سليم عمر
لم يكن له عهدٌ بالنساء إلا ما ندَرَ، فقد كان جُلُّ زبائنه من الرجال ، يتوافدون عليه في كل وقت ، يسألونه عن محاريثهم :
ـ ( عزيزي هوسْتَه حسن ، كما ترى ، تكسّر مرة أخرى ، هلا أصلحته ؟ فديْتُك ، أصلحْه اليوم ، الشتاء على الأبواب ) .
لم يكن له عهدٌ بالنساء إلا ما ندَرَ، فقد كان جُلُّ زبائنه من الرجال ، يتوافدون عليه في كل وقت ، يسألونه عن محاريثهم :
ـ ( عزيزي هوسْتَه حسن ، كما ترى ، تكسّر مرة أخرى ، هلا أصلحته ؟ فديْتُك ، أصلحْه اليوم ، الشتاء على الأبواب ) .
كانت هذه الجمل ، تضرب أذنيه مع حلول الخريف ، و إلى أن ينتهي . يدخل عليه الرجال صباح مساء من القرى المجاورة لمدينة ديريك * ، و قد امتقعتْ وجوههم ، و نزل العرقُ غزيرا على جباههم ، فانحدر على الأجساد النحيفة حتى ملأ الخِفاف ،
و كثيرا ما كان الألم يعْصرُ صدره ، و هو يتأمل سَحْناتهم التي أحرقتْها الشمسُ ، يأتون إليه ، و قد انحنتْ ظهورهم ، يحملون إليه محاريثهم التي تكسَّرت في أرض ، امتلأتْ حجَراً ، لقد عملوا ما وَسعَهم في تنظيف حقولهم الصغيرة من الحجارة ، و مع ذلك فإنهم في كل مرة ، يعثرون فيها على ما يكفي ، لأن تحطّم هذه المحاريث الخشبية، لم تكن تجد أرضا خلَتْ منها تماما ، بل إنهم كانوا ، يعتقدون ، أن الحجارة تتكاثرُ في الربيع ، تماما كما يتكاثر النبْتُ، و في الحقيقة فإن الأمر ، لم يكن كذلك ، إذ أنَّ تلك الحجارة و بعض الصخور التي اختفتْ بين أثلام الفلاحة سرعان ما كانت تبرزُ من جديد ، و يلتمعُ سوادها ، و قد أزاح عنها مطرُ الشتاء ما علِقَ بها من تراب .
كانوا يلحّون عليه ، أن يُصلح المحاريثَ لحظة قبل أخرى ، و مع أنهم كانوا يعتقدون أنهم بتوسّلاتهم تلك ، سيحصلون على مبتغاهم ، إلا أن ذلك ، لم يكن ينفع في شيئ ، فقد تعلّم من والده ، أن لا يقدّم أحدا على أحد ، و إلا فقَد ثقة الجميع . كان يُلقي نظرة على المحراث ، ثم يحدّد الأجْر ، و الزمن الذي يحتاجه لإصلاحه ، و لذلك فإن الذين كان لهم عهْدٌ به ، لا يساومونه في شيئ ، حتى أن البعض منهم كان يسأل فقط عن اليوم الذي سينتهي فيه من إصلاحه ، كانوا أحيانا يتندرون فيما بينهم ، فيقولون فيه : ( هذا الغصنُ من تلك الشجرة) .
كان يُسعده أنهم يشبّهونه بوالده ، فلم يكن يصدّق نفسه ، أنه سيملأ الفراغ الذي خلفه والده وراءه ، أو أنه سيتمكّن من أن ينهض بالحِمل الذي تركه له ، أو أنه سيقضي العمرَ ، يصلح في هذه المحاريث التي تتوافد عليه محطّمة ، فقد كان يمنّي النفس دائما ، أنه سيأتي يوم ،يضع فيه حقيبة المدرسة على ظهره ، و أنه سيكون له شأن آخر ، إنه لا يصدّق حتى اللحظة ، كيف أن كل أحلامه قد ضاعتْ ، كيف حدَث ، و أن مات والده ، فقد كان ممْتلئا قوة ، و طموحا ، و أملا، كان ذلك في الشهر الأخير من الخريف ، و قد كان أمامهم بالكاد عملُ ساعة ، ثم يتوجهون إلى المنزل لتناول طعام الغداء ، حين بدرتْ منه التفافة إلى والده ، فوجده ، و قد وضع منشاره جانبا ، وانتصب بقامته المديدة ، و هويحاول أن يتنفس بعمق ، ثم نادى عليه بكلمات متقطعة :
– يا حسن . إن صدري يتمزّق . أسرعْ إلى عمّك رمزي .
و قبل أن يفْهم أيّ شيئ ، هوى والده إلى الأرض . زاغتْ عيناه في الفراغ ، و انتفض جسدُه كما لو أنّ رأسه قد قُطِعت ، و راحت يداه و قدماه ، تتحركان في كل اتجاه ، و خرج الزبد من بين أسنانه . أسْرعَ إليه مذعورا ، يحاول النهوضَ به ، ثم تركه فأسرع إلى الباب ، ثم عاد إليه ثانية ، فناداه بصوت مختنق ، ثم ركض إلى الباب يستنْجدُ ، و عندما التفّ عليه القومُ ، كان والدُه قد مات .
