وقبل أن يغادر هذا الرجل “عاموده” إلى ديار الاغتراب كانت “دار السينما” قد آلت إلى ملكية “تاجو إبراهيم” بموجب عقد أُبرم بين الطرفين البائع والمشترى.
وكأنما استشرت عدوى “السينما” في الناس فأنشأ “خضر عزيز معكو” داراً لهذا الغرض مصاقبة لمنزله الواقع على الجهة الجنوبية من شارع “البلدية” وأطلق عليها إسم “شهرزاد” وبنيت في الشارع نفسه دار أخرى للسينما بعد أعوام قليلة ثم دار رابعة بعد فترة وجيزة في وسط المدينة..
وفي تلك الحقبة لم تكن الدور والمباني تشيّد على قوانين هندسية أو قواعد علمية مدروسة، بل كانت تبنى اعتباطاً وحسب أمزجة أصحابها وفي نطاق قدراته وملكاته المادية غير أنّ مادة البناء كانت واحدة حيث تتُخذ الجدران من اللبن الترابي والأسقف من جذوع الأشجار وأغصانها التي تفرش بالقش، ولم يكن الناس قد عرفوا شيئاً اسمه “الاسمنت”. ولكنهم كانوا يألفون بعض الأبنية المشيدة من الحجارة. من هذه الأبنية “دار البلدية” المشيدة في أعوام العشرينيات، ومبنى مستودع الوقود الذي عُرف فيما بعد باسم “كازخانا شوتي” Gazxana Şewitî بعدما شبت فيه النار. وكان للأهالي عدة بيوت بنيت من الحجر وهي الدور الثلاث التي بناها أصحابها المهاجرون النازحون من أقصى الأراضي الشمالية التركية- الروسية فراراً من بطش القوات القيصرية التي كانت تجتاح الأرض التركية بين حين وآخر جراء الحروب المحتدمة بين الدولتين الجارتين في القرن الثامن عشر[2]، بناها أصحابها بأيديهم إذ لم يكن في المنطقة بناؤون يمتلكون خبرة أو دراية بالبناء الحجري.
ولكن بأية صورة وهيئة شيدت دار “سينما شهرزاد” في تلك الأيام الخوالي؟
بنيت جدران هذه الدار من اللبن الترابي المألوف آنذاك بطول عشرين /20/ متراً شرقاً وغرباً وعرض /6/ستة أمتار شمالاً وجنوباً، ولما بلغ ارتفاع الجدران /3،5/ثلاثة ونصفاً من الأمتار مُدت عليها قضبان حديدية “من قضبان السكك الحديدية التي تسير عليها القطارات” ثم وضعت عليها عمد خشبية ضخمة ثم غطيت بأغصان وسيقان الأشجار الصغيرة وسترت بعد ذلك بكميات كبيرة من القش والحشائش ثم فرشت بالطين…. . وفي الداخل اتخذت غرفة “محرك الأفلام” من الخشب في أقصى الشرق تقابلها الشاشة البيضاء في أقصى الغرب أي على الجدار الغربي من البناء وكان الباب أيضاً مصنوعاً من الخشب يطل على الشارع ينفتح إلى الداخل ويهبط منه درجتين إلى أرضية الدار المنخفضة ولم يكن عرض الباب يتجاوز متراً، هذا الباب الذي أُعِدَّ لدخول وخروج العشرات والمئات أحياناً من الزوّار الذين لا يجدون مشقة أو عناءً لأنهم يلجون وحداناً متمهلين، أما الخروج فيكون سريعاً متدفقاً، ومثل هذا الباب الضيق لم يكن في وسعه تلبية حاجة هذا التزاحم بالمناكب والتهافت على الخروج، وهو من الأخطاء الكثيرة الفادحة التي ارتكبت في تشييد بناء هذه الدار، دار النكبة العمياء والفاجعة الكبرى في عامودا الصغيرة الهادئة الوادعة، دار “سينما شهرزاد”. والكراسي والمقاعد المتلاصقة لم تكن مصنوعة من حجر أو حديد، لا سلطان للنيران عليهما بل كانت من الخشب والقش والألياف النباتية اليابسة. وكأنما أراد المشرفون على عمليات تأسيس هذه الدار السينمائية أن يضفوا عليها من الداخل مسحة من الجمال زيادة في ترفيه النظارة “المتفرجين” وإمتاعهم واجتذابهم يوماً بعد يوم فأسدلوا عليها الستائر وكسوها بقماش منسوج من خيوط القنب “جوّال- خيش” وزوّقوها بطلاء مزاجه “النفط” السائل الشفاف.
