صالح بوزان
عندما نقرأ التاريخ البشري ونتمعن في الأحداث الكبرى للقرن العشرين وبدايات القرن الحالي نكتشف أن الشر هو السائد في العالم. فكل الإمبراطوريات التي تشكلت عبر التاريخ كانت إمبراطوريات للشر بدون استثناء. ومن السخرية أن نفتخر بالحضارة البشرية، وفي الوقت نفسه لا نعترف بأن هذه الحضارة مجبولة بالدم البشري وبالاستعباد الوحشي للناس. فجميع هذه الإمبراطوريات قامت على القتل والنهب والسلب حسب شريعة الغاب، وقام الطغاة بشرعنة ذلك قانونياً. ففي المعارك التي جرت بين ما نسميه الخير والشر كان الشر هو الذي ينتصر، وكان الطغاة يبنون قصورهم من جماجم البشر ويشربون من دماءهم. أما من كانوا يسعون إلى الخير، فإما يقتلون ببسالة وإما يخرجون من تلك المعارك مهزومين.
في العودة للأدب العالمي، منذ ما قبل الميلاد وحتى اليوم، نجده مليء بآمال ورغبات الإنسان المقهور في العدالة وانتصار الخير. وظل عامة الناس حتى اليوم يستنجدون بالآلهة والمنقذين من أجل تحقيق ذلك الخير. هذه الأمنيات التي لا يكف الإنسان عن التفكير بها نتيجة هزيمته أمام الشر. في الديانات نجد أن الآلهة أو الإله الأوحد لا يقف إلى جانب الخير عملياً. بل يؤجل عدالته الإلهية إلى ما بعد الموت. فالعالم الدنيوي هو عالم البشرولا مكان للخير فيه. هو عالم الصراع بين الطغاة، أحدهم ينتصر والأخر يهزم، وفي الحالتين يستمر الشر.
نحن لا نملك أية معطيات مادية عن العالم الآخر، ولا ندري مدى حتمية تلك العدالة المؤجلة. كل ما نعرفه هو بعض التصورات من خلال مجموعة كتب دينية. وثمة من يقول أن تأجيل الديانات لهذه العدالة إلى ما بعد الموت يؤكد على أنها مجرد حلم بشري مستحيل ينبثق من واقعنا الدنيوي وليس إلا.
لم أتجرأ على قول استنتاجي هذا، ناهيك عن كتابته ونشره.لأنني متأكد أن هذا الكلام غير مقبول عند عامة الناس. ولا سيما في البيئات المتخلفة اجتماعياً وثقافياً كبيئتنا السورية.
منذ أيام كنت أرتب مكتبتي، فوقع تحت يدي كتاب “المنفى والملكوت” للكاتب الفرنسي ألبير كامو(1913-1960) مؤلف رواية الطاعون المشهورة والتي حصل بموجبها على جائزة نوبل عام 1945. الكتاب ترجمة خيري حماد، من منشورات دار مكتبة الحياة في بيروت، وبدون تاريخ الطباعة، وأعتقد يعود تاريخه إلى سبعينيات القرن الماضي، وربما هذه هي الطبعة الوحيدة للكتاب. أتذكر أنني اشتريته من على بسطة(كتب تعرض على الرصيف) في حلب قرب المتحف الوطني حيث كنت موظفاً فيه.
بالرغم من قراءتي لكل نتاج هذا المفكر والأديب الفرنسي منذ أيام الدراسة الثانوية في السبعينيات القرن الماضي، وإعادة قراءتي لكتبه عدة مرات فيما بعد، إلا أن هذا الكتاب هو الوحيد الذي لم أقرأه، مع أنه موجود في مكتبتي منذ أكثر من عشر سنوات. وربما قرأته ولكن الذاكرة بدأت تتقهقر أمام الزمن.
الكتاب عبارة عن مجموعة قصص. لكنها قصص يبث فيها كامو فلسفته المعروفة بـ (فلسفة العبث). فهي ليست قصص على نموذج قصص تشيخوف(روسي)، أو يوسف إدريس(مصري) أو زكريا تامر(سوري). إنها قصص تعكس كل واحدة منها معضلة فكرية.
