كالمشاركة في صنع القرار على الصعيد الوطني كما في حال الأحزاب السياسية غير المنضوية تحت لواء الدولة، ومنها أغراض ثقافية كما في حال اتحاد الكتاب والمثقفين والجمعيات والمنتديات الهادفة بالأساس لنشر الوعي حسب رؤية كل ناد أو تنظيم، ومنها أيضا أغراض اجتماعية للإسهام في تحقيق التنمية، من هنا تتحقق المسؤولية الجماعية، كما أن وجود المجتمع المدني يرتبط باستكمال نشوء الدولة الحديثة القائمة على مفاهيم الحضارة والمعاصرة حول الديمقراطية والمؤسساتية وهي لا تنتج إلا دولة قوية متماسكة وفعالة، المجتمع المدني ينطوي على قيم عديدة في مقدمتها صون الحقوق، المواطنة المتساوية والمتكاملة من خلال التنوع، السلم والتسامح في إطار التعددية السياسية، من أهداف المجتمع المدني كما هو معلوم أيضا التنمية وعلى مختلف الصعد اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا، وأيضا تحقيق الديمقراطية، والمجتمع المدني هو العين الساهرة والرقيب الدائم على الدولة لضبط سلوك الأفراد والجماعات، وضرورة التقيد بكثير من الضوابط لتستقيم الحالة، والانصياع لتلك الضوابط باحترام النظم والقوانين ونبذ التعصب، وأهمية الحرية الدينية فيما يعتقد أو لا يعتقد “من شاء منكم فليؤمن ومن شاء فليكفر” المهم هنا المواطنة تساوي بين الجميع، يضمهم نظام يوحد، وقانون تسري نصوصه على الجميع، ويساوي بينهم مع ترك المجال واسعا للتنافس الحر السلمي، أي وجوب الدعوة الدائمة للتنمية ومزيد من الديمقراطية، لابد من إعلام حر ومسؤول يستند إلى الحجة والإقناع بعيدا عن أساليب القسر والعنف، لابد هنا من وجود قضاء مستقل يحكم بالعدل وينصف الجميع، لابد من بناء علاقات متزنة وواضحة مع الدولة على أن يكون المجتمع المدني بمختلف التنظيمات عونا للدولة بالمعنى الوطني لا عبئا عليها، لابد من التعاون معها وتقديم ما يمكن تقديمه لتحسين عملها في أي مجال كان..
المجتمع المدني هو الذي ينبغي أن ينتج المجتمع السياسي الديمقراطي، وهو شرط ضروري لتحقيق مبدأ المواطنة وقيام دولة الحق والقانون وتحقيق مبدأ مساواة المواطنين كافة أمام القانون..
المجتمع المدني هو شرط لازم للديمقراطية السياسية والاجتماعية لزوم المضمون للشكل، المجتمع المدني هو على العموم الرد على سلطة الحزب الواحد وعلى البيروقراطية وعلى ديكتاتوريات العالم الثالث، المجتمع المدني هو دولة مدنية يجمع بين الحاكم والمحكوم بإرادة مشتركة مع تبعية الدولة للمجتمع، هو أولا وأخيرا جملة مؤسسات وهيئات وتنظيمات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية تعمل في ميادين مختلفة (جمعيات، نواد، نقابات، اتحادات، روابط، منابر ثقافية ..إلخ”
لكي يستقيم تناولنا للموضوع من الضروري الوقوف والتذكير بالنهضة العلمية عموما والجانب الفكري منه على الوجه الأخص في أوربا، والتأريخ لها، حيث بزغت شمس النهضة الفكرية في النصف الثاني من القرن الخامس عشر لتزدهر في الربع الأول من القرن الساس عشر، في هذه الحقبة بسنواتها القصيرة جاء اختراع الطباعة التي عدّها مارتن لوثر:(من أسمى فضائل الرب على عباده) كما تم اكتشاف البوصلة والبارود، وجاءت الاكتشافات الجغرافية (اكتشاف أمريكا سنة 1492م) واستتبعت ذلك ببروز التيارات الفكرية من العقلانية في القرنين السابع عشر والثامن عشر فالتنوير في القرن الثامن عشر، والعلمانية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وهكذا..