مات هوسْتَه رشيد ، و ترك له أما و أختين ، و جرْحا لا يندمل ، كان أكثر ما يحزّ في نفسه ، سحابةُ الحزن التي لم تعد تفارق وجه أمه ، و ركونُها خلسة إلى إحدى زوايا المنزل ، كلما خلا لها البيتُ ، تذرف الدمع ، لم يجفْ لهاجفن ، لكأنما كانت تغرف الدمع من بحر . فاجأها في إحدى المرات ، فأسرعت إلى كُمّ ثوبها ، تمسح به ما تبلل من وجهها ، و حين هدأت منها الحُرْقة ، رفعت إليه رأسها ، و قالت :
ـ هوسْتَه حسن ، فديْتك ، وقع الحِملُ على ظهرك . ليس لنا أحدٌ غيرك . كل الذين تعرفهم غارقون في همومهم . لا تخيّب أملنا فيك .
و امتلأت مقلتاها مجدّدا دمعا . أصابته قشعريرة في جسده ، قفّ شعرُ رأسه . أول مرة تنعته أمه بهذا اللقب . كان زبائن والده يتندّرون به أحيانا فيلقبونه ( هوسته الصغير ) أما أمه فتعني بذلك شيئا آخر . لم يستطع أن ينطق كلمة واحدة ،اقترب منها ، فقبّل يدها ، و خرج ، لم يكن وقتها يحتاج إلى مزيد من التفكير ( هناك عمل كثير ينتظرني في المشغل ) .
و ترك كل شيئ خلفه ، رفاقَ الحي ، و أمسياتِ الصيف ، و فريق الكرة . في البداية كان يعتقد ، أن السنوات السبع التي لازم فيها والده المشغل ، ليست كافية ، لأن يتقن كل ما له علاقة بالمحاريث ، صنْعُها ، و إصلاحها ، إلا أن شعورا من الراحة ، بدأ يداخله ، و قد باشرَ العمل بمفرده ، لا بل إن ذلك الشعور ، كان يزداد مساحة ، و هو يتذكر كل شيئ ، قام به والده ، ولميكدْ يمرّ وقت طويل ، حتى نسي لحظات التردّد التي كانت تنتابه ، و هو يفتح باب المشغل في كل صباح ، حتى إنه أَلِفَ اللّقب ، وَ وجده ليس كثيرا عليه .
ألقى نظرة على دفتر مواعيده ، فوجد ، أن عليه ، أن ينتهي من إصلاح كرسي خشبي ، حملتْه إليه صديقة أمه ، و جارته في المشغل ، هو لا يُدخل غير المحاريث إلى مشغله ، فهو بالكاد ، يجد الوقت الكافي للعمل فيها ، إلا أنه ، لا يستطيع ، أن يردّ أم كامل ، وصيّةَ أمه ، و حين يجد الوقت ، فإنه يجلس إليها ، يحتسي معها كأسا من الشاي ، و كثيرا ما تحدثه عن أيام خلَتْ، ربما هي الوحيدة التي تتردد عليه ، أما ما تبقى من النسوة اللواتي ، يطرقن باب المشغل ، يحْملْن إليه ملاعق الخشب ، أو مَناخِل الدقيق ، أو مغازل الصوف ، فإنه يُصْرفهن بلباقة .
كان يطْرِق آخر مسمار في لوحة الخشب الدائرية الرقيقةالتي ، فصّلها لمقعد الكرسي بدلا من القش التالف الذي ، كان يضم أطرافه ، عندما دخلت عليه سلمى .استوى بقامته ، حمل الكرسي ، و مشى نحوها :
ـ مرحبا بك سلمى . يبدو أنك لم تعودي إلى القرية بعد ؟ .
ـ و لنْ أعود .
استغرب لهجتها ، و إصرارها .فقال مبتسما :
ـ إذاً فقد أحببْتِ ديريك ؟ .
ـ و أهلَها أيضا . سأبقى هنا .
بدا له ، أنها كانت منْفعلة إلى حدٍّ ما ، و هي تُمْعن فيه النظر ، لكأنما تكْتشفهُ لأول مرة ، و قد انتصبت أمامه بقامتها المائلة إلى الطول ، و جسدها الممْتليئ ، و وجهها المشوب بسمرة نقيّة ، و قد استطال قليلا ، فوسّع بين شفتيها الناعمتين ، ليبرز من خلالهما خطٌ بالكاد تتبيّنه من بياض أسنانها ، و قد انسدل من رأسها شعرُها الأسودُ الكثيفُ ، فتركته مُرْسلا ، لم يغطِّ شالُها الحريريُّ بلونه البني الفاتح غير القليل منه .
ـ أنتِ هنا لتأخذي الكرسي ؟ لقد انتهيت منه للتو .
ـ نعم سآخذه معي . إذا لم يكن لديك مانع .
ـ لا بالتأكيد . و لكن أينعمتك أم كامل ؟
ـ كانت مشغولة ، فأتيت بدلا عنها .
ـ كما تريدين .
رفع الكرسي بيمناه ، ثم قال مبتسما :
ـ إذاً سنراك مرة أخرى ، ما دمت ستبقين في ديريك .