ولم تكن في البناء شبابيك أو نوافذ سوى بعض الثغور والفتحات والكوى في أعلى الجدران القريبة من السقف من باب الاحتراز فلا يطمع أحد من السابلة في محاولة لمشاهدة ما يجري من عروض سينمائية. ولم توجد فيه أبواب سوى الباب الرئيسي الوحيد المعد للدخول والخروج الذي سبق القول عنه وباب صغير في الجنوب من البناء موصد في اكثر الأوقات، يفضي إلى “فناء” واسع خالٍ إلا من بعض الأشجار وبئر يستسقى منها للشرب والري. أما باب المقصورة “غرفة المحرك” الخشبية فكان موقعه في الشارع العام يُصعد إليه على عدة درجات لدخول المقصورة التي نصب فيها “المحرك” وفيها تتراكم صناديق لحفظ “الأفلام” التي كانت تصنع من مادة “بلاستيكية” سريعة الالتهاب اذا مستها النار تأججت وانفجرت كما ينفجر “البارود” ولا يكاد يتخلف عن اشتعالها أيّ أثر. ومما يلفت النظر أن بعض الصبيان كانوا قد اكتشفوا هذه الطاقة الهائلة في “الشريط السينمائي” فيحصلون على “عبوة” معدنية من الصفيح الرقيق وكانت هذه العبوة مصنوعة من الألمنيوم الخفيف، تحفظ فيها أنماط من الأدوية والحبوب الصيدلانية الطبية، ثم يدسون فيها قطعة “تالفة” من الشريط ويثقبون إحدى نهاتي العبوة الاسطوانية ثم يشعلون طرف الشريط البارز من خلال الثقب بواسطة عود ثقاب ملتهب فتنطلق كقذيفة صاروخية نفاثة وتحلق هنيهة في الفضاء ثم تغيب عن الأنظار. ولكن ألا تقع الطامة لو أن شرارة نار سقطت على “الشريط” المرهف الحساسية شرارة من القوس الكهربائية التي تسلط الضوء الباهر على الشريط لتكبير الصورة وإرسالها إلى الشاشة البيضاء؟ ألم يتطارح صناع الأفلام ومبتكرو أجهزة التشغيل المعقدة هذه المسألة؟ ألم يتساءلوا فيما بينهم عن الإجراءات الوقائية إذا شبت النار في “الشريط المتأهب للاحتراق تحت وطأة الحرارة الشديدة العالية وكيفية قطع الطريق أمام الخطر؟ بلى.. وجواباً عن هذا التساؤل زوّد جهاز التشغيل بأداة باترة ذاتية الحركة تفصل الجزء المشتعل عن الشريط وتصونه من مس النار وحمايته من الأذى. ولكن أي ويْلٍ يمكن أن ينجم إذا تعطلت تلك الأداة وعجزت عن أداء دورها وأخفقت في إنجاز وظيفتها عند اللحظة الحرجة والضرورة القصوى؟ ولم نستطع السيطرة على الموقف القاتل؟ لعل هذا السؤال لم يخطر لهم على بال ولم يفكروا في مغبة ذلك الخلل الذي لا يبدو مستحيلاً أو غير قابل للحدوث، الخلل الذي كان القشة التي قصمت ظهر البعير في “سينما شهرزاد” بعد أعوام من إنشائها.
بعد الوصف الذي عرضنا به أحوال “سينما شهرزاد” بإيجاز قدر المستطاع، يتضح للمتأمل مدى فداحة الأخطاء والنواقص التي ارتكبت في تأسيس دارها، وأنها أشبه بأتون مشحون بالوقود لا يفتقر إلا إلى قبس ضئيل أو شرارة مستصغره، لتغدو في طرفة عين جحيماً مستعراً، ويغدو كل ما فيه رماداً.
بالقرب من “سينما شهرزاد” عن كثب كان “إسماعيل عمي” هو امرؤ في شرخ الشباب قد ابتنى داراً لسكناه تشاركه الإقامة فيها زوجته الشابة “فريدة علي” وابنه فرحان من زوجته الراحلة التي كان قد تأهل بها إبان إقامته في مدينة حلب وقد أنجبت له هذا الصبي وماتت عنه بعد أيام معدودات.
كان محمد عمي “والد إسماعيل عمي” سيد قومه في إحدى مناطق سرحدان من أراضي الإمبراطورية العثمانية المتاخمة للأراضي الروسية القيصرية، فلما احتدمت المعارك وتأججت نيران الحرب بين الإمبراطوريتين الجارتين ودامت كثرت الشائعات عن زحف القوات الروسية المحاربة باتجاه الجنوب نحو مناطق سرحدان خشي الناس على أرواحهم وأموالهم من بطش الجحافل الغازية فحملوا ما خف حملهُ وهاجروا إلى أصقاعٍ مجهولة وتبعثروا في طول الأرض وعرضها. وكان محمد عمي “والد إسماعيل عمي” آخر الناس الذين فكروا في النزوح وهجرة مواطنهم لأنه كان يعتقد أن الجبال الوعرة ومواقعه المحصنة وبنادق رجاله وبسالتهم ستدرأ الأخطار وتصد الطامعين، ثم بان له بعد أن خوت أكثر البيوت في قرى كثيرة من قاطنيها أن وعورة الجبال وبنادق الرجال وبسالة الأبطال لا تقدم ولا تؤخر نفعاً ولا تجدي شروى نقير في مواجهة جيشٍ لجبٍ جرّار مدجج بالمدافع والأسلحة الثقيلة فجمع أهليه وذويه ورجاله واستشارهم ثم أعلن علهم القرار بالرحيل. وفي غضون يومين كانت القافلة وفيها /14/ أربع عشرة راحلة من رواحل “محمد عمي” و ولداه الصبيان البكر “إسماعيل” والصغير “عمي” وعقيلته تغذ الخطا في الشعاب في الجبال ثم على الدروب في السهول باتجاه الغرب حتى وصلت مساءً بعد مسيرة أيام إلى ضفة نهر “دجلة” الشرقية فتوقفت عن السير وعرّست وباتت تلك الليلة حتى إذا بزغ ضوء النهار بحث الرجال عن معبر ضحل للمياه للعبور إلى ما وراء الضفة الغربية فلما عثروا عليه سارت عله الرواحل والدواب والرجال