من المعلوم بقدر ما يتقدم الفكر تتقهقر سطوة الدين لاسيما تلك الأضغاث وجانب الغيبيات فيه، وتتبدد شيئا فشيئا تلك التخيلات الموروثة من الماضي البعيد، وهنا يمكن القول إن الدعوة قضت بوجوب تحرير الناس من القيود التي نسجها هو ذاته حول نفسه، أي التحرر من واقع وفكر الخيال والخرافة والتقليد، وهنا لابد من التنويه والإشادة بطلائع البرجوازية الأولى، فعندما أخذ العلم يتمرد على الكنيسة فما كان بوسع البرجوازية هذه الطبقة النابتة الناشئة إلا أن تستأنس بالعلم وتعتمد عليه حيث أخذ وعيها بالتشكل، وكان لها شرف المشاركة في التمرد، حيث أصبحت أكثر إدراكا واستفادة من مناهضة الماديين لمزاعم الكنيسة، لأن الطبقة البرجوازية غدت في أوار صراعها مع الإقطاع في مصالحة مع العلم المتمرد على أحكام الكنيسة، لقد سدد علماء تلك الفترة سهامهم إلى اللاهوت، ولابأس من الإشارة هنا إلى المادية التاريخية التي دأبت لتبيان المنابع الحقيقية للدين، وبأن الدين بتعبير ماركس من صنع خيال الإنسان، فالدين لا يصنع الإنسان بل الإنسان هو الذي يصنع الدين، من جانب آخر فقد سعت الكنيسة الكاثوليكية دائبة في توحيد أوربا ضمن منظومة سياسية لتكرس بالتالي الواقع الإقطاعي، فراحت تمجد مؤسساته بهالة من الرعاية الإلهية، وتسخر الإيمان لشد أزر الإقطاع..
إكمالا للصورة لابد أيضا من الإشارة والإشادة بالجمعيات العلمية التي جاء تأسيسها في وقت مبكر بغرض البحث العلمي ففي لندن تأسست الجمعية الملكية عام1622م ثم جاء تأسيس أكاديمية التجربة العلمية عام 1657م في فلورنسا بإيطاليا، فالأكاديمية الفرنسية في باريس عام 1666م وأكاديمية بطرسبورغ الروسية1729م وأخيرا وليس آخرا أكاديمية برلين عام1744م وهكذا.. وبهذه المنارات العلمية تحقق مبدأ العمل الجماعي والتخطيط مع رعاية الدولة للعلماء وإنفاقها على أبحاثهم، وبها تحققت إنارة العقول بالمعرفة بدلا من حشدها بالأضغاث والغيبيات واللاعقلانية..
بزغت فكرة المجتمع المدني في أواسط القرن السابع عشر على أساس أن المكونات البشرية من إنتاج البشر أنفسهم، وأن السلطات السياسية من أصل مجتمعي دنيوي وبالتالي فأن المجتمعات والسلطات السياسية هي بنت التاريخ لا بنت السماء، وبهذا ارتبطت فكرة المجتمع المدني بفكرة الدولة الدنيوية العلمانية وبمعارضة المجتمع التقليدي، لقد جاء طرح المجتمع المدني كفكرة وكمفهوم في أوربا بالتوازي مع المجتمع السياسي الذي عنى كما هو معلوم الدولة ومؤسساتها ومراتبها، وبالتوازي أيضا مع المجتمع الديني الذي عنى الكنيسة ومؤسساتها، فقد رأى المجتمع الديني في الدولة امتدادا إلهيا على الأرض، وبالتالي فالحاكم يستمد شرعيته من الله لا من الشعب، بالمقابل راح المجتمع المدني يدعو للحكم المدني، وبأن الدولة ظاهرة وضعية بشرية تستمد شرعيتها من الشعب، وبهذا برز مفهوم المجتمع المدني كرد وتعبير عن وجوب انتقال مبدأ السيادة من السماء (الحكم بالحق الإلهي) إلى الأرض (الحكم على أساس العقد الاجتماعي) دون نفي أو استبعاد لطبيعة الاستبداد في الحكم، وفي هذا الإطار نادى ميكافيل 1469-1527م في كتابه الأمير بتحرير السياسة من اللاهوت عالج فيه من أن السياسة شأن بشري خالص، مع التنويه أن ميكافيل كان يميل إلى الحكم المطلق بغرض توحيد إيطاليا وتخليصها من البرابرة..
ويجدر بنا هنا الإشادة بحركة الإصلاح الديني البروتستانتي، فقد كانت حركة جريئة، كما قيض لها قائد جريء هو مارتن لوثر1483-1546م الذي حمل لواءها قرابة ثلاثين عاما، ودأبت حركته إلى الدعوة للحرية الدينية فجاءت المناداة بلبرلة الدين أي (كل حر في دينه) ورغم أن حركته اللوثرية نشأت من منطلق ديني إلا أنها توافقت مع الحركات السياسية القومية فجاءت ممالأتها من بعض القوميين الذين تطلعوا لإنشاء دول قومية، ورأينا كيف تحققت الوحدة الإيطالية والاتحاد الألماني فيما بعد، لكن غالبية الأباطرة ظلوا في شك من المذهب البروتستانتي ومالوا إلى المذهب الكاثوليكي المحافظ ولم يهدأ القتال بين معتنقي المذهبين، فضلا عما لاقاه معتنقو المذهب البروتستانتي من الويلات على أيدي محاكم التفتيش أكبر من أن يسرد أو يوصف..!