ـ هذا لا يكفي . أريد أن أتحدّث معك .
فاجأتْهُ بطلبها . وضع الكرسي جانبا . تطلع إلى ساعته ، فوجدها ، و قد تجاوزت الواحدة بدقائق قليلة . موعد استراحة الظهيرة ، أمه و أخواته ينتظرْنه على طعام الغداء .
ـ قولي ما تريدين . هأنا ذا أمامك .
تحركت قليلا ، رفعت عينيها إليه ، و قد صعد الدم إلى وجهها ، فأضفى شيئا من الحمرة على خدّيها ، فقالت في ارتباك واضح :
ـ هنا لا يصلح .
قال ببرود :
ـ أين يصلح إذاً ؟ …. في بيتنا مثلا ؟
زاد ارتباكها . تلعْثمت قليلا ، إلا أن الاصرار كان واضحا على ملامحها :
ـ خلف الكنيسة ، الكنيسة القديمة ، هناك فسحة صغيرة خالية في أغلب الأوقات .
احتار قليلا . لم يفهم شيئا . سكت للحظات معدودة ، و قبل أن يفتح فهمه . حدّقت في عينيه ، و قالت ، وقد ارتسمت ابتسامة مشرقة على محياها ، و كان واضحا أنها استعادت شيئا من توازنها :
ـ لا تخفْ . لن يأكلك أحدٌ .
ابتسم هو الآخر ، و بنبرة خانقة قال :
ـ متى ؟ فردت عليه بثقة :
ـ غدا في الصباح ، و قبل أن تذهب إلى المشغل .
أزاح عينيه عن نظراتها الحادة ، تناول الكرسي ثانية ، و كمن يحدث نفسه ، قال :
ـ كما تريدين .
لم يشغلْه الموقف كثيرا ، و مع أنه فكّر للحظات فيما دفعها لأن تتحدث معه ، و لماذا اختارتْ ذلك المكان بالذات ، إلا أنه لم يجد لذلك جوابا ، و لم تأخذه الحيْرة كثيرا ، إذ سرعان ما عاد إلى نفسه ، و وجد أن عليه ، أن يعيد بعض أدوات العمل إلى أماكنها ، ليسرع الخطو إلى المنزل ، قبل أن تفتقده أمه ، فترسل في أثره الصغيرة شيرين ، فالجميع في هذا المنزل اكتسبوا دقة المواعيد من هوسْته رشيد ، و عندما يتأخر عليها دقائق ، فإنها تظل تتساءل فيما بينها ، و تسأل البنات :
ـ لم يصل هوسْته حسن بعدُ ، هلا ألقيتم نظرة على الشارع .
عندما استيقظ من النوم ، لم يكن الوقت متأخرا على ذهابه إلى المشغل ، كان لا يزال أمامه متسع من الوقت ، ليلبس ، و ليتتناول الفطورَ مع أمه و أختيه ، و تذكّر أن عليه أن يقابل سلمى ، اختلطت افكاره للحظات ، قلّب عينيه فيالفراغ ، و قبل أن يستقرّ على شيئ ، طرق مسامعه صوتُ أمه تخاطبه :
ـ هوسْتَه حسن ، فديتُك ، لا تنسَ ، أن تمرَّ اليوم على عمّك رمزي . علمت أنه طريح الفراش منذ أمسِ .
ـ سأفعل ذلك يا أمي ، و لكن ليس الآن ، سأذهب إليهم مساء .
كانت غيوم متفرقة ، غلب عليها البياض ، تتحرك في السماء ، فتحجب الشمس الطالعة للتو بين الحين و الحين ، و قد هبّ على المدينة رياح رطْبة ، ممزوجة ببرودة منعشة ، بينما كانت مدينة ديريك ، لا تزال هادئة في ذلك اليوم الربيعي من شهر نيسان ( أنا لا أعرف ما الذي دفعها لأن تلحّ على هذا الموعد ؟ لقد كان بإمكانها أن تقول أي شيئ في المشغل ؟ ) .
هز رأسه ، و تابع السير في الأزقة المتعرجة من الحي ( عشرُ دقائق تكفي ، لأن تشرَحَ ما تريد ، لا أستطيع أن أبقى معها أكثر من ذلك . ) و أدرك أنه يحادث نفسه ، انتابه شعور من الخجل ، و لكنه تابع طريقه ، و عندما استدار إلى الشارع الجانبي من الكنيسة ، و رفع رأسه ، كانت ابتسامتها العريضة ، تملأ وجهها ، تنتظر منتصبة القامة على حافة الرصيف ، فتركت الريح تضرب ثيابها الرقيقة ، بينما أزاحت الشال عن شعرها ، و عن عنقها ، فبدت كنبتة طرية تمايلت مع نسمة الصباح . اقترب منها ، فتحركت نحوه ، تتطلع إليه بشغف ، فقال بهدوء :
ـ هأنذا أقف أمامك يا سلمى ، قولي ما تريدين .
حدّقتْ في عينيه ، فقالت ، و الابتسامة لا تفارق شفتيها :
ـ و أنت . أليس عندك ما تقوله ؟لمْ تسألني لماذا لا أريد العودة إلى قديريك * ؟
ـ لم يخطر ذلك ببالي .