أريد التطرق هنا إلى قصة واحدة من هذه المجموعة. فهذه القصة تبين مدى التقاطع بين استنتاجي السابق وأفكار بطل القصة. يعني أن ألبير كامو فكر بهذا الموضوع منذ أكثر من نصف قرن قبلي.
في الحقيقة لا أريد سرد القصة، وإنما التطرق إلى الخلفية الفكرية لها. فكل ما في الأمر أن بطل القصة يقع تحت سلطة قطاع طرق همج في صحارى الجزائر، ويقوم هؤلاء بتعذيبه بوحشية لا يستطيع بطل القصة تحمله. ومن تحت هذا التعذيب يصرح بأفكاره وتصوراته الجديدة عن العالم الذي نعيش فيه. يقول بطل القصة أن الشر هو القائم في عالم الإنسان، والقوة هي التي تتحكم به. وبالتالي فهو يشك بوجود الأخيار. ” إنني لا أصدق، فليس هناك رجال حق وفضيلة، وإنما سادة أشرار، يفرضون حكماً من الحقيقة التي لا ترحم”.
ربما تعود مأساتنا مع الشر إلى الخلاف بين الرب وإبليس حول آدم. فمنذ البداية سادت الكراهية بين آدم وإبليس, ومن ثم أصبح هذان المخلوقان محكومان بصراع يريد أحدهما أن يلغي الآخر، ولكن دون جدوى. كان بإمكان الرب أن يقتل إبليس حين رفض السجود لآدم، ويسد الباب الذي سيخرج منه الشر. وبذلك يحتم انتصار الخير. لكنه لم يفعل، بل مد من عمر إبليس حتى يوم القيامة مقابل تسليط الموت على الإنسان. وهكذا أصبح إبليس بطل قصة الشر في هذه الدنيا إلى ذلك اليوم الموعود. فلو ساد الموت في مملكة إبليس أيضاً لتغير عالمنا من جذوره. من جانب آخر هل كان بالإمكان أن تعمّر هذه الدنيا لولا تمرد إبليس على الإله وخروج آدم عن طاعته بأكل ثمر تلك الشجرة في الجنة؟. نحن لن ننتصر على إبليس لأنه حصل على القوة ومتحرر من الموت. هذا من الناحية الدينية. أما من ناحية حياة البشر الواقعية، فالعامل الأساسي لكل تقدم مجتمعنا البشري وحضارته هو انتصار الشر وسيادته في الصراع بينه وبين الخير. فعلى سبيل المثال أقامت الإمبراطورية الرومانية حضارة عظيمة، وسادت عدة قرون، لكنها في الوقت نفسه كانت أشرس إمبراطورية في الاستعباد والقتل والسلب والنهب. وهذا ينطبق على بقية الإمبراطوريات السابقة واللاحقة. في واقعنا الحديث كانت ثورة أكتوبر هي ثورة الفقراء والمضطهدين الذين أرادوا إقامة العدالة البشرية من خلال تطبيق نظام اشتراكي عادل. لكن هذا النظام الاشتراكي، بالرغم من تقدمه في مجالات عديدة في الصناعة والتكنولوجيا وغزو الفضاء وإنقاذ الناس من المجاعة وتأمين العمل والتعليم والصحة لهم، لكن هذا الجانب الجيد من النظام أخفى جانباً آخر أكثر سواداً. وهو تحول هذا النظام إلى نظام إلى نظام استبدادي شرس تجاه مواطنيه أكثر من النظام القيصري. وإذا قارننا ستالين مع القيصر سنجد أن الأخير كان ملاكاً مقارنة بستالين.
قد تخف وطأة الشر أحياناً، وقد يظهر في بعض الفترات القصيرة وكأن الخير بدأ يسود. لكن تلك الفترات هي التي يغفل فيها الشر أو يتأجل قليلاً لأسباب مؤقتة. وفي الحقيقة أن هذه الحالات النادرة تخلق الشكوك في العقول، وكأن طبيعة الحياة بدأت تخرج عن مسارها. يصرح بطل قصتنا: “وسيتأجل حكم الشر، ويحل الشك ثانية، ويضيع الوقت من جديد، في توقع الخير المستحيل، وينهك المرء قواه في جهود غير مجدية، بدلاً من أن يسارع إلى تحقيق المملكة الوحيدة الممكنة”. والمملكة الوحيدة التي يقصدها هي مملكة الشر.