في أواخر القرون الوسطي رأت الفئات الاجتماعية البرجوازية المرتبطة بأسلوب الإنتاج الرأسمالي رأت في هيمنة الأيديولوجيا الدينية من أنها لا تنسجم مع الأفكار التي أخذت تنمو في أوساطها والتي تدعو إلى استقلال التفكير العلمي عن الديني، دون بالضرورة كما يرى ابن رشد وسواه أن يتطابق الحقيقة الدينية مع الحقيقة العقلية أو العلمية..
المجتمع المدني كمفهوم وكما هو متداول ولد من رحم العقد الاجتماعي فهذا توماس هوبس1588-1679م في منتصف القرن السابع عشر راح يعنى بالمجتمع المدني المجتمع المنظم سياسيا عن طريق الدولة القائمة على التعاقد، فالمجتمع المدني بهذا يضم المجتمع والدولة في الفكر الغربي، بل هو الأساس للدولة فقد تزامن ظهور المجتمع المدني في خضم النهضة الأوربية وبالتزامن مع انتصار الثورات البرجوازية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تلك الانتصارات التي توجت بتشكيل دول حديثة، فتنحت الإقطاعية مع قيمها إلى متحف التاريخ، كما انزوت الكنيسة كحليف مؤازر لها حيث فقدت دورها ومكانتها..
أما فكريا فقد تزامن هذا مع ظهور العقلانية كفلسفة في القرن السابع عشر، وقد عنت العقلانية مما عنت تحكيم العقل بدل تحكيم النص والهوى، وتعود العقلانية كمصطلح فلسفي إلى ديكارت1596-1650م وفرنسيس بيكون1561-1626م ثم أن العقلانية هي بالضد من التفكير الأسطوري، فكانت في علاقة صراعية مع اللاعقلانية الفكرية التي مثلتها الكنيسة والفكر اللاهوتي، ومن ذكر اسم ديكارت في هذا السياق يقفز إلى بالنا مبدأ الشك الذي أثارته العقلانية بقوة، وهنا كان الشك في المسبقات، وكان أهم توجه أو مفهوم تزيّا به المجتمع المدني هو العقلانية والعلمانية وفصل الدين عن الدولة، هذا من جانب ومن جانب آخر فقد ساعدت مؤسسات المجتمع المدني لإصلاح فساد المجتمع السياسي، وإعادة بنائه على أسس أخلاقية وإنسانية، وتغليب الجانب المجتمعي على الجانب البيروقراطي الوظيفي التراتبي وإنتاج آليات الديمقراطية بالتالي، هذه هي الوظيفة المثلى والأساسية للمجتمع المدني التي ينبغي لها أن تتم وتتحقق..
في الحقبة التي سبقت الثورات البرجوازية وإبان نشوبها برز تيار اجتماعي سياسي وفلسفي في أوربا باسم التنوير ظهر في القرنين السابع عشر والثامن عشر كان من أبرز أعلامه فولتير1694-1778م وجان جاك روسو1722-1778م وقد خاض التنويريون نضالا لا هوادة فيه ضد أنظمة الإقطاع، فشنوا نقدا لاذعا ضد تعسف الإقطاعيين وجور الملوك، كما ناضلوا ضد الأوهام الدينية، برزت التنوير حركة أدبية وفلسفية امتدت إلى الثورة الفرنسية 1789م لكن التنويريين كانوا مثاليين في رؤيتهم وتناولهم لمثالب الأنظمة القائمة، فلم يتحرروا من أضغاث الطوباوية، فرأوا إمكانية التخلص من كل هذه الشرور بنشر المعارف العلمية، والترويج لأفكار الخير والعدالة، ولم تنضج بعد الفكرة التي تقول للإطاحة بالقوة المادية الحاكمة لابد من وجود قوة مادية أخرى تطيح بها وتحل محلها..
بالتوازي مع التيارين العقلانية والتنوير برز تيار فلسفي ثالث متقدم عرف بالعلمانية وهو يعود إلى تفكير رجالات الثورة الفرنسية 1789م وإلى مؤسساتها المعرفية، والعلمانية في جانب من تفكيرها تعني الانطلاق من أمور هذه الحياة، وتحكيم العقل في معالجتها، والاستقلال عن عالم ما وراء الطبيعة، وعن المسلمات الغيبية، واعتبار السلطة السياسية من شأن هذا العالم، وبالتالي وجوب انفكاك الفكر والحياة عن الارتهان بالمطلق، والغيب هنا هو المطلق، وكثيرا ما وصفت العلمانية بأنها فصل الدين عن الدولة، كما توسم بحرية الاعتقاد والتعبير، وقد ازدهرت المادية فيما بعد في الماركسية، كما تجلّـى واضحا في المادية التاريخية لماركس1818-1883م..