ـ ما الذي خطر ببالك إذا ؟ ألم تسأل نفسك لمَ أنتَ هنا ؟
ـ أنت طلبتِ ذلك .
ـ و لم يخطر ببالك أي شيئ ؟
ـ سلمى أرجوك ، ليس لدي الكثير من الوقت .لديّ عمل كثير ، و علي أن أنجزه ، عليّ أن أنتهي اليوم من محراث الحاج رمّو .
ـ ليس لديك َ وقت ؟ ! محراث الحاج رمّو ؟ !! .
ردّدت كلماتِه بانفعال ، ثم سكتتْ للحظاتٍ ، و قد بدا عليها توتّرشديد ، فقد كانت شفتاها الرقيقتان ترتجفان ، بيما انطفأ ذلك البريق الساحر من عينيها ، و صعد الدم إلى وجهها ، فأضفى على سَحْنتها قتامةً ، لم يكن لها أثر قبل لحظات .
اقتربتْ منه ، و هي تتطلع إليه بشراسة ، و حين أصبحت في مواجهته تماما ، رفعتْ يمناها عالياً ، فصفعتْهُ بكل قوتها .
ذُهل في مكانه ، و تجمّدت دماؤوه في عروقه ، خُيّل إليه ، أنه سقط من علوّ شاهق ، و أن الكون قد دار من حوله ، و قبل أن يستعيد توازنه ، خرجت الكلمات من فمها كاالرصاص :
ـ أنتَ لا تعملُ في المحاريث فقطْ ، لقد تحوّلت إلى محراث تالف ، إنك لا تستحقُّ كل ما أعانيه من ألم ، و من حُرقة . فَقدْتُك من بين الرجال .
أدارتْ ظهرها ، و مشتْ .
وقف في مكانه مصدوما ، ألقى نظرة على المكان ، لم تقع عيناه على شيئ ، نظر في الزقاق الذي سارت فيه سلمى ، لم يرَ لها أيّ أثر ، حاول أن يتذكر ما حدث ، إلا أن ذاكرته لم تسعفه في تلك اللحظة ، كان يشعر بثقل في رأسه ، ساورته رغبة في الجلوس على حافة الرديف ، إلا أنه طرح الفكرة جانبا ، و عندما استعاد نفسهُ ، سار نحو المشغل بخطوات رتيبة . لم يشعر بثقل الوقت في أي يوم مثلما هو الآن ، تمنى لو أن الزمن عاد إلى الوراء ، إذاً لتفادى هذا اللقاء كلّهُ ( أنا لم أُغْضبْها في شيئ ؟ ! لماذا تصرفت بكل هذا العنف ؟ ! ) .
لم يكن ذلك اليوم بالنسبة إلى هوسْته حسن يوما عاديا ، فقدْ ركِبه همٌّ ثقيل . كان ذهنه مشتّتا ، بينما كان رأسه مشدودا إلى الأرض، و كانت عيناه تجولان في الفراغ ، يسْهو لبعض الوقت ، فيتمتم بكلمات متقطعة ، ثم يعود إلى نفسه مرة أخرى . لم يكن منهارا من الداخل تماما ، إلا أنه كان يفتقد الحوية التي ، كانت تملأ جسده كل صباح ، و هو يباشر العمل ، و لذلك فقد ارتأى ، أن يُنهي فترة الصباح قبل وقتها المألوف ، و من غير أن يتطلع إلى ساعته ، ترك كل شيئ في مكانه ، و خرج .
عندما دخل المنزل ، كانت أمه منشغلة بإعداد طعام الغداء ، و حين لمحتْه ، استوت واقفة ، فبسْملتْ ، و سارت نحوه :
ـ أنت اليوم على غير عادتك ! ؟ أرجو أن لا يكون قد أصابك مكروه .
ـ لا يا أمي ، أنا بخير .
ـ إذاً عليك أن تصبر قليلا ، إلى أن أنتهي من إعداد الطعام .
ـ سأصبر يا أمي ، سأتمدّد قليلا ريثما تنتهين .
و قبل أن يمدَّ قدميه على طولهما ، و قد استلقى على الأريكة المقابلة لباب الأيوان ، جاءه صوت أمه من الغرفة الثانية :
ـ أتعرف من كان عندنا هذا الصباح ؟
ـ و من أين لي أن أعرف يا أمي ! لم يقل لي أحد .
ـ سلمى . كانت مع عمتها أم كامل ، جاءت تودّعُنا . قالت عمتُها إنها قرّرت فجأة ، أن تعود إلى القرية ، قالت إنها طوال الشهرين الماضيين ، كانت ، تؤكد على أنها ، لن تعود إلى قديريك مرة أخرى ، و أنها ، لم تكن ، تكترث لنداءات والديها لكي تعود ، و فجأة انقلب بها الحال . قالت إنها خرجتْ هذا الصباح لدقائق ، و عندما عادتْ ، كانتْ شخصا آخر ، لمْلمتْ حاجياتها على عجل ، و أصرّت على أن تعود اليوم .