الحقيقة المؤلمة هي أن الإنسان يسعى إلى إقامة المملكة الوحيدة التي يستطيع إقامتها، وهي مملكة الشر. فهو غير قادر على إقامة مملكة الخير.
يريد كامو من وراء قوله هذا أن الخير مستحيل، بل يتفق مع طبيعة البشر. فالعالم الذي يسود فيه الخير والعدل هو عالم وهمي ينتجه خيال الإنسان. وهذا الوهم غير موجود عند أي كائن آخر سوى الإنسان. صحيح أنه، رغم هذه الحقيقة المرة، لا يكل في البحث عن الخير، لكن ليس كل شيء يسعى إليه الإنسان هو موجود في الواقع البشري فعلاً. فالإنسان لا يكل من البحث عن الخلود أيضاً، بالرغم من أن كل الوقائع تؤكد أن الخلود تصور خيالي يسيطر على تفكير البشر نتيجة خوفه الاستثنائي من الموت.
حين نحلل وقائع تاريخ الإنسان بتجرد، وبعيداً عن تلك الآمال والرغبات التأملية، نجد أنه سعى منذ البداية إلى امتلاك القوة لاستخدامها تجاه أخيه الإنسان ( ولا أدري مدى صحة كلمة الأخ هنا). وقد كان إبليس ثاني واحد ، بعد الإله عرف هذه الحقيقة. لذلك لم يغادر محفل الإله قبل أن يحصل عليها. وقد لبى الإله طلبه بالرغم من معرفته أنه سيستخدمها لزرع الشر وتعزيزه في الدنيا. من هنا نجد أن العامل الثاني الذي يجعل إبليس هو المنتصر في الحياة على الإنسان، بعد تحرره من الموت، هو القوة. لقد منحه الله قوة أكثر مما منحها للإنسان. القوة، كما يقول بطل قصة كامو تجعل الناس يركعون، وترغم الأعداء على التسليم. في الحقيقة القوة هي الطريق الأقصر إلى ما يريده الإنسان. فكلما كان الإنسان أكثر قوة وقسوة، وأشد عمياً في استخدام هذه القوة والقسوة كلما زاد في فرض الخضوع على الناس. وفي الوقت نفسه يقدس الإنسان من يمده بالقوة ويبرر له استخدامها. إن حاشية الطاغية وزبانيته يصبحون أشد قسوة ضد من يرفع رأسه أمام الطاغية وأمامهم. وفي الوقت نفسه يعلنون ولاءهم المطلق وتقديسهم لطاغيتهم. ويبدو أن ثمة علاقة جدلية بين القوة والتقديس في التاريخ البشري. فلو لم يكن الإله ذو جبروت لا حدود له لما قدسه الإنسان عبر التاريخ.
عندما تخضع لسلطة ما، فأنت في واقع الأمر تضطر لعبادة الكراهية والحقد اللذين تجسدهما هذه السلطة. وبالتالي فالقوة تتحول في هذه الحالة إلى صنم تعبده كما يقول بطل القصة. والصنم هنا قد يكون إلهاً، وقد يكون سلطة، وقد يكون زعيماً أو حزباً في عصرنا.
الشرير حسب رأي بطل القصة يحتاج إلى صنم لإجبارك على عبادته، ويتحول هذا الصنم بدوره إلى قوة قاهرة: ” نعم فالصنم وحده هو الذي يملك القوة والسلطان، وهو إله هذا العالم الأوحد، ووصيته هي الكراهية، فهي منبع كل الحياة”. لو نظرنا إلى واقعنا الراهن نجد أن كل من سعى وعمل على إخضاع الآخر لنفوذه أجبره بالتالي على عبادة صنمه؟ ويبدو أن هذا الصنم هو سر فلسفة الاستبداد.
يقول بطل القصة صراحة: ” لقد أمنت بذلك الصنم، وكفرت بكل ما كنت أؤمن به حتى تلك الساعة”.