إذا كان مفهوم المجتمع المدني الحديث يستبعد اليوم الدولة الاستبدادية بجميع مظاهرها وتجلياتها فهو يستبعد دولة الأقلية، يستبعد دولة الطغمة، يستبعد دولة الحزب الواحد والدولة الدينية، هنا لابد من التنويه من أن المجتمع المدني لا يعارض الدين كعقيدة أو إقامة الشعائر الدينية، بل يعارض سلطة المؤسسة الدينية التي تدّعي لنفسها العصمة والحق في القوامة على شؤون الدين..
إن الدعوة للحرية والديمقراطية لم يكن شكل الدعوة في الماضي كما هي عليه اليوم، وسوف نقف عند هذه النقطة وهي مهمة بعد قليل، فهو كمفهوم لم يكن منفصلا عن الدولة، بل جاء كرد وتعبير عن وجوب انتقال مبدأ السيادة من السماء أي الحكم بالحق الإلهي على الأرض، إلى الحكم على أساس اجتماعي بشري حتى لو ظلّ الحكم ديكتاتوريا، ودون أي انفصال بين الكيان المجتمعي والمجتمع السياسي هذا ما كان عليه كثير من دعاة المجتمع المدني في تلك الحقبة..
نعود إلى سياق موضوعنا فنطرح أفكارا بصيغ أسئلة مستحضرين عصر النهضة أو كما كانت تطرح في تلك الفترة مؤداها: هل الدولة القائمة (هي دولة الحق الإلهي المقدس) أم هي الدولة المستمدة شرعيتها من المجتمع الدنيوي.؟ من المعلوم أن الحكم الديني وحتى الإقطاعي كحليف مؤازر للديني كان يرى في الدولة القائمة امتدادا إلهيا على الأرض، وبالتالي فالحكم أو الحاكم يستمد شرعيته من الله لا من الشعب، من هنا وجدنا قيصر روسيا إيفان الرهيب 1533-1584م يقول: (من يعارض السلطة إنما يعارض الرب) وفي ذات المعني يقول لويس الخامس عشر :(إننا لم نتلق التاج إلا من الله، فسن القوانين هي من اختصاصنا) أما جيمس الأول ملك إنكلترا كان يزعم :(إننا نحن الملوك نجلس على عرش الله على أرضه) ووجدنا مثل هذه الأحكام والفتاوى في الحقبة الإسلامية المديدة، فما قاله الخليفة المنصور لا يخرج عن هذا السياق إذ يقول:(أيها الناس إنما أنا سلطان الله في أرضه) وعندما اجتمعت كلمة المسلمين على خلع الخليفة عثمان بن عفان والتأبت عليه الأمصار انبرى الخليفة عثمان قائلا ):لا أخلع قميصا ألبسنيه الله) حتى انتهى الأمر بقتله، في حين أن المجتمع المدني يرى في الدولة ظاهرة وضعية من صنع البشر تستمد شرعيتها من الشعب لا من أي كائن متخيل آخر، أدين توماس هوبس في عام 1683م أي بعد رحيله بأربع سنوات، أدين من قبل جامعة أكسفورد لأنه استنتج أن أصل الدولة أو السلطة دنيوي وليس لاهوتيا، ما قاله هوبس: إن ظهور الدولة تعبير عن ضرورة طبيعية في تطور المجتمع لا تجسيد لمشيئة الله في الأرض، بعد هوبس جاء مواطنه الإنكليزي جون لوك1632-1704م الذي رأى أن الأصل الذي تقوم عليه الدولة هو أصل تعاقدي اختياري وليس أصلا إلهيا قسريا، وطالب لوك الفصل بين الدولة والكنيسة، ورأى أن هدف الدولة هو الحياة الأرضية، أما هدف الكنيسة فهو الحياة السماوية، والمواطنون يولدون ملكا للوطن لا ملكا للكنيسة، والدولة بهذا المعنى غير ملزمة بطقوس الكنيسة، لكن ما يمكن قوله هنا من أن التعاقد عند هوبس ولوك كان يعني تنازل الأفراد عن حريتهم لينشأ بالتالي هذا الجسم المصطنع باسم الدولة، ويمثله حاكم أو هيئة لها مطلق الصلاحية، فالمجتمع المتمثل في دولة، ليست دولة فحسب، إنما هي دولة مطلق الصلاحية كما قلنا، والأفراد هم رعايا..
يمكن القول هنا أن الدعوة إلى مجتمع مدني في البدايات كانت الغاية الأولى منها على ما يرجح هي التحرر من سطوة الكنيسة ومباركتها لهؤلاء الطغاة، ومن أن الحاكم الطاغية يستمد شرعيته من السماء لا من الأرض، وبالتالي هذا الاعتقاد السائد يسوغ له تواصله الأبدي في الحكم واستمراره في الجور والقهر، فكان الرد أن شرعية الحاكم مستمدة من البشر كائنات الأرض لا من السماء، ربما كانت هذه النقطة هي الأبرز والأهم في الدعوة لمجتمع مدني في البدايات، وسنعود بعد قليل لنقف عند الغاية من الدعوة للمجتمع المدني في العقود الأخيرة من القرن العشرين وحتى تاريخ اليوم..