جُفّ ريقه في حلقه ، لم ينبس ببنت شفة . ركّز ذهنه على كل كلمة نطقتْها أمه ، دار به الخيال في كل اتجاه ، حديث المشغل ، و موعد الصباح ، و … الصفعة التي هزت كيانه ، و لما لم تسمعْ منه أمه أي ردّ ، قالت بصوت خافت :
ـ هل نمْتَ هوسْته حسن ؟
ـ لا يا أمي ، لم أنمْ ، أسمعك .
ـ لو رأيتها ، لأشفقْت عليها ، كم كانت حزينة . كانت عيناها ، تزوغان في الفراغ ، و كانتْ تقصّرُ في الحديث ، و لو استرْسلتْ فيه ، لا نهمرتْ دموعها ، حاولنا أن نعرف منها أي شيئ ، أن نعرفَ ما الذي دفعها ، لأن تنقلب على نفسها فجأَة ، و تقرّر الرحيلَ، و لكن من غير طائل . لم نفهمْ شيئا .
و خرجت الكلماتُ من فمه هشّة ، متقطعة ، و دونما إرادة منه :
ـ أنا أيضا ، لمْ أفهمْ شيئا يا أمي .
————————————————————————————-
* هوسْته : معلم الحرفة
* ديريك : إحدى مدن كوردستان الغربية
* قديريك : قرية تقع بين ديريك و نهر دجلة
salimbahoz@hotmail.com
21 / 08 / 2013
كانوا يلحّون عليه ، أن يُصلح المحاريثَ لحظة قبل أخرى ، و مع أنهم كانوا يعتقدون أنهم بتوسّلاتهم تلك ، سيحصلون على مبتغاهم ، إلا أن ذلك ، لم يكن ينفع في شيئ ، فقد تعلّم من والده ، أن لا يقدّم أحدا على أحد ، و إلا فقَد ثقة الجميع . كان يُلقي نظرة على المحراث ، ثم يحدّد الأجْر ، و الزمن الذي يحتاجه لإصلاحه ، و لذلك فإن الذين كان لهم عهْدٌ به ، لا يساومونه في شيئ ، حتى أن البعض منهم كان يسأل فقط عن اليوم الذي سينتهي فيه من إصلاحه ، كانوا أحيانا يتندرون فيما بينهم ، فيقولون فيه : ( هذا الغصنُ من تلك الشجرة) .
كان يُسعده أنهم يشبّهونه بوالده ، فلم يكن يصدّق نفسه ، أنه سيملأ الفراغ الذي خلفه والده وراءه ، أو أنه سيتمكّن من أن ينهض بالحِمل الذي تركه له ، أو أنه سيقضي العمرَ ، يصلح في هذه المحاريث التي تتوافد عليه محطّمة ، فقد كان يمنّي النفس دائما ، أنه سيأتي يوم ،يضع فيه حقيبة المدرسة على ظهره ، و أنه سيكون له شأن آخر ، إنه لا يصدّق حتى اللحظة ، كيف أن كل أحلامه قد ضاعتْ ، كيف حدَث ، و أن مات والده ، فقد كان ممْتلئا قوة ، و طموحا ، و أملا، كان ذلك في الشهر الأخير من الخريف ، و قد كان أمامهم بالكاد عملُ ساعة ، ثم يتوجهون إلى المنزل لتناول طعام الغداء ، حين بدرتْ منه التفافة إلى والده ، فوجده ، و قد وضع منشاره جانبا ، وانتصب بقامته المديدة ، و هويحاول أن يتنفس بعمق ، ثم نادى عليه بكلمات متقطعة :
– يا حسن . إن صدري يتمزّق . أسرعْ إلى عمّك رمزي .
و قبل أن يفْهم أيّ شيئ ، هوى والده إلى الأرض . زاغتْ عيناه في الفراغ ، و انتفض جسدُه كما لو أنّ رأسه قد قُطِعت ، و راحت يداه و قدماه ، تتحركان في كل اتجاه ، و خرج الزبد من بين أسنانه . أسْرعَ إليه مذعورا ، يحاول النهوضَ به ، ثم تركه فأسرع إلى الباب ، ثم عاد إليه ثانية ، فناداه بصوت مختنق ، ثم ركض إلى الباب يستنْجدُ ، و عندما التفّ عليه القومُ ، كان والدُه قد مات .
مات هوسْتَه رشيد ، و ترك له أما و أختين ، و جرْحا لا يندمل ، كان أكثر ما يحزّ في نفسه ، سحابةُ الحزن التي لم تعد تفارق وجه أمه ، و ركونُها خلسة إلى إحدى زوايا المنزل ، كلما خلا لها البيتُ ، تذرف الدمع ، لم يجفْ لهاجفن ، لكأنما كانت تغرف الدمع من بحر . فاجأها في إحدى المرات ، فأسرعت إلى كُمّ ثوبها ، تمسح به ما تبلل من وجهها ، و حين هدأت منها الحُرْقة ، رفعت إليه رأسها ، و قالت :
ـ هوسْتَه حسن ، فديْتك ، وقع الحِملُ على ظهرك . ليس لنا أحدٌ غيرك . كل الذين تعرفهم غارقون في همومهم . لا تخيّب أملنا فيك .