هكذا إذن فكلما سادت سلطة استبدادية على الناس، يبدأ الناس بتغيير قناعاتهم السابقة لتتطابق مع متطلبات هذه السلطة. وبالتالي يتكون قطيع جديد من الموالاة للطاغية، ربما كانوا بالأمس القريب من أشد معارضيه. هذا ما اعترف به بطل القصة عندما خضع للصنم الجديد فيقول :”..وهتفت من صميم قلبي له، وهو يمثل القوة والسلطان..، وهو السيد، بل الرب الأوحد، الذي لا ينازعه في صفة الحقد والبغضاء شيء آخر”. نعم..أليس كل طغاة العالم عبر التاريخ يتصفون بالحقد والكراهية؟.
هناك قول أن الطيبين هم أولئك الناس الذي لا يستحوذون على القوة. فبمجرد أن يستحوذوا عليها وعلى المال يصبحون هم أيضاً بدورهم طغاة. بمعنى آخر ليس هناك من سادة طيبين، بل هناك محرومون من القوة يضطروا إلى تقمص الخير. كان رجال الدين المسيحي في القرون الوسطى أشرس الناس في عصرهم. كانوا يشرفون بأنفسهم على تعذيب وقتل من يعتبرونهم لا يلتزمون بتعاليم المسيح. بعكس ما هم عليه اليوم ولا سيما في البلدان الغربية.
عندما تتعرض لتعذيب لا يمكن تحمله، فإنك تخضع لمن يعذبك غصباً عنك. وتلك الصرخات التي تطلقها تحت التعذيب دون إرادة منك، تشير إلى بداية اضطرارك للاستسلام والخضوع. حينئذ ستقوم، غصباً عنك، بعبادة مبدأ الشر في العالم، لأنك تصبح كما يقول كامو سجين مملكة من يعذبك.
أتذكر أنني قرأت في بداية الثورة السورية في الانترنيت مقالة لأحد كبار المعارضين للنظام السوري اليوم. كتبها مباشرة بعد استدعاء للأمن السوري. في الحقيقة لا نعرف ماذا حدث بينه وبين المحقق. لكنه بعد عدة أيام نشر مقالة مدح فيها ثقافة محققه وتعامله الحضاري معه أثناء التحقيق. وبعد فترة هرب هذا المعارض إلى الخارج وكتب العديد من المقالات التي يصف فيها وحشية النظام وطائفيته وهمجية رجالات أمنه.
لقد تغير بطل قصتنا بالكامل، نتيجة خضوعه لاضطهاد تلك الجماعة الهمجية. لقد تحكم التعذيب بتفكيره، وسد كل المنافذ الأخرى. وبالتالي أخذ يعلن صراحة:” لقد كنت مضللاً، فحكم الحقد وحده، يخلو من العيوب. أجل لقد ضللت في الماضي، فالحقيقة مريعة، ثقيلة وكثيفة، ولا تقبل الفروق والامتياز، والخير حلم لا جدوى منه، أنه نية دائمة التأجيل، يتبع الإنسان بمجهود مضن، فلا يصل إلى حدوده، لأن حكمه أمر مستحيل. لكن الشر وحده، هو الذي يستطيع أن يصل حدوده وأن يحكم حكماً فردياً طاغياً، وعلينا أن نخدمه لنقيم ملكوت الموتى”.
نحن لا نملك أية معطيات مادية عن العالم الآخر، ولا ندري مدى حتمية تلك العدالة المؤجلة. كل ما نعرفه هو بعض التصورات من خلال مجموعة كتب دينية. وثمة من يقول أن تأجيل الديانات لهذه العدالة إلى ما بعد الموت يؤكد على أنها مجرد حلم بشري مستحيل ينبثق من واقعنا الدنيوي وليس إلا.
لم أتجرأ على قول استنتاجي هذا، ناهيك عن كتابته ونشره.لأنني متأكد أن هذا الكلام غير مقبول عند عامة الناس. ولا سيما في البيئات المتخلفة اجتماعياً وثقافياً كبيئتنا السورية.
منذ أيام كنت أرتب مكتبتي، فوقع تحت يدي كتاب “المنفى والملكوت” للكاتب الفرنسي ألبير كامو(1913-1960) مؤلف رواية الطاعون المشهورة والتي حصل بموجبها على جائزة نوبل عام 1945. الكتاب ترجمة خيري حماد، من منشورات دار مكتبة الحياة في بيروت، وبدون تاريخ الطباعة، وأعتقد يعود تاريخه إلى سبعينيات القرن الماضي، وربما هذه هي الطبعة الوحيدة للكتاب. أتذكر أنني اشتريته من على بسطة(كتب تعرض على الرصيف) في حلب قرب المتحف الوطني حيث كنت موظفاً فيه.