وبعض النساء والأطفال، وبينهم الصبيان الشقيقان “إسماعيل” و “عمي”. وكان “محمد عمي” والد الشقيقين وأمهما قد تخلفا عن العبور واللحاق بسائر أفراد القافلة، فلما خوّضا في النهر ووصلا إلى منتصف المعبر هبت عليهما موجة عارمة طوّحت بهما إلى عمق النهر… حاولا الصمود… ولكنّ التيار كان عاتياً فجرف صاحبته وغيبها في دوّامة سحيقة الغور ولم يفلح “محمد عمي” في إنقاذها من براثن الدوّامة رغم كل ما بذله من جهد ورغم ما أبلاه من بلاء حسن يعجز عنه صناديد الرجال وعظماء الأبطال، وخرج من النهر مقهوراً مدحوراً وهو الذي لم يهزم في معركة، ولم ترهبه كثرة الخصوم.. خرج صارخاً نادباً زوجته البارة الصالحة أُمّ ولديه الوحيدين “إسماعيل” و “عمي”. إسماعيل الذي كان قد تجاوز السنة الثانية عشرة و “عمي” الذي كان دون السنة العاشرة آنذاك. فأية لوعة ولواعج وبلوى وألام سيتجرع هذا الطفلان في غياب أمهما العطوف الرؤوم التي وهبت لهما كل عواطف الحب والرحمة؟ دبّ هرْجٌ ومرْج في القافلة وعلا صوت النواح والنحيب، وفي لحظة تحول المكان إلى مناحة.. لم تهدأ إلا بعد يوم.. كان الجميع يحاولون تهدئة الصبيين ومواساة الأب وتعزيته.. وطلبوا إليه متابعة الرحلة، لكنه تشبث بالمكان وأبى أن يبرح حافة النهر وكأنه يرجو أن تعود المرأة الشهيدة إلى ابنيها المنكوبين وزوجها الملتاع الفؤاد. وفي تلك الأيام كانت الأوبئة والأمراض والمجاعات قد تفشت في الناس ونخر الفساد في كثير من النفوس، فلما يئسوا من إقناعه بالرحيل دعوه وشأنه وتفرقوا عنه إلى حيث لا يدري ولا يدرون.
مكث “محمد عمي” مع ولديه لا يريم الضفة التي وقعت عندها الفاجعة الأليمة أياماً ثم بدا له أن المكوث في هذا المكان لا يرد عليه فائتاً ولا يداوي الجراحات التي تركها رحيل زوجته في نفوسهم. فأعد العدة واستأنف السير باتجاه الغرب الجنوبي الموازي للأراضي السورية وبعد مسيرة أيام وصل برواحله وولديه إلى منطقة قريبة من “ويران شهر” وتوقف للاستجمام والتخفيف من وعثاء السفر الطويل، وفي الليل بينما كان مستغرقاً في النوم دهمه رجال مسلحون، وساقوا أمامهم جميع الدواب مع أحمالها ولما استفاق من النوم وأدرك ماذا حل بأمواله سار في إثر القوم وأطلق عليهم الرصاص في جنح الليل ولكنهم كانوا قد غادروا وأمعنوا في الابتعاد.
فهل من جائحة ومصيبة ماحقة أشد هولاً وفتكاً مما ألمّ بهذا الرجل النبيل، سليل المجد والكرم والمروءة-ابن الأمجاد وحفيد الأكرمين الآمر الناهي في أرضه بين قومه، صاحب الكلمة المسموعة والأمر المطاع.. بالأمس القريب رحلت عنه أقرب الناس إليه الزوجة الشريفة الطاهرة وتركته نهباً للهموم والأتراح، وتفرق عنه الأهل والأصحاب فلا لقاء بينه وبينهم بعد اليوم..
وها هو ذا الرجل الثري، الواسع الثراء، صاحب الأنعام والخيول، مالك الأراضي والبساتين يغدو بين عشية وضحاها من أكثر الناس فاقة وفقراً وعوزاً وحاجة.
لم تغمض له عين في تلك الليلة، وظل مسهداً قلقاً مضطرباً حائراً وفي الغداة تناول يدي “إسماعيل” و “عمي” وسار قاصداً المدينة القريبة من مكانه ذاك فلما دنا منها شاهد على مشارفها رقعة من الأرض يحوّطها سور خفيض وحين أمعن فيها النظر رأى دوابه المسلوبة بين بغال وخيول ودواب أخرى، فاطمأن باله قليلاً وعاوده الأمل فلعله يستطيع استرجاعها بوسيلة من الوسائل.
وفي مدينة “ويران شهر” Wêranşehir اهتدى إلى إيوان ” الحاكم المتصرف الفرد” فوضع القضية بين يديه بكل حذافيرها ولكنه لم يجد آذانا ٌ صاغية فخرج مهزوما ٌ مدحورا ٌ كما خرج من النهر بائساٌٌ لا حول له ولا قوة. وبعد أيام غير كثيرة استبدت به الأحزان وتراكمت على قلبه الأشجان فمات شهيد غربة ودفن في إحدى القرى المتاخمة للمدينة التي سلبته كل ما كان قد حمله من ارث أبيه. وترك طفليه شريدين في عالم محفوف بكل أنواع الفساد والشرور، والظلم والآثام.
لم يعد للطفلين في هذا العالم الواسع الشاسع بعد رحيل والدهما وسندهما من ملاذ أو مأوى وقد كانا قبل عهد قريب في أحسن حال، يعيشان في بلهنية، ورغد وبنعمان بكل الطيبات من طعام وشراب في رعاية أب شفيق وأم حنون، فضربا في الأرض وتحملا قسوة الجوع والظمأ واويا إلى البيوت المهجورة ونالهما من الخوف والرهبة في الليالي، ما هو فوق كل جلد أو اصطبار واحتمال كانت الوحوش والسباع والحيوانات الضارية مصدر هلعهما وخوفهما، كذلك الأفاعي والحشرات السامة… أكلا أوراق الشجر واقتاتا ببقايا الثمار اليابسة درأ للجوع وسداٌ للرمق… بليت ثيابهما وتمزقت نعالهما فكانا يسيران حافيين كاسيين شبه عاريين. طال بهما الأمر كذلك حتى قادتهما أقدامهما إلى قرية زعيم إحدى العشائر (الأغا) فضمهما إلى حاشيته.