و امتلأت مقلتاها مجدّدا دمعا . أصابته قشعريرة في جسده ، قفّ شعرُ رأسه . أول مرة تنعته أمه بهذا اللقب . كان زبائن والده يتندّرون به أحيانا فيلقبونه ( هوسته الصغير ) أما أمه فتعني بذلك شيئا آخر . لم يستطع أن ينطق كلمة واحدة ،اقترب منها ، فقبّل يدها ، و خرج ، لم يكن وقتها يحتاج إلى مزيد من التفكير ( هناك عمل كثير ينتظرني في المشغل ) .
و ترك كل شيئ خلفه ، رفاقَ الحي ، و أمسياتِ الصيف ، و فريق الكرة . في البداية كان يعتقد ، أن السنوات السبع التي لازم فيها والده المشغل ، ليست كافية ، لأن يتقن كل ما له علاقة بالمحاريث ، صنْعُها ، و إصلاحها ، إلا أن شعورا من الراحة ، بدأ يداخله ، و قد باشرَ العمل بمفرده ، لا بل إن ذلك الشعور ، كان يزداد مساحة ، و هو يتذكر كل شيئ ، قام به والده ، ولميكدْ يمرّ وقت طويل ، حتى نسي لحظات التردّد التي كانت تنتابه ، و هو يفتح باب المشغل في كل صباح ، حتى إنه أَلِفَ اللّقب ، وَ وجده ليس كثيرا عليه .
ألقى نظرة على دفتر مواعيده ، فوجد ، أن عليه ، أن ينتهي من إصلاح كرسي خشبي ، حملتْه إليه صديقة أمه ، و جارته في المشغل ، هو لا يُدخل غير المحاريث إلى مشغله ، فهو بالكاد ، يجد الوقت الكافي للعمل فيها ، إلا أنه ، لا يستطيع ، أن يردّ أم كامل ، وصيّةَ أمه ، و حين يجد الوقت ، فإنه يجلس إليها ، يحتسي معها كأسا من الشاي ، و كثيرا ما تحدثه عن أيام خلَتْ، ربما هي الوحيدة التي تتردد عليه ، أما ما تبقى من النسوة اللواتي ، يطرقن باب المشغل ، يحْملْن إليه ملاعق الخشب ، أو مَناخِل الدقيق ، أو مغازل الصوف ، فإنه يُصْرفهن بلباقة .
كان يطْرِق آخر مسمار في لوحة الخشب الدائرية الرقيقةالتي ، فصّلها لمقعد الكرسي بدلا من القش التالف الذي ، كان يضم أطرافه ، عندما دخلت عليه سلمى .استوى بقامته ، حمل الكرسي ، و مشى نحوها :
ـ مرحبا بك سلمى . يبدو أنك لم تعودي إلى القرية بعد ؟ .
ـ و لنْ أعود .
استغرب لهجتها ، و إصرارها .فقال مبتسما :
ـ إذاً فقد أحببْتِ ديريك ؟ .
ـ و أهلَها أيضا . سأبقى هنا .
بدا له ، أنها كانت منْفعلة إلى حدٍّ ما ، و هي تُمْعن فيه النظر ، لكأنما تكْتشفهُ لأول مرة ، و قد انتصبت أمامه بقامتها المائلة إلى الطول ، و جسدها الممْتليئ ، و وجهها المشوب بسمرة نقيّة ، و قد استطال قليلا ، فوسّع بين شفتيها الناعمتين ، ليبرز من خلالهما خطٌ بالكاد تتبيّنه من بياض أسنانها ، و قد انسدل من رأسها شعرُها الأسودُ الكثيفُ ، فتركته مُرْسلا ، لم يغطِّ شالُها الحريريُّ بلونه البني الفاتح غير القليل منه .
ـ أنتِ هنا لتأخذي الكرسي ؟ لقد انتهيت منه للتو .
ـ نعم سآخذه معي . إذا لم يكن لديك مانع .
ـ لا بالتأكيد . و لكن أينعمتك أم كامل ؟
ـ كانت مشغولة ، فأتيت بدلا عنها .
ـ كما تريدين .
رفع الكرسي بيمناه ، ثم قال مبتسما :
ـ إذاً سنراك مرة أخرى ، ما دمت ستبقين في ديريك .
ـ هذا لا يكفي . أريد أن أتحدّث معك .
فاجأتْهُ بطلبها . وضع الكرسي جانبا . تطلع إلى ساعته ، فوجدها ، و قد تجاوزت الواحدة بدقائق قليلة . موعد استراحة الظهيرة ، أمه و أخواته ينتظرْنه على طعام الغداء .
ـ قولي ما تريدين . هأنا ذا أمامك .
تحركت قليلا ، رفعت عينيها إليه ، و قد صعد الدم إلى وجهها ، فأضفى شيئا من الحمرة على خدّيها ، فقالت في ارتباك واضح :
ـ هنا لا يصلح .
قال ببرود :
ـ أين يصلح إذاً ؟ …. في بيتنا مثلا ؟
زاد ارتباكها . تلعْثمت قليلا ، إلا أن الاصرار كان واضحا على ملامحها :
ـ خلف الكنيسة ، الكنيسة القديمة ، هناك فسحة صغيرة خالية في أغلب الأوقات .
احتار قليلا . لم يفهم شيئا . سكت للحظات معدودة ، و قبل أن يفتح فهمه . حدّقت في عينيه ، و قالت ، وقد ارتسمت ابتسامة مشرقة على محياها ، و كان واضحا أنها استعادت شيئا من توازنها :
ـ لا تخفْ . لن يأكلك أحدٌ .