بالرغم من قراءتي لكل نتاج هذا المفكر والأديب الفرنسي منذ أيام الدراسة الثانوية في السبعينيات القرن الماضي، وإعادة قراءتي لكتبه عدة مرات فيما بعد، إلا أن هذا الكتاب هو الوحيد الذي لم أقرأه، مع أنه موجود في مكتبتي منذ أكثر من عشر سنوات. وربما قرأته ولكن الذاكرة بدأت تتقهقر أمام الزمن.
الكتاب عبارة عن مجموعة قصص. لكنها قصص يبث فيها كامو فلسفته المعروفة بـ (فلسفة العبث). فهي ليست قصص على نموذج قصص تشيخوف(روسي)، أو يوسف إدريس(مصري) أو زكريا تامر(سوري). إنها قصص تعكس كل واحدة منها معضلة فكرية.
أريد التطرق هنا إلى قصة واحدة من هذه المجموعة. فهذه القصة تبين مدى التقاطع بين استنتاجي السابق وأفكار بطل القصة. يعني أن ألبير كامو فكر بهذا الموضوع منذ أكثر من نصف قرن قبلي.
في الحقيقة لا أريد سرد القصة، وإنما التطرق إلى الخلفية الفكرية لها. فكل ما في الأمر أن بطل القصة يقع تحت سلطة قطاع طرق همج في صحارى الجزائر، ويقوم هؤلاء بتعذيبه بوحشية لا يستطيع بطل القصة تحمله. ومن تحت هذا التعذيب يصرح بأفكاره وتصوراته الجديدة عن العالم الذي نعيش فيه. يقول بطل القصة أن الشر هو القائم في عالم الإنسان، والقوة هي التي تتحكم به. وبالتالي فهو يشك بوجود الأخيار. ” إنني لا أصدق، فليس هناك رجال حق وفضيلة، وإنما سادة أشرار، يفرضون حكماً من الحقيقة التي لا ترحم”.
ربما تعود مأساتنا مع الشر إلى الخلاف بين الرب وإبليس حول آدم. فمنذ البداية سادت الكراهية بين آدم وإبليس, ومن ثم أصبح هذان المخلوقان محكومان بصراع يريد أحدهما أن يلغي الآخر، ولكن دون جدوى. كان بإمكان الرب أن يقتل إبليس حين رفض السجود لآدم، ويسد الباب الذي سيخرج منه الشر. وبذلك يحتم انتصار الخير. لكنه لم يفعل، بل مد من عمر إبليس حتى يوم القيامة مقابل تسليط الموت على الإنسان. وهكذا أصبح إبليس بطل قصة الشر في هذه الدنيا إلى ذلك اليوم الموعود. فلو ساد الموت في مملكة إبليس أيضاً لتغير عالمنا من جذوره. من جانب آخر هل كان بالإمكان أن تعمّر هذه الدنيا لولا تمرد إبليس على الإله وخروج آدم عن طاعته بأكل ثمر تلك الشجرة في الجنة؟. نحن لن ننتصر على إبليس لأنه حصل على القوة ومتحرر من الموت. هذا من الناحية الدينية. أما من ناحية حياة البشر الواقعية، فالعامل الأساسي لكل تقدم مجتمعنا البشري وحضارته هو انتصار الشر وسيادته في الصراع بينه وبين الخير. فعلى سبيل المثال أقامت الإمبراطورية الرومانية حضارة عظيمة، وسادت عدة قرون، لكنها في الوقت نفسه كانت أشرس إمبراطورية في الاستعباد والقتل والسلب والنهب. وهذا ينطبق على بقية الإمبراطوريات السابقة واللاحقة. في واقعنا الحديث كانت ثورة أكتوبر هي ثورة الفقراء والمضطهدين الذين أرادوا إقامة العدالة البشرية من خلال تطبيق نظام اشتراكي عادل. لكن هذا النظام الاشتراكي، بالرغم من تقدمه في مجالات عديدة في الصناعة والتكنولوجيا وغزو الفضاء وإنقاذ الناس من المجاعة وتأمين العمل والتعليم والصحة لهم، لكن هذا الجانب الجيد من النظام أخفى جانباً آخر أكثر سواداً. وهو تحول هذا النظام إلى نظام إلى نظام استبدادي شرس تجاه مواطنيه أكثر من النظام القيصري. وإذا قارننا ستالين مع القيصر سنجد أن الأخير كان ملاكاً مقارنة بستالين.