كان “إسماعيل” منذ نعومة أظفاره يخرج في رفقة والده إلى الصيد فتعلم أمورا كثيرة عن طبائع الخيول وكيفية ترويضها واستئناسها، وإذ اكتشف الأغا هذه الميزة في الفتى اسند إليه أمر سياسة جواده والاعتناء به وقد كبر في عينه فأدناه من مجلسه وأدخله بين جلاسه… أما الصبي “عمي” فقد أوكل إليه أداء بعض الأعمال المنزلية الخفيفة التي لا تتطلب عناءً ولا ترهق الصبي.
أمضى “إسماعيل” وشقيقه “عمي” أعواماً في هذه القرية حيث ناهز إسماعيل الثامنة عشرة من العمر وهو يؤدي عمله بجد وإخلاص ويزداد خبرة ودراية بأمور الخيل حائزا يوما بعد يوم مزيداً من إعجاب الأغا واهتمامه. ومن كمال وعي إسماعيل وتمام نضج عقله وفكره انه وقع على أسرار في نفسية “الأغا” وخصال في شخصيته فهو نزق أرعن شديد النزق والرعونة حيناً وهادئ ساكن حيناً آخر دون سبب لهذه الرعونة وذاك السكون. وهو أهوج شديد الحمق والفهاهة مرة ومتزن وقور مرة أخرى دون سبب لهذه الفهاهة والوقار. قد يقدم على قتل اقرب الناس إليه وأوفى أصدقائه و محبيه في لحظة من لحظات تبدل مزاجه أو نزوة من نزواته. لذلك كان هذا الفتى دائم الحذر يترصد أحواله ويسعى جاهداً أن لا يثير حنقه أو يغيظه خشية أن يناله عقاب من هذا الأهوج على جريرة لم يقترفها.
وفي هذه الأعوام الأخيرة كان “إسماعيل” لا يكاد يغيب عن مجلس الأغا فيزداد معرفة بأحوال الناس ويسمع من أفواه التجار القادمين من “حلب” إنباء “شديدة الغرابة” عن هذه المدينة العجيبة ” لا يكاد يصدقها” ورفاهية أهلها ورخاء العيش فيها وكثرة أسواقها وفخامة بيوتها. فكان يزداد كل يوماً شوقاً من هذا المضيف المتعسف الذي لا يؤمن جانبه، وتخشى بوادره ويتمنى أن يفعل ذلك متى واتته الفرصة السانحة، وأخفى هذه الرغبة من الناس وكتمها في نفسه ولكنه أسرها إلى شقيقه “عمي” ونصحه أن لا يبوح بهذا السر وحذره من مغبة الإفضاء به إلى أي كائن.
وفي سَحرِ من الأسحار كان “إسماعيل” و “عمي” يختلطان بأفراد قافلة قاصدة المدينة التي يحلمان بها.
سارت القافلة تغذ السير أسابيع في حلٍ و ترحال حتى بلغت مشارف حلب ذات مساءً فكفت عن السير وتوقفت وباتت تلك الليلة في العراء وما أن ذرّ قرن الشمس حتى تأهبت لدخول المدينة الكبيرة.
لقد كانت “حلب” أعظم و أجلّ مما توهمه “إسماعيل” وكانت اكبر وأوسع من تلك النعوت والأوصاف التي كان يتلقاها من أفواه الزائرين العائدين من حلب. كان كل شيء يبدو له غريباً ومذهلاَ الحوانيت التي لا تعد ولا تحصى.. الشوارع والطرقات المعبدة بالأحجار المسنونة …. البيوت.. الساحات العامة والأشجار المزروعة على جانبي الطرق والحدائق الأنيقة و وسائل المواصلات والمساجد والكنائس والمدارس والتكايا وغيرها… وفي كل يوم كان يكتشف أشياء جديدة لم يكن قد سمع بها أو رآها أو خطرت له على بال.
كان عليهما أن يبحثا عن عمل فوجداه في نقل مياه الشرب إلى البيوت والمنازل ودأبا على ذلك أعواما وهما يشعران بالحرية والأمان على الرغم من مشقة العمل، لقد ولت حياة الشظف والخشونة والجوع.. حياة الخوف.. كلاهما سيد نفسه يكتسي وينتعل كما يشاء … يأكل ويشرب كما يشتهي .. ينام ويستيقظ كما يريد، لا يخشى سطوة ” الأغا” ولا يحذر بوادره فقد انفتح أمامهما باب حياة جديدة على مصراعين.. وجدا فيها طعم الكرامة والسعادة للمرة الأولى منذ أن نزحا عن أرضهما .. ورغم تحسن أحوالهما فقد كانا يطمحان إلى عمل أفضل ثم عثرا عليه بهدى من معارفهما في “المحلج” الذي كان سخيا في أداء الأجور وساعات العمل والجهد المبذول أدنى واقل.