ابتسم هو الآخر ، و بنبرة خانقة قال :
ـ متى ؟ فردت عليه بثقة :
ـ غدا في الصباح ، و قبل أن تذهب إلى المشغل .
أزاح عينيه عن نظراتها الحادة ، تناول الكرسي ثانية ، و كمن يحدث نفسه ، قال :
ـ كما تريدين .
لم يشغلْه الموقف كثيرا ، و مع أنه فكّر للحظات فيما دفعها لأن تتحدث معه ، و لماذا اختارتْ ذلك المكان بالذات ، إلا أنه لم يجد لذلك جوابا ، و لم تأخذه الحيْرة كثيرا ، إذ سرعان ما عاد إلى نفسه ، و وجد أن عليه ، أن يعيد بعض أدوات العمل إلى أماكنها ، ليسرع الخطو إلى المنزل ، قبل أن تفتقده أمه ، فترسل في أثره الصغيرة شيرين ، فالجميع في هذا المنزل اكتسبوا دقة المواعيد من هوسْته رشيد ، و عندما يتأخر عليها دقائق ، فإنها تظل تتساءل فيما بينها ، و تسأل البنات :
ـ لم يصل هوسْته حسن بعدُ ، هلا ألقيتم نظرة على الشارع .
عندما استيقظ من النوم ، لم يكن الوقت متأخرا على ذهابه إلى المشغل ، كان لا يزال أمامه متسع من الوقت ، ليلبس ، و ليتتناول الفطورَ مع أمه و أختيه ، و تذكّر أن عليه أن يقابل سلمى ، اختلطت افكاره للحظات ، قلّب عينيه فيالفراغ ، و قبل أن يستقرّ على شيئ ، طرق مسامعه صوتُ أمه تخاطبه :
ـ هوسْتَه حسن ، فديتُك ، لا تنسَ ، أن تمرَّ اليوم على عمّك رمزي . علمت أنه طريح الفراش منذ أمسِ .
ـ سأفعل ذلك يا أمي ، و لكن ليس الآن ، سأذهب إليهم مساء .
كانت غيوم متفرقة ، غلب عليها البياض ، تتحرك في السماء ، فتحجب الشمس الطالعة للتو بين الحين و الحين ، و قد هبّ على المدينة رياح رطْبة ، ممزوجة ببرودة منعشة ، بينما كانت مدينة ديريك ، لا تزال هادئة في ذلك اليوم الربيعي من شهر نيسان ( أنا لا أعرف ما الذي دفعها لأن تلحّ على هذا الموعد ؟ لقد كان بإمكانها أن تقول أي شيئ في المشغل ؟ ) .
هز رأسه ، و تابع السير في الأزقة المتعرجة من الحي ( عشرُ دقائق تكفي ، لأن تشرَحَ ما تريد ، لا أستطيع أن أبقى معها أكثر من ذلك . ) و أدرك أنه يحادث نفسه ، انتابه شعور من الخجل ، و لكنه تابع طريقه ، و عندما استدار إلى الشارع الجانبي من الكنيسة ، و رفع رأسه ، كانت ابتسامتها العريضة ، تملأ وجهها ، تنتظر منتصبة القامة على حافة الرصيف ، فتركت الريح تضرب ثيابها الرقيقة ، بينما أزاحت الشال عن شعرها ، و عن عنقها ، فبدت كنبتة طرية تمايلت مع نسمة الصباح . اقترب منها ، فتحركت نحوه ، تتطلع إليه بشغف ، فقال بهدوء :
ـ هأنذا أقف أمامك يا سلمى ، قولي ما تريدين .
حدّقتْ في عينيه ، فقالت ، و الابتسامة لا تفارق شفتيها :
ـ و أنت . أليس عندك ما تقوله ؟لمْ تسألني لماذا لا أريد العودة إلى قديريك * ؟
ـ لم يخطر ذلك ببالي .
ـ ما الذي خطر ببالك إذا ؟ ألم تسأل نفسك لمَ أنتَ هنا ؟
ـ أنت طلبتِ ذلك .
ـ و لم يخطر ببالك أي شيئ ؟
ـ سلمى أرجوك ، ليس لدي الكثير من الوقت .لديّ عمل كثير ، و علي أن أنجزه ، عليّ أن أنتهي اليوم من محراث الحاج رمّو .
ـ ليس لديك َ وقت ؟ ! محراث الحاج رمّو ؟ !! .
ردّدت كلماتِه بانفعال ، ثم سكتتْ للحظاتٍ ، و قد بدا عليها توتّرشديد ، فقد كانت شفتاها الرقيقتان ترتجفان ، بيما انطفأ ذلك البريق الساحر من عينيها ، و صعد الدم إلى وجهها ، فأضفى على سَحْنتها قتامةً ، لم يكن لها أثر قبل لحظات .
اقتربتْ منه ، و هي تتطلع إليه بشراسة ، و حين أصبحت في مواجهته تماما ، رفعتْ يمناها عالياً ، فصفعتْهُ بكل قوتها .