قد تخف وطأة الشر أحياناً، وقد يظهر في بعض الفترات القصيرة وكأن الخير بدأ يسود. لكن تلك الفترات هي التي يغفل فيها الشر أو يتأجل قليلاً لأسباب مؤقتة. وفي الحقيقة أن هذه الحالات النادرة تخلق الشكوك في العقول، وكأن طبيعة الحياة بدأت تخرج عن مسارها. يصرح بطل قصتنا: “وسيتأجل حكم الشر، ويحل الشك ثانية، ويضيع الوقت من جديد، في توقع الخير المستحيل، وينهك المرء قواه في جهود غير مجدية، بدلاً من أن يسارع إلى تحقيق المملكة الوحيدة الممكنة”. والمملكة الوحيدة التي يقصدها هي مملكة الشر.
الحقيقة المؤلمة هي أن الإنسان يسعى إلى إقامة المملكة الوحيدة التي يستطيع إقامتها، وهي مملكة الشر. فهو غير قادر على إقامة مملكة الخير.
يريد كامو من وراء قوله هذا أن الخير مستحيل، بل يتفق مع طبيعة البشر. فالعالم الذي يسود فيه الخير والعدل هو عالم وهمي ينتجه خيال الإنسان. وهذا الوهم غير موجود عند أي كائن آخر سوى الإنسان. صحيح أنه، رغم هذه الحقيقة المرة، لا يكل في البحث عن الخير، لكن ليس كل شيء يسعى إليه الإنسان هو موجود في الواقع البشري فعلاً. فالإنسان لا يكل من البحث عن الخلود أيضاً، بالرغم من أن كل الوقائع تؤكد أن الخلود تصور خيالي يسيطر على تفكير البشر نتيجة خوفه الاستثنائي من الموت.
حين نحلل وقائع تاريخ الإنسان بتجرد، وبعيداً عن تلك الآمال والرغبات التأملية، نجد أنه سعى منذ البداية إلى امتلاك القوة لاستخدامها تجاه أخيه الإنسان ( ولا أدري مدى صحة كلمة الأخ هنا). وقد كان إبليس ثاني واحد ، بعد الإله عرف هذه الحقيقة. لذلك لم يغادر محفل الإله قبل أن يحصل عليها. وقد لبى الإله طلبه بالرغم من معرفته أنه سيستخدمها لزرع الشر وتعزيزه في الدنيا. من هنا نجد أن العامل الثاني الذي يجعل إبليس هو المنتصر في الحياة على الإنسان، بعد تحرره من الموت، هو القوة. لقد منحه الله قوة أكثر مما منحها للإنسان. القوة، كما يقول بطل قصة كامو تجعل الناس يركعون، وترغم الأعداء على التسليم. في الحقيقة القوة هي الطريق الأقصر إلى ما يريده الإنسان. فكلما كان الإنسان أكثر قوة وقسوة، وأشد عمياً في استخدام هذه القوة والقسوة كلما زاد في فرض الخضوع على الناس. وفي الوقت نفسه يقدس الإنسان من يمده بالقوة ويبرر له استخدامها. إن حاشية الطاغية وزبانيته يصبحون أشد قسوة ضد من يرفع رأسه أمام الطاغية وأمامهم. وفي الوقت نفسه يعلنون ولاءهم المطلق وتقديسهم لطاغيتهم. ويبدو أن ثمة علاقة جدلية بين القوة والتقديس في التاريخ البشري. فلو لم يكن الإله ذو جبروت لا حدود له لما قدسه الإنسان عبر التاريخ.
عندما تخضع لسلطة ما، فأنت في واقع الأمر تضطر لعبادة الكراهية والحقد اللذين تجسدهما هذه السلطة. وبالتالي فالقوة تتحول في هذه الحالة إلى صنم تعبده كما يقول بطل القصة. والصنم هنا قد يكون إلهاً، وقد يكون سلطة، وقد يكون زعيماً أو حزباً في عصرنا.