وفي غضون سنوات ليست طويلة كان الفقر قد ولى وأصبح “إسماعيل” من الأثرياء، وأحس بحاجة إلى امرأة تشاركه في بناء أسرة، فخطب له أصدقاؤه فتاة وتزوجها وبعد أن حال الحول رزقا مولدا أسمياه “فرحاناً” ولكن السعادة التي هبطت على هذه الأسرة لم يطل بها الأمور، ولم تكتمل فرحة الأم بوليدها ولا فرحة الوليد بأمه فقد لبت الأم نداء ربها وصعدت روحها إلى باريها. وكان الطفل آنذاك قد بلغ من العمر /4/ أربعة أعوام فأسكنه مأوى أو داراً للحضانة في حلب.. وقد ألمته الحادثة امضّ الألم وجددت شجونه وأعادت إليه ذكريات الأيام العصيبة أيام البؤس والقهر والشقاء. وكانت أنباء ترد إلى حلب وتقرع سمعه عن مهاجرين لاذوا بأكناف عامودا وضواحيها وما حولها من القرى القريبة والبعيدة، فيشتد حنينه إلى الأهل و الأقرباء الذين افتقدهم فعزم على الانتقال إلى عامودا بأمواله وممتلكاته وابنه “فرحان” الصبي الصغير مصطحبا شقيقه الأصغر “عمي” وهكذا فعل. بُعيد وصول هذه الأسرة المنكوبة أقامت أول وهلة في منزل قريب من دار الرجل التقي، الورع العلامة الصالح الشيخ “محمد صدقة” الحسني المديني (رضي الله عنه) الذي كان يعقد مجالس للعلم ويقيم حلقات الذكر في “التكية” الملحقة بداره يحضرها العلماء وأهل التصوف، ولعل هذا القرب أو هذا الجوار كان ذريعة لتردد “إسماعيل عمي” إلى مجلس الشيخ والإصغاء إلى أحاديث العلماء والانتفاع بحوارهم وجدلهم واكتساب المعارف والحكمة حينا بعد حين.
لم يتقاعس “إسماعيل عمي” منذ هجرته إلى عامودا وما توانى عن زيارة أولئك المهاجرين الذين سبقوه في اللجوء إلى عامودا. وبحث عنهم في مظان وجودهم وأماكن إقامتهم في القرى والأرياف وألح وألحف في السؤال عن أهله وأقاربه الذين افتقدهم ولكنه لم يقع على جواب ولم يخرج من عندهم بطائل. كان كمن يبحث عن خاتم سليمان في قاع اليمّ.. أو نجمة في المجرة.
“إسماعيل عمي” الرجل النشيط، والكادح المثابر الذي أمضى جل أيامه في الجد والعمل استاء من حياة الكسل والخمول وسئم الفراغ الذي يعانيه ويتألم منه فوطّن النفس على العزف على وتر وحيد يصدر لحنين أو نغمين مختلفين متفاوتين: اللحن الأول، أن يبتاع عروضاً للتجارة يسافر ويحملها معه إلى العراق وتركيا واللحن الثاني: تفقد الأهل والأقارب والبحث عنهم في هاتين الدولتين. وهكذا قصد العراق وزار مدينة الموصل وسافر إلى تركيا فما كان حظه أوفر من حظه في عاموده بحث عنهم في دياربكر وماردين ووفي مدن وقرى كثيرة فما أثمر سعيه ولم يلق نُجحاً.
وفي إحدى جولاته ساقته قدماه إلى قرية الرجل الذائع الصيت المعروف بشجاعته وسخائه وكرمه “علي حسكي” وحدثه ببعض حديث قومه وما جرى لهم فتأثر الرجل وأبدى عن حزنه لما حلّ بهم.. ثم كثر اللقاء بينهما ونشأت بينهما علاقة حميمة من الصداقة، وكان لعلي حسكي فتاة حسنة الخلق والخلق.. مهذبة… طيبة القلب… نزيهة النفس بارة بوالديها محبة للصغار فعنّ لإسماعيل أن يطلب يدها فلم يتردد والدها في الموافقة على هذا الزواج.. الزواج من ابنته “فريدة” .
وإذ جُلبت هذه الفتاة إلى دار “إسماعيل عمي” أحس أن السعادة تنهمر على هذه الأسرة الصغيرة بعد تلك السنين العجاف المفعمة بالترح والشجن والحزن. وأول ما فعلته “فريدة” انها التفتت إلى الصبي “فرحان” وأحسنت تربيته ورعته كما ترعى فلذة كبدها وأنشأته على الأخلاق الكريمة والخصال القويمة… وأدارت شؤون منزلها كامرأة لها خبرة وتجربة وفعلت كل ما يرضي زوجها “إسماعيل عمي” الذي كان يحترمها ويقدرها حق قدرها. كانت هذه “العروس” الجديدة رغم صغر سنها مفعمة بالصدق والصراحة والجرأة والحكمة إلى جانب عواطفها المرهفة تجاه الضعفاء والعاجزين… وهي الصفات التي ورثتها عن والدها “علي حسكي” الذي تروى عنه قصص وحكايات عن البطولة والجود والسخاء.
كان رجل ارمني صناع حاذقاً في صناعة الخناجر يقيم في مدينة /ماردين/ وكان “علي حسكي” بهوى اقتناء الأسلحة النادرة الفخمة فأوصاه أن يصنع له خنجرا مموها بالذهب والفضة مرصعاً بالأحجار الكريمة، وقد استغرق صنع هذا الخنجر بتلك المواصفات جهداً كبيراً عدة أيام وأنباه أن الصائغ أنجز وعده في صنع الخنجر فأمر أن يُدفع للبشير وسقٌ من الزبيب على بشارته.