ذُهل في مكانه ، و تجمّدت دماؤوه في عروقه ، خُيّل إليه ، أنه سقط من علوّ شاهق ، و أن الكون قد دار من حوله ، و قبل أن يستعيد توازنه ، خرجت الكلمات من فمها كاالرصاص :
ـ أنتَ لا تعملُ في المحاريث فقطْ ، لقد تحوّلت إلى محراث تالف ، إنك لا تستحقُّ كل ما أعانيه من ألم ، و من حُرقة . فَقدْتُك من بين الرجال .
أدارتْ ظهرها ، و مشتْ .
وقف في مكانه مصدوما ، ألقى نظرة على المكان ، لم تقع عيناه على شيئ ، نظر في الزقاق الذي سارت فيه سلمى ، لم يرَ لها أيّ أثر ، حاول أن يتذكر ما حدث ، إلا أن ذاكرته لم تسعفه في تلك اللحظة ، كان يشعر بثقل في رأسه ، ساورته رغبة في الجلوس على حافة الرديف ، إلا أنه طرح الفكرة جانبا ، و عندما استعاد نفسهُ ، سار نحو المشغل بخطوات رتيبة . لم يشعر بثقل الوقت في أي يوم مثلما هو الآن ، تمنى لو أن الزمن عاد إلى الوراء ، إذاً لتفادى هذا اللقاء كلّهُ ( أنا لم أُغْضبْها في شيئ ؟ ! لماذا تصرفت بكل هذا العنف ؟ ! ) .
لم يكن ذلك اليوم بالنسبة إلى هوسْته حسن يوما عاديا ، فقدْ ركِبه همٌّ ثقيل . كان ذهنه مشتّتا ، بينما كان رأسه مشدودا إلى الأرض، و كانت عيناه تجولان في الفراغ ، يسْهو لبعض الوقت ، فيتمتم بكلمات متقطعة ، ثم يعود إلى نفسه مرة أخرى . لم يكن منهارا من الداخل تماما ، إلا أنه كان يفتقد الحوية التي ، كانت تملأ جسده كل صباح ، و هو يباشر العمل ، و لذلك فقد ارتأى ، أن يُنهي فترة الصباح قبل وقتها المألوف ، و من غير أن يتطلع إلى ساعته ، ترك كل شيئ في مكانه ، و خرج .
عندما دخل المنزل ، كانت أمه منشغلة بإعداد طعام الغداء ، و حين لمحتْه ، استوت واقفة ، فبسْملتْ ، و سارت نحوه :
ـ أنت اليوم على غير عادتك ! ؟ أرجو أن لا يكون قد أصابك مكروه .
ـ لا يا أمي ، أنا بخير .
ـ إذاً عليك أن تصبر قليلا ، إلى أن أنتهي من إعداد الطعام .
ـ سأصبر يا أمي ، سأتمدّد قليلا ريثما تنتهين .
و قبل أن يمدَّ قدميه على طولهما ، و قد استلقى على الأريكة المقابلة لباب الأيوان ، جاءه صوت أمه من الغرفة الثانية :
ـ أتعرف من كان عندنا هذا الصباح ؟
ـ و من أين لي أن أعرف يا أمي ! لم يقل لي أحد .
ـ سلمى . كانت مع عمتها أم كامل ، جاءت تودّعُنا . قالت عمتُها إنها قرّرت فجأة ، أن تعود إلى القرية ، قالت إنها طوال الشهرين الماضيين ، كانت ، تؤكد على أنها ، لن تعود إلى قديريك مرة أخرى ، و أنها ، لم تكن ، تكترث لنداءات والديها لكي تعود ، و فجأة انقلب بها الحال . قالت إنها خرجتْ هذا الصباح لدقائق ، و عندما عادتْ ، كانتْ شخصا آخر ، لمْلمتْ حاجياتها على عجل ، و أصرّت على أن تعود اليوم .
جُفّ ريقه في حلقه ، لم ينبس ببنت شفة . ركّز ذهنه على كل كلمة نطقتْها أمه ، دار به الخيال في كل اتجاه ، حديث المشغل ، و موعد الصباح ، و … الصفعة التي هزت كيانه ، و لما لم تسمعْ منه أمه أي ردّ ، قالت بصوت خافت :
ـ هل نمْتَ هوسْته حسن ؟
ـ لا يا أمي ، لم أنمْ ، أسمعك .
ـ لو رأيتها ، لأشفقْت عليها ، كم كانت حزينة . كانت عيناها ، تزوغان في الفراغ ، و كانتْ تقصّرُ في الحديث ، و لو استرْسلتْ فيه ، لا نهمرتْ دموعها ، حاولنا أن نعرف منها أي شيئ ، أن نعرفَ ما الذي دفعها ، لأن تنقلب على نفسها فجأَة ، و تقرّر الرحيلَ، و لكن من غير طائل . لم نفهمْ شيئا .
و خرجت الكلماتُ من فمه هشّة ، متقطعة ، و دونما إرادة منه :
ـ أنا أيضا ، لمْ أفهمْ شيئا يا أمي .
————————————————————————————-
* هوسْته : معلم الحرفة
* ديريك : إحدى مدن كوردستان الغربية
* قديريك : قرية تقع بين ديريك و نهر دجلة
salimbahoz@hotmail.com
21 / 08 / 2013