بعد هوبس ولوك جاء الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو1722-1778م الذي، رأى أن الدولة نتاج التعاقد وليس الإكراه، وأورد في عقده الاجتماعي مفاهيم ومصطلحات أصبحت شائعة ومتداولة حتى تاريخ اليوم مثل الدستور، الشعب، الأمة، حقوق الإنسان، القانون، المواطن، المساواة، الحرية، الحقوق الطبيعية للفرد، إلخ.. ويرى بعضهم أن المجتمع المدني خرج من (العقد الاجتماعي) لروسو، فالعقد الاجتماعي كمفهوم جاء استخدامه من قبل بعض المفكرين لتفسير أصل الدولة والقوانين والأخلاق، فتذهب نظرية العقد الاجتماعي من أن الإنسان كان يعيش أول الأمر في “الحالة الطبيعية” فقد كان يهتدي بغريزة حفظ البقاء وبالمصالح الشخصية فقط معتمدا على قواه الذاتية فحسب، كل هذا خلق حالة من (حرب الكل ضد الكل) مما نجم عن ذلك حالة من العبث بمصالح كل فرد، ولهذا عقد الناس فيما بينهم عقدا يقضي بأنهم يلتزمون بمراعاة قواعد معينة في السلوك، من جانب آخر فالعقد الاجتماعي لروسو جاء أيضا وخصوصا لنزع الصبغة الدينية التي تضفي القداسة على الحاكم، وربما هذه النقطة هي الأهم تاريخيا كما نوهنا من قبل..
من جانب آخر فسمات المجتمع المدني عند روسو هي ذاتها سمات المجتمع البرجوازي، فهو يؤكد على ضرورة ضمان الملكية الخاصة للبرجوازية، والمساواة عنده تقوم على المساواة القانونية الحقوقية فحسب، وليست على المساواة الاجتماعية، من هنا نلفت الانتباه إلى بعض الحقائق، فنقول عن المجتمع المدني بأنه قد اقتصر بداية على دعوات العناصر البرجوازية، أو فلنقل على نشاط وتطلعات تلك العناصر الثورية من البرجوازية كون المجتمع المدني هو الوجه الآخر للبرجوازية على الأقل في تلك الحقبة، وفي هذا الإطار يقول هيجل 1770-1831م عن المجتمع المدني هو المجتمع القائم على الملكية الخاصة، والليبرالية الاقتصادية، ومجتمع السوق وحرية الاستثمار، أما هوبس فيقول: المجتمع المدني هو مجتمع السوق، ويرى جون لوك بأن المجتمع المدني هو مجتمع الملكية الخاصة، في حين يشاطره الرأي أحد معاصريه فيرى من أن مؤسسات المجتمع المدني أصبحت إحدى المكونات الأساسية التي انبنت عليها طلائع البرجوازية الوليدة حيث أفضت أخيرا إلى النظام الرأسمالي المعاصر، ويرى هيجل أيضا بأن المجتمع المدني هو نظام المصالح الفردية، وهو فضاء الصراع الطبقي، في هذا السياق أيضا يرى ماركس 1818-1883م من أن المجتمع المدني هو المجتمع البرجوازي، وقلما استخدم ماركس عبارة المجتمع المدني ورأى كما يرى هيجل من أن المجتمع المدني هو مجال أو فضاء الصراع الطبقي، في هذا المنظور اعتبر الفكر الاشتراكي المجتمع المدني هو المجتمع البرجوازي، وهذا جدا صحيح من جانب تكونه التاريخي وتطلعاته الفكرية والسياسية..
الأمر الآخر الذي لابد من التذكير به هو أن المجتمع المدني ظاهرة أوربية من حيث المنشأ رافقت ظهور البرجوازية حتى صعودها كطبقة حاكمة على أنقاض النظام الإقطاعي، فجاء طرح مفهوم المجتمع المدني مرة تحت اسم المجتمع البرجوازي وأخرى باسم المجتمع التجاري، أما عودة مصطلح المجتمع المدني أو تكرار عودته بين فينة زمنية وأخرى تحت مسميات مغايرة وبصيغ مختلفة، جاء ذلك لأن المجتمع المدني كمفهوم عنى في كل مرة شيئا مغايرا كونه أتى في سياق متغير تاريخيا وبنيويا، يضاف إلى ذلك تراكم المعارف الإنسانية، فقد اقتصرت مطالب المجتمع المدني في البدء على الحقوق المدنية، ثم تطورت في حقبة لاحقة فاستقرت المطالبة على اعتبار المجتمع المدني قائما على التعاقد، وفي مرحلة ثالثة رؤي أنه من موجبات المجتمع المدني الانتخابات البرلمانية، ثم جاء توسيع نطاقها لتشمل مؤسسات أخرى عديدة، وفي مرحلة رابعة طالب المجتمع المدني بحقوق المواطنة كأعلى سقف لسواسية البشر وهكذا..
