تشرذم الحراك الثقافي في غرب كردستان – الجزء الأول

د. محمود عباس

يهتم الحراك الثقافي عادة، بمآسي المجتمع، ويستشرف الأبعاد المستقبلية، كما الأنبياء، ويدرك مجريات الأحداث كلما ملك المثقف ذاته، وشعر بحرية الرأي والاستقلالية في المسيرة الفكرية، وحينها ستكون نبوءته أقرب إلى الواقع، وسينوَّر الدروب بأسطَع الحكم، فالثورة السورية رغم كل المآسي خلقت الكثير من هذه الأجواء، وقبلها ثورة 2004 الكردية وضَّحت أطياف من  الوعي المقموع، لكن مرور الزمن صار يبين ظاهرة شبه فريدة من ذاتها لدى الحراك الثقافي الكردي، خلقت بعض التشوهات التي لا يمكن أن تصلح ربما إلى مدى عقود قادمة من الزمن، عند غالبية هذه الشريحة، والأغرب أن بعضها انجرف طواعية، بعكس ما كان عليه الحراك السياسي الكردي، وعلى مدى عقود من سيطرة السلطة الشمولية على مسيرتها.
  تتوضح يوماً بعد آخر، ظاهرة انحياز هذه الشريحة، بكل نماذجها، نحو الأحزاب التي تستخدم أجندات القوى السياسية الكردستانية والمستغلة بدورها من قبل القوى الإقليمية، إذ تتخلى عن استقلاليتها الفكرية تحت عباءة الواجب الوطني، والمثقف يدرك، كرسول للفكر ونبي الأمة، أن واجباته تفرض الفكر الحر، وتنوير الدروب ليس فقط للحراك السياسي بل لكل مؤسسات المجتمع، والذين يملكون هذه القدرات مجموعة نوعية، وهي تحارب في حاضر غرب كردستان وتعتم عليها بشكل ممنهج من قبل القوى التي لا تؤمن إلا بالطغيان والانتماء، ورغم أن طفرة التكالب على القوى السياسية أو الاحتماء بمنظمات حزبية، في حالة الصراع الحاضر، تعتبر حالة صحية في كثيره، وتعتبر ظاهرة نوعية يجب أن تستقبل بترحاب من قبل المثقف الواعي، لأنها تؤدي إلى نقاء الثقافة من الشخصية الانتهازية والانتمائية والمقتنعة بتأليه الأشخاص أو القوى السياسية، وستؤدي إلى سهولة فضح الارتباطات وأجندات القوى الباحثة عن البغي أو الشخصية الحزبية دون الوطن، كما وتعتبر تنقية ذاتية للحراك الثقافي الكلي.