الشرير حسب رأي بطل القصة يحتاج إلى صنم لإجبارك على عبادته، ويتحول هذا الصنم بدوره إلى قوة قاهرة: ” نعم فالصنم وحده هو الذي يملك القوة والسلطان، وهو إله هذا العالم الأوحد، ووصيته هي الكراهية، فهي منبع كل الحياة”. لو نظرنا إلى واقعنا الراهن نجد أن كل من سعى وعمل على إخضاع الآخر لنفوذه أجبره بالتالي على عبادة صنمه؟ ويبدو أن هذا الصنم هو سر فلسفة الاستبداد.
يقول بطل القصة صراحة: ” لقد أمنت بذلك الصنم، وكفرت بكل ما كنت أؤمن به حتى تلك الساعة”.
هكذا إذن فكلما سادت سلطة استبدادية على الناس، يبدأ الناس بتغيير قناعاتهم السابقة لتتطابق مع متطلبات هذه السلطة. وبالتالي يتكون قطيع جديد من الموالاة للطاغية، ربما كانوا بالأمس القريب من أشد معارضيه. هذا ما اعترف به بطل القصة عندما خضع للصنم الجديد فيقول :”..وهتفت من صميم قلبي له، وهو يمثل القوة والسلطان..، وهو السيد، بل الرب الأوحد، الذي لا ينازعه في صفة الحقد والبغضاء شيء آخر”. نعم..أليس كل طغاة العالم عبر التاريخ يتصفون بالحقد والكراهية؟.
هناك قول أن الطيبين هم أولئك الناس الذي لا يستحوذون على القوة. فبمجرد أن يستحوذوا عليها وعلى المال يصبحون هم أيضاً بدورهم طغاة. بمعنى آخر ليس هناك من سادة طيبين، بل هناك محرومون من القوة يضطروا إلى تقمص الخير. كان رجال الدين المسيحي في القرون الوسطى أشرس الناس في عصرهم. كانوا يشرفون بأنفسهم على تعذيب وقتل من يعتبرونهم لا يلتزمون بتعاليم المسيح. بعكس ما هم عليه اليوم ولا سيما في البلدان الغربية.
عندما تتعرض لتعذيب لا يمكن تحمله، فإنك تخضع لمن يعذبك غصباً عنك. وتلك الصرخات التي تطلقها تحت التعذيب دون إرادة منك، تشير إلى بداية اضطرارك للاستسلام والخضوع. حينئذ ستقوم، غصباً عنك، بعبادة مبدأ الشر في العالم، لأنك تصبح كما يقول كامو سجين مملكة من يعذبك.
أتذكر أنني قرأت في بداية الثورة السورية في الانترنيت مقالة لأحد كبار المعارضين للنظام السوري اليوم. كتبها مباشرة بعد استدعاء للأمن السوري. في الحقيقة لا نعرف ماذا حدث بينه وبين المحقق. لكنه بعد عدة أيام نشر مقالة مدح فيها ثقافة محققه وتعامله الحضاري معه أثناء التحقيق. وبعد فترة هرب هذا المعارض إلى الخارج وكتب العديد من المقالات التي يصف فيها وحشية النظام وطائفيته وهمجية رجالات أمنه.
لقد تغير بطل قصتنا بالكامل، نتيجة خضوعه لاضطهاد تلك الجماعة الهمجية. لقد تحكم التعذيب بتفكيره، وسد كل المنافذ الأخرى. وبالتالي أخذ يعلن صراحة:” لقد كنت مضللاً، فحكم الحقد وحده، يخلو من العيوب. أجل لقد ضللت في الماضي، فالحقيقة مريعة، ثقيلة وكثيفة، ولا تقبل الفروق والامتياز، والخير حلم لا جدوى منه، أنه نية دائمة التأجيل، يتبع الإنسان بمجهود مضن، فلا يصل إلى حدوده، لأن حكمه أمر مستحيل. لكن الشر وحده، هو الذي يستطيع أن يصل حدوده وأن يحكم حكماً فردياً طاغياً، وعلينا أن نخدمه لنقيم ملكوت الموتى”.
يا لها من حقيقة مرعبة..!