المجتمع المدني عملية تطورية بين حقبة زمنية وأخرى وهو يقود بالضرورة إلى الديمقراطية في آخر المطاف، في هذا السياق علينا التذكير من أن المواطنة والحقوق المدنية ناهيك عن المساواة بالآخرين ما كان يتحقق ذلك بيسر ولو حقوقيا في تلك الحقبة، فقد كان متعذرا على المواطن العادي من أن يمتلك أرضا ودارا وصوتا بتعبير فولتير في سياق آخر، ناهيك عن المساواة بالآخرين، كان النظام الطبقي القائم لا يزال في جبروته، وكان التمييز بين الطبقات فاضحا، والفارق بين الجنسين كبيرا جدا، فمثلا كمظهر من مظاهر التمييز الطبقي كان التصويت من حق الطبقة العليا وحدها، وظلّ هذا الأمر ساريا ومقتصرا على هذه الطبقة فحسب حتى الثلث الأول من القرن التاسع عشر، ثم كان الإصلاح الانتخابي في عام 1832م حينها سمح للطبقة الوسطى بالتصويت، أما العمال فلم يتمتعوا بهذا الحق إلا في نهاية القرن التاسع عشر، ولم يجز للنساء بالتصويت إلا في بدايات القرن العشرين، في الولايات المتحدة تحقق ذلك في عام 1920م وفي إنجلترا سمح لهن بالتصويت في عام 1928م..
بعد قيام الثورات البرجوازية وانتصارها في تأسيس دول قومية، عندها تحول النظام السياسي القائم من الملكية المطلقة واستنادها إلى الحق الإلهي المقدس تحول إلى ملكية دستورية أو جمهورية مسيجة بالدستور ومقيدة بالقوانين تستمد شرعيتها من الأرض لا من السماء..
تحاشيا لأية إشكالية أو خلط لا بد من التمييز والتفريق بين المجتمع المدني والمجتمع الأهلي، فالمكونات المجتمعية التي وجدت قبل انتشار الرأسمالية كانت تعرف بالمجتمع الأهلي، والمؤسسات ذات الأنشطة ومختلف الفعاليات في تلك الحقبة كانت توسم بتنظيمات المجتمع الأهلي، وهي لم تزل قائمة في أصقاع شتى من العالم وفي العالم العربي لاسيما في الريف وحيث تسود الحالة القبلية ومفهوم العشيرة، وهو عادة يتكون من ثلاثة محاور أو ثلاثة تكتلات..
1- مجتمع أو تكتل القبائل والعشائر والعائلات فضلا عن الطوائف والمذاهب، حيث كانت كل وحدة بمثابة دويلة ضمن السلطة القائمة.
2- مجتمع التكاتف الخيري، وهو عبارة عن فرق اجتماعية تتضامن على فعل الخير والإحسان على الفقراء..
3- مجتمع الطرق الصوفية وقد غطت مناطق واسعة، وهي كانت بمثابة أحزاب حتى أن بعضها كانت ذات مفاعيل إيجابية.
لقد فقدت هذه الوحدات أهميتها مع تشكل الدولة الحديثة بمضمون برجوازي وركائز قومية ومنطلقات عقلانية وقيم ديمقراطية..
إذا كانت الدعوة للمجتمع المدني جاءت في بدايات النهضة في القرن السادس عشر وما تلاه بغاية التحرر من إلهية الحاكم والخلاص من تواطؤ الكنيسة والإقطاع في مواجهة الطلائع البرجوازية، فإن أسباب الدعوة لمجتمع مدني اختلفت في النصف الأول من القرن العشرين لاسيما العقود الأخيرة منه وإلى تاريخ اليوم، فإن التأكيد على فكرة المجتمع المدني كمفهوم ضروري للديمقراطية جاء بعد معاناة مريرة مع أشكال وتجارب لمنظومات حكم كالفاشية والنازية في أوربا والشيوعية في المنظومة السوفييتية، والدينية والقومية في العالم الثالث على وجه الخصوص، سواء على صعيد الدولة أم على صعيد برامج الأحزاب، فالمجتمع المدني يدعو وجوب الحد من هيمنة الدولة وضرورة ممارسة الضغط على الحكومة لحماية المجتمع من تجاوزاتها، من هنا كان لزاما أن تتضمن الدعوة لمجتمع مدني حرية السوق الاقتصادية من جانب واستقلال وسائل الإعلام مع شبكة ناجحة من الجمعيات الطوعية تغطي سائر مناحي الحياة الاجتماعية، أي إدارة الشعب لشؤونه الخاصة سواء أكانت نقابات عمالية، أم جمعيات حرفية، أم تجمعات نسائية، أم منظمات خاصة بحقوق الإنسان أو منظمات سياسية اقتصادية مع حرية التعبير والاجتماع، وهذه المؤسسات عندما تتمتع باستقلال ذاتي سوف تملك القدرة في التأثير على جوانب هامة في سياسة الحكومة والحد من آثار التحكم والسيطرة..