لعل منزل “إسماعيل عمي” ضاق به وبأفراد أسرته وكثرة الزوّار والزائرات فابتاع أرضاً واسعة ابتنى عليها داراً فسيحة في الشارع المعروف اليوم باسم “شارع البلدية” وانتقل إليها. والى جانبها –بعد سنوات – انشأ المواطن الثري خضر عزيز معكو مؤسسة سينمائية عرفت باسم “سينما شهرزاد” والتي كتب عليها أن تمسي مسرحا لأبشع وأشنع مأساة إنسانية لا سابقة لها في تاريخ البشرية.
كانت “فريدة” الرقيقة الأحاسيس، الكبيرة القلب مفطورة على عاطفة هادئة متزنة تجاه الأطفال، وكانت محبتها لهم غريزة متأصلة بين جوانحها وفي أغوار نفسها ولكنها بعد أن رزقت أطفالا رفدتها الأمومة بمعانٍ جديدة مقدسة من الرحمة والرأفة والحنان، وعلمتها أن تكون مشبوبة المشاعر إزاء جميع الأطفال. ومسحت من خلجات نفسها كل أثر للأنانية والأثرة وحب الذات. ولما تشبّع كيانها بهذه الرموز السامية لم تعد هادئة البال أو مرتاحة النفس إذا سمعت صوت طفل ينتحب أو صغير يبكي مهما كان مصدر ذاك البكاء والنحيب. سواء أكان أتيا من الشارع أو من بيوت الجيران. وما كانت تطيق سماع مواء قطة أو هر يعبث بهما الصبيان فكانت تذهب إليهم وتحثهم بكلام رقيق يحمل معنى الحديث الشريف ( دخلت امرأة النار في هرة حبستها فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها ترعى خشاش الأرض) وتحذرهم من مغبة هذا السلوك الذي سينتهي باصحابه إلى العقاب يوم الآخرة…أو إذا شاهدت احد أولئك قد اقتنص طائرا وربط إحدى قائمتيه برمة لا يبغي من وراء ذلك سوى التسلية واللهو غير مبالٍ بعذاب الطائر البريء الضعيف، حاورته وحاولت إقناعه بتسريح الطائر وترك العنان له، فإذا لم يجد الحوار نفعا ابتاعته بمبلغ من المال وأطلقت سراحه.
أم الشهداء فريدة علي مع ابنها محمد إسماعيل وهو على السرير يعالج في مشفى مدينة القامشلي1960
هكذا كانت حياة هذه المرأة الفاضلة وهكذا عُرفت في بيئتها وبين جيرانها، تحاذر من الوقوع في الشبهات، إذ لمست خيراً صنعته أو شراً تجنبته وتنحتْ عنه، وسعت إلى اجتراح البر والحسنات ما وسعها ذلك. لا تريد جزاءً ولا شكوراً. لا تستطيع أن تفعل غير ذلك.
انصرمت الأيام والأعوام، وتبدلت الأحوال وتغيرت نظرة الناس إلى الأشياء، وفترت همة أولئك المتزمتين في محاربة “السينما” وغدت أمراً مألوفاً. لا يلام مرتادوها ولا يُعاتبون ولا يُذمون على حضورها. وبدأوا يرسلون أطفالهم إلى المدارس بعد أن كانوا يصدون الناس عنها ويحذرونهم من إرسالهم إليها.
في أواخر خريف عام 1960م ستين وتسعمائة ألف ميلادية، كان الصبيان: أحمد ومحمد قد أُميطت عنهما التمائم وشبا عن الطوق فإذا هما ذاهبان إلى المدرسة في الغداة أيبان في العشي بعيني أبيهما وأمهما اللذين يفيضان عليهما حنانهما في ذهابهما وإيابهما.
وفي غضون هذا العام كانت “الجزائر” لا تزال رازحة تحت عبء الاحتلال الفرنسي مطوقة بنيره الثقيل، مكبّلة بأغلاله الباهظة. من قتل وتشريد وتجويع. وكان الشعب السوري لا ينقطع عن نجدة الجزائر ومد يدّ العون والمؤازرة للشعب الجزائري، وكان كل فرد سوري يؤمن بعدالة القضية الجزائرية في التحرير ورفع الحيف عن أخيه الجزائري، ويعتقد أن الواجب القومي والإنساني يدعوه إلى نصرته حسب جهده ومقدرته. وتلبية لهذا الواجب بدأت دار “سينما شهرزاد” في الساعة ….صباحاً من يوم الأحد من شهر تشرين الثاني عام 1960م ستين وتسعمائة وألف ميلادية، تستقبل أفواج تلاميذ المدارس الذين جاءوا بدراهم- وإن كانت بخسة أو زهيدة- معبرين عن أريحيتهم في نصرة الثوار، يشاركون الكبار في حمل جزء من العبء الي يقع على كاهلهم.
وفي الحفلة المسائية كانت زمر من التلاميذ بينهم الصبيان: محمد وأحمد، تحتشد أمام باب دار السينما الضيق.. كانوا متهافتين على الدخول، يتدافعون ويتزاحمون بالمناكب ثم يتدفقون إلى الداخل يتنافسون في الحصول على مكان للجلوس على كرسي أو مقعد خشبي، إذ كانت المقاعد والكراسي تضيق بكثرة الزائرين الداخلين جُزافاً، فمن لم يعثر على مكان لجلوسه ظل قائماً أو افترش الأرض، ولما اكتظت “الصالة” بالنظارة ولم يبق فيها موطئ لقدم أُوصِدَ الباب، وبدأت الصور تتحرك على “الشاشة” الكبيرة. ران صمت مطبق على الجميع ورنت العيون بلهفة وشوق.