أوربيا اختفت الدعوة إلى المجتمع المدني في الثلاثينيات من القرن العشرين، ويمكن التأريخ له برحيل غرامشي في عام 1937م لتعود الدعوة للمجتمع المدني مجددا في نهاية السبعينيات في سياق أحداث بولونيا وحركة التضامن، ثم ازداد ضجيج الدعوة في الثمانينيات مع أحداث أوربا الشرقية في عام 1989م التي هدفت إلى تقويض النظام الاشتراكي، وللحقيقة نقول ليس كل من دعا إلى المجتمع المدني في أوربا الشرقية كان ضد الاشتراكية، بل جلهم أراد إصلاح النظام القائم، والخلاص من البيروقراطية والجمود والتحجر، والتحرر من الخوف المستبد بهم، وبالتالي عدم تجرؤهم على قول كلمة الحق، أو التحرر من حالة التملق والتزلف للأعلى صاحب النفوذ واختفاء النقد الهادف للأسباب ذاتها..
قامت الدولة الحديثة في أوربا نتيجة انتصار الرأسمالية على الإقطاع، أما في المنطقة العربية فقد بدأت معالم الدولة الحديثة في بدايات القرن التاسع عشر مع قيام دولة محمد علي باشا في مصر والتأثر بحملة نابليون على مصر عام 1798م وما جاءت به الحملة من مضامين الحداثة الغربية، ثم كانت حملة إبراهيم باشا على سوريا عام 1832م لتطرق أبواب السلطنة العثمانية، من هنا كانت حركة الإصلاح في الدولة العثمانية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وكانت بمثابة تمهيد لقيام أسس الدولة الحديثة في المنطقة العربية في عهد الانتداب الفرنسي وبمضامين برجوازية مع انتشار الرأسمالية لكنها حملت في أحشائها كثيرا من سمات الدولة السلطانية..
في سوريا وفي فترة الانتداب الفرنسي وجدت عشرات بل مئات المؤسسات أو التنظيمات ذات الصبغة المدنية أو الأهلية، وفي فترة لاحقة فترة ما بعد الاستقلال كانت هناك أيضا مئات المكونات أو أشكال من مؤسسات وتنظيمات المجتمع المدني، لكنها كانت دون فاعلية تذكر، كانت خاوية النشاط كونها زرعت في أنظمة شمولية استبدادية لم تشهد أو لم تعش حياة ديمقراطية..
إن تشييد المجتمع المدني في العالم العربي يعني تحقيق جانب كبير من الديمقراطية، فالمجتمع المدني ليس مجرد إقامة المؤسسات المدنية الحديثة مع التنويه بأن الجميع يكاد يتفق من أن نشوء المجتمع المدني كفيل على إنتاج المجتمع لآليات الديمقراطية وكان غرامشي يقول من أن المجتمع المدني يؤدي إلى تدفق أمواج من الحريات وبالتالي الحد من مظاهر الفساد والتسلط والاستبداد..
علينا التنويه والتذكير هنا من أن مصطلح المجتمع المدني دخل ساحة الفكر العربي في العقدين الأخيرين من القرن المنصرم ومن أبرز رواده دون منازع الباحث المصري الدكتور سعد الدين إبراهيم فقد أصدر مركز دراسات الوحدة العربية تحت إشرافه دراسة وكتابا تحت عنوان المجتمع والدولة عام 1988م تناول فيها المجتمع المدني بشكل ملحوظ، ثم قام مركز ابن خلدون بإصدار نشرة شهرية بعنوان المجتمع المدني بإشراف الدكتور سعد الدين نفسه، كما أصدر في العام ذاته 1993م كتابا من تأليفه بعنوان المجتمع المدني ثم تتالت النشرات والكتب في المجتمع المدني، ومن نافل القول هنا التذكير والملاحظة من أن مفهوم المجتمع المدني يتغير مع تغير الموقف الفكري للمتكلم، فنظرة الليبرالي للمجتمع المدني تختلف عن نظرة الماركسي له، وهذه تختلف عن نظرة القومي وأيضا الديني وهكذا..
أخيرا نقول في هذا السياق والتناول المتشعب والإطالة لموضوع المجتمع المدني، نقول سوف نجمل حديثنا عن المجتمع المدني ربما في شكل آخر من التناول والتقديم لمزيد من الإيضاح بما يأتي:
بداية نذكر من أن المجتمع المدني في الدول القمعية والنظم الشمولية مقص عن الحيز العام، ورغم ذلك فهو يسعى لتأكيد دوره وتثبيت وجوده، ولهذا تطلق عليه أحيانا تسمية المجتمع المقاوم، ما يمكن قوله هنا من أن المجتمع المدني هو أحد أشكال تنظيم العلاقات فيما بين الأفراد والجماعات داخل المجتمع بغية تحقيق أهداف ومصالح أعضائها فضلا عن ممارستها لأنشطة متنوعة تدخل في خدمة سائر المواطنين عموما، المجتمع المدني هو جملة من المؤسسات والهيئات والمنظمات تؤسس لمد جسور من العلاقة والتضامن بين المواطنين، كما تعنى بشؤون مختلف فئات الشعب في ميادين شتى بغية تحقيق أغراض متعددة، منها سياسية كالمشاركة في صنع القرار على الصعيد الوطني كما في حال الأحزاب السياسية غير المنضوية تحت لواء الدولة، ومنها أغراض ثقافية كما في حال اتحاد الكتاب والمثقفين والجمعيات والمنتديات الهادفة بالأساس لنشر الوعي حسب رؤية كل ناد أو تنظيم، ومنها أيضا أغراض اجتماعية للإسهام في تحقيق التنمية، من هنا تتحقق المسؤولية الجماعية، كما أن وجود المجتمع المدني يرتبط باستكمال نشوء الدولة الحديثة القائمة على مفاهيم الحضارة والمعاصرة حول الديمقراطية والمؤسساتية وهي لا تنتج إلا دولة قوية متماسكة وفعالة، المجتمع المدني ينطوي على قيم عديدة في مقدمتها صون الحقوق، المواطنة المتساوية والمتكاملة من خلال التنوع، السلم والتسامح في إطار التعددية السياسية، من أهداف المجتمع المدني كما هو معلوم أيضا التنمية وعلى مختلف الصعد اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا، وأيضا تحقيق الديمقراطية، والمجتمع المدني هو العين الساهرة والرقيب الدائم على الدولة لضبط سلوك الأفراد والجماعات، وضرورة التقيد بكثير من الضوابط لتستقيم الحالة، والانصياع لتلك الضوابط باحترام النظم والقوانين ونبذ التعصب، وأهمية الحرية الدينية فيما يعتقد أو لا يعتقد “من شاء منكم فليؤمن ومن شاء فليكفر” المهم هنا المواطنة تساوي بين الجميع، يضمهم نظام يوحد، وقانون تسري نصوصه على الجميع، ويساوي بينهم مع ترك المجال واسعا للتنافس الحر السلمي، أي وجوب الدعوة الدائمة للتنمية ومزيد من الديمقراطية، لابد من إعلام حر ومسؤول يستند إلى الحجة والإقناع بعيدا عن أساليب القسر والعنف، لابد هنا من وجود قضاء مستقل يحكم بالعدل وينصف الجميع، لابد من بناء علاقات متزنة وواضحة مع الدولة على أن يكون المجتمع المدني بمختلف التنظيمات عونا للدولة بالمعنى الوطني لا عبئا عليها، لابد من التعاون معها وتقديم ما يمكن تقديمه لتحسين عملها في أي مجال كان..
المجتمع المدني هو الذي ينبغي أن ينتج المجتمع السياسي الديمقراطي، وهو شرط ضروري لتحقيق مبدأ المواطنة وقيام دولة الحق والقانون وتحقيق مبدأ مساواة المواطنين كافة أمام القانون..
المجتمع المدني هو شرط لازم للديمقراطية السياسية والاجتماعية لزوم المضمون للشكل، المجتمع المدني هو على العموم الرد على سلطة الحزب الواحد وعلى البيروقراطية وعلى ديكتاتوريات العالم الثالث، المجتمع المدني هو دولة مدنية يجمع بين الحاكم والمحكوم بإرادة مشتركة مع تبعية الدولة للمجتمع، هو أولا وأخيرا جملة مؤسسات وهيئات وتنظيمات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية تعمل في ميادين مختلفة (جمعيات، نواد، نقابات، اتحادات، روابط، منابر ثقافية ..إلخ”
إن وجود المجتمع المدني في الواقع السياسي يقضي على الاحتقان ويسمح بالشفافية ويؤسس لتعدد المنابر ويهتم بالرأي العام، الأحزاب السياسية من تجليات المجتمع المدني، لكن عندما تندمج بالسلطة تنفصل عن المجتمع المدني، المجتمع المدني مؤسسة مستقلة عن الدولة لكنها ليست متعارضة معها، وهو يعمل في إطار قوانين ويقوم على التعددية السياسية، وأخيرا نقول من أن المجتمع المدني هو مدخل وبوابة إلى النظام الديمقراطي، أو هو الديمقراطية ذاتها ..!