كان “الفلم” يحكي قصة معركة طاحنة بين دولتين متحاربتين. تتابعت مشاهد القتال ولكن الزمن لم يطل، وسرعان ما ظهرت على “الشاشة” أضواء حمراء. قال الذين نجوا من سعير السينما وكانت نجاتهم أشبه بمعجزة. حسبنا تلك الأضواء أحد مشاهد المعركة ثم أحسسنا بلفحات تسفح وجوهنا وشعر رؤوسنا ثم اكتنفتنا النيران من كل جانب ولم نعد ندري ماذا جرى وكيف أُنقذنا.
قال أحد الناجين: شعرت أنني أحلق في الفضاء ثم وجدتُني على قارعة الطريق ولم أُصب إلا بحروق ورضوض سطحية. وقال آخر: تراءى لي أن طائراً أبيض ناصع البياض حملني بين جناحيه وطار بي بعيداً عن النيران، ما أصابني منها شيء قليل أو كثير.
في ذلك المساء… في تلك الحفلة، وفي تلك الساعة كان قد ألمّ به خلل فخان عهده، وهو الأداة الفاصمة الوحيدة لمنع تسرّب النار وانتشارها في سائر الشريط… فلما تفاقمت الحرارة واشتدت وطأتها التهب طرف الشريط أخفق المقص في فصم الجزء المشتعل عن بكرة شريط الفيلم وإبعاده وفي خلال ثوان معدودات حدث الانفجار الرهيب في غرفة المحرك، وفي لحظات معدودات كانت الدار قد تحول ما فيها إلى كتلة من اللهيب المتأجج. بدت النار وكأن بعضها يأكل البعض الآخر.
كانت أجساد الأطفال تشوى لحظات ثم تصير رمماً وهياكل متفحمة ورماداً في وسط نار لا نعتقد أنها كانت أقل ضراوة من النار التي احترقت بها “هيروشيما” و “ناغازاكي”.
لم تكن –آنذاك- في عامودا سيارة إطفاء ولا أية وسائل أخرى لإطفاء الحرائق… وهل كانت- إن وجدت- سنجدي نفعاً أمام هذا البركان الأهوج- وصلت سيارة إطفاء من مدينة “القامشلي” بعد أن احترق كل شيء وانصهرت القضبان الحديدية وانهار السقف ولم يبق أي شيء تأكله النار. وغير رائحة الشواء والأدخنة الثقيلة المنبعثة من العظام المتفحمة… وهل في وسع كل سيارات الإطفاء ووسائل إخماد الحرائق أن تقدم أو تؤخر في مجابهة مستودع للبارود وقد انفجر وانتهى أمره.
انهار السقف وسوّي بالأرض وخمدت النار وعندئذ انطفأت البقية الباقية من جذوة الأمل في العثور على طفل لم يحترق بعد. في ذلك الأصيل أو في ذلك المساء من يوم الأحد من خريف عام 1960م ستين وتسعمائة وألف ميلادية. كان الصبيان الوسيمان محمد وأحمد (فلذتا كبدا السيدة فريدة علي) بين الداخلين الذين كانوا يصلوْن النار في ذاك التنور المسجور . كان صراخهم وعويلهم وأصوات الاستغاثة تتصاعد مع السنة اللهيب من الكوى والنوافذ… هرع الناس وجاءوا من كل حدب وصوب يملأ قلوبهم الهلع والذعر… ولما رأوا أن الشرّ مستطير وأدركوا أن لا طاقة لهم على درئه وأنهم عاجزون عن دفعه بكوا وأعولوا ملتاعين وكأنّ مهجهم وأرواحهم هي التي تحترق لا أجساد أطفال غضة.
كان وقع النبأ صاعقاً وثقيلاً وأليماً فها هما نجلاها بكرها “محمد” وشقيقه الصغير “أحمد” في أسر نار لا عقل لها ولا قلب. ولكنها لم تصرف الوقت في الندب والنواح… ولم يثنها هول المشهد من اقتحام النار. قال بعض الذين كانوا شاهدي عيان: كنا ننظر إلى امرأة تنطلق كالسهم، تتسرب بين الجموع وتندس بين اللهب واللهب في أوج توقده وذروة اشتعاله كلبؤة أحست بالشر يحدق بأشبالها فاندفعت ساعية إلى إنقاذهم غير مبالية بشيء ظلت تفعل ذلك مراراً حتى أنقذت عدداً كبيراً. وقال آخرون: رأينا امرأة لم نر مثلها في النساء بدت لنا كبازيّ أبيض ينقضُّ على عدوٍّ قاتلٍ يريد افتراس فراخه. لقد أنقذت في تلك الساعة الرهيبة خمسة عشر طفلاً أو يزيدون.
نجا “محمد” من سطوة النيران التي حمّلت جسده حروقاً شفي منها فيما بعد وحمّلت نفسه آثاراً عميقة لم يشفَ منها طيلة حياته أسىً وحزناً على شقيقه الصغير “أحمد” الذي حلقت روحه الزكية إلى أقنوم الشهداء في الملكوت الأعلى. وخرجت فريدة علي السيدة الفاضلة “أم الشهيدين” بعد أن سفعت النار وجهها وأحرقت أهدابها وجفنيها فعانت من جراء ذلك آلاماً وتباريح ممضة طوال حياتها.
في ذلك المساء من خريف عام 1960م وستين وتسعمائة وألف ميلادية استشهد /300/ثلاثمائة طفل قبل أوان الشهادة وقبل أن يكلفوا بها، لحكمة إلهية تعجز عن إدراكها عقولنا وسر لا تحيط به ألبابنا. ومهما يكن من أمر فقد كان استشهادهم من أجل حرية الشعب الجزائري واستقلال أرضه، واستعادة كرامته. إننا مهما تجاهلنا او تغافلنا عن الحقائق و أنكرناها ينبغي لنا ولكل جزائري أن نقر ونعترف بان لأولئك الشهداء الصغار منة جليلة وديناً أخلاقياً مقدساً في عنق كل فرد جزائري. لماذا لا يوجد في وهران او غيرها تمثال أو نصب تذكاري تمجيدا لأرواحهم الطاهرة؟
والسيدة الفاضلة، التقية، الورعة الم يكن من حقها ومن الواجب الأخلاقي الملقى على عاتقنا أن يُصنع لها تمثال على غرار التمثال الذي نحته الفنان السوري “محمود جلال” للشهداء الصغار في أثناء إقامته في ايطاليا، عرفاناً بفضلهما الجم واعترافاً
بنبلها و إنسانيتها وبسالتها النادرة… في بطون الكتب أسماء لامعة وسطور ناصعة عن نساء أجترحن المعجزات في الشجاعة والتضحية والفداء وفي ميادين العلم مثل الخنساء وخوله بنت الأزور وجان دارك ومدام كوردي والمتصوفة التقية رابعة العدوية.
فلماذا لم يرد لهذه البطلة اسمٌ في صحيفة أو كتاب على الرغم من الكثير الذي كتب عن فاجعة “السينما” ؟ ومما بسريّ بعض همومنا ويؤاسينا ويطامن لأْواء أسفنا لهذا الإهمال الذريع أن الأطفال الذين أنقذتهم السيدة “فريدة علي” لم ينسوها. لم ينسوا أمهم المعنوية الأم الثانية، الأم التي لم تلدهم ولكنها وهبت لهم حياة جديدة…. وخلصتهم من براثن العدم.. أنهم ينظرون إليها وكأنها أمهم الحقيقة، وهم واثقون ومتيقنون من أنّ امهاتن لو كنّ حاضرات المشهد لما وضعن أرواحهنّ على اكفهنّ وتقحمنّ غمرات السعير مجازفات بحياتهن كما فعلت “فريدة علي” من اجل خلاصهم.
كانوا يزورونها بين الفينة والفينة يحمدون صنيعها ويقدمون لها آيات الأمتنان ويشكرون لها. ولا تكون مناداتهم لها إلا بكلمة : يا أمي أو يا أماه… فتستقبلهم بلطفها المعهود وبشاشتها المعهودة ترحب بهم وتمسح برؤوسهم … وتدعو لهم بالفلاح في حياتهم والعمر المديد… وربما تذكرت وليدها الصغير الشهيد، فذرفت عبرة أو عبرتين ثم تحاول إخفاء ذلك عن أعين الزائرين الذين يفهمون عمق هذا الشجن فيتألمون ويصمتون على مضض لا يدركون كيف يخففون عنها ألمها ثم يمضون عنها وفي نفوسهم عزم على العودة كلما وجدوا إلى ذلك سبيلاً.
وهكذا كان دأبُ الصغار … كانوا أوفياء بالعهد فإذا التقوا بها طاروا بها فرحا ومسرة وإذا خاطبوها هتفوا بكلمة “يادي Yadê ” أي يا اماه تضاهيها في العربية كلمة “أم” ثم غلبت عليها هذه الكلمة فصارت تعرف باسم (يادي Yadê ). ولكن أي وفاء الكبار لهذه الأم المضحية المباركة؟. وأين إجلالهم لوقفتها الشريفة الرائعة تلك؟
بعد نكبة “السينما ” الرعناء رزقت “فريدة علي” بوليد، إذ أكرمها الله بصبي سُمي “إبراهيم” تيمنا باسم أبي الأنبياء لرؤيا رأتها إحدى قريباتها، وأحست أنها عُوِضت بهذا الوليد عن فقد شهيدها الصغير :”احمد” ولكنها لم تستطع أن تنساه وتمحو ذكره عن عقلها وفكرها.
كان “إبراهيم” قدا غدا فتى يافعاً عندما لبى والده “إسماعيل عمي” نداء ربه، وكانت شقيقاته الأربع قد تزوجن فخوى البيت من قاطنيها ولم يمكث فيها سوى الأم التي كانت قد طعنت في السن و “محمد” الذي كان مدنفاً سقيماً بسبب ما لقيه من هول السينما، فوطّن النفس على الهجرة إلى دمشق حيث وافتهما المنية وماتا شهيدي غربة بعيداً عن الأهل والأصحاب .
لقد ماتت المرأة العظيمة في دمشق و نقل جثمانها الطاهر الى مدينة الحسكة بجانب ضريح “فرحان” ابن زوجها ولكن هل علمت الحسكة أية آية إنسانية ترقد وتثوي في ثراها؟
إنها “فريدة” بنت “علي حسكي” الرجل الكامل الرجولة، وزوجة “إسماعيل عمي” سليل مجدٍ عتيد وإباء كرام، الملازم لمجالس العلماء والمتصوفين، المحب لوطنه العاشق لأرضه، فريدة التي تشبعت بكل الحسنات والفضائل التي الفتها عند هذين الرجلين النبيلين: فهل بعد فضلها زيادة لمستزيد؟
إن السيدة الفاضلة “فريدة علي حسكي” لم تلق في حياتها تكريماً يضاهي مآثرها ولم تلق اهتماما لائقا بها أفليسَ من حقها ومن الواجب علينا أن تكرّم بعد رحيلها لتكون نبراساً يستضيء به الأجيال ويتعلمون درساً في الإيثار والفداء وتنتعش النفوس بذكراها العابقة بالمودة والحب والحنان. ألا تستحق أن ينحت لها تمثال ينصب في الحديقة التي ينصب فيها تمثال الشهداء الصغار؟