إلا أنه في الواقع الكردستاني عامة وفي غرب كردستان خاصة  تظهر جدلية العكس والتناقض السلبي، فالمثقف المستقل وخاصة الكاتب المؤثر على الساحة يضعف سنده، وكثيراً ما يهاجم بلا هوادة من قبل المثقف المنتمي قبل السياسي، إلى حد التخوين، والنهش والنقد المغلق والتعرض للشخصنة، دون اعتبار لقيم الاختلافات الفكرية، وعليه تضعف توجهات هذه الشريحة وتأثيرها الكلي على القوى السياسية أو قدراتها على إحداث تغيير ملموس في الثقافة الحاضرة المشوهة، وهذا ما تبحث عنه القوى السياسية الانتهازية في غربي كردستان، أو من خارج جغرافيتها ومثلهم بشكل أوسع القوى الإقليمية، والتي من مهامها تشويه الحراك الثقافي الكردستاني الوطني واللامنتمي وربطها بالحصار السياسي الحزبي.
 المجتمع البشري وعلى مر التاريخ ينحاز إلى مفهومين في الحياة، إما المثالية ، أي الروحانية وسيطرة الفكر الديني، أو الواقعية المادية حيث العلوم والإيديولوجيات، لكن وبعد صراعات فكرية وميدانية طويلة بينهما، ظهرت فلسفة التوحيد وانتشرت على مدى قرون من الزمن، اشتهر بها فلاسفة عظام في التاريخ، برزوا في العلوم والسياسة مثلما في الأديان، ولا تزال تأثيراتها واسعة في العديد من المجالات، جرفت إليها بطرق متنوعة مثقفون كرد وعلى مدى التاريخ، وكانت المذاهب الصوفية، التي كان لها حضورها في الواقع الكردي الفكري المثالي أو المادي، رائدة في إظهارها، بحثت في وحدة الوجود، ووحدة الإنسانية، والكرد من المعروفين في التاريخ بمدى تبنيهم لهذا المذهب بطرقه المتعددة، وانتشاره كان له حضوره الشاسع في جغرافيتهم، بل كانوا في كثير من الأحيان قادته، لكن هذه الصوفية حوصرت في أبعادها المثالية، وعتمت عليها في بعدها العلمي – المادي وتشوهت في الواقع السياسي الكردستاني، بل وانعدمت في غرب كردستان.
لم يستطع الحراك الثقافي في هذه البقعة أن يخلق التوحيد لا فلسفياً ولا سياسياً، بل انغمس في تجليات البعدين المتناقضين والمتصارعين، وشارك في توسيع الهوة، أحياناً بسكوته وأحياناً بقبوله الإملاءات المفروضة عليها، وصاحبت هذه المسيرة نزعة التعصب لدى البعض منه لجهة كردية مقابل جهة أخرى، إلى أن أصبح الاختلاف عداوة. واليوم تنتشر بشكل رهيب فلسفة التفريق، وكأن الأغلبية من الحراك الثقافي لم يقرأ التراث والتاريخ الكردي قراءة صائبة حتى ولو كان قد قرأهما البعض بتوسع.
كما لم تتمكن شريحتنا الثقافية من القضاء أو التضييق على فلسفة أو سياسة التفريق، بين الذات الحزبية والآخر، التي اتبعتها الأحزاب السياسية أو فرضت عليها سلطة كانت طاغية، والأبشع هو أن الأغلبية من الحركة الثقافية في غرب كردستان تبنت مفاهيم العزل وإلغاء الأخر عن وعي وإدراك وأُلبِست بأردية فكرية مهترئة، والبعض حاول الاعتراض، لكنهم استخدموا أدوات بدائية، واتّبعوا منطقاً خاطئاً، وسردية كلامية غير لائقة، بشعب يراد له التحرر من ثقافة موبوءة، وانغمست مجموعات في التشكيلات التنظيمية كأي حركة سياسية، تاركين البعد الثقافي، ومتناسين أن مهمتهم تكمن في توعية الشعب وتنوير الأحزاب السياسية، وتنبيهها إلى أخطائها.
كما تكالب البعض على فتح المكاتب في المدن والقصبات الكردية، وتشكيل هيئات تبحث عن الكم العددي لا النوع الفكري، ووضعت خدماتها تحت تصرف القوى السياسية الغارقة في الصراعات والأخطاء والولاءات لقوى إقليمية، فأصبحت في حقيقتها مكاتب إعلامية تخدم الأحزاب، لا الوطن، وفرزت في كثيره من قبل القوى الحزبية لأداء دور المُجمِّل لأعمالها البشعة، وعلى أثرها ظهرت التجمعات المتنوعة وبسرعة غريبة بين الشريحة الثقافية، تشتتت وانقسمت على بعضها وخسرت الكثير من  رونقها ونبوءتها، بل واهترأت مكانتها واحترامها لدى العامة من الشعب وبالتأكيد لدى الحراك السياسي نفسه، فلم تعد ترهبها الكلمة ولا القلم، فهي قد أصبحت في خدمتها الكلية، والعلاقة بينهما أصبحت كعلاقة السيد والموالي.
يتبع…
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
صدرت في جريدة بينوسا نو العدد (20) الناطقة باسم رابطة الكتاب والصحفيين الكرد في سوريا

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ابراهيم البليهي

لأهمية الحس الفكاهي فإنه لم يكن غريبا أن يشترك ثلاثة من أشهر العقول في أمريكا في دراسته. أما الثلاثة فهم الفيلسوف الشهير دانيال دينيت وماثيو هيرلي ورينالد آدمز وقد صدر العمل في كتاب يحمل عنوان (في جوف النكتة) وبعنوان فرعي يقول(الفكاهة تعكس هندسة العقل) وقد صدر الكتاب عن أشهر مؤسسة علمية في أمريكا والكتاب…

عبدالرزاق عبدالرحمن

مسنة نال منها الكبر…مسكينة علمتها الزمان العبر..

بشوق وألم حملت سماعة الهاتف ترد:بني أأنت بخير؟ فداك روحي ياعمري

-أمي …اشتقت إليك…اشتقت لبيتنا وبلدي …لخبز التنور والزيتون…

ألو أمي …أمي …

لم تستطع الرد….أحست بحرارة في عينيها…رفعت رأسها حتى لا ينزل دمعها،فقد وعدت ابنها في عيد ميلاده الأخير أن لا تبكي ،وتراءى أمام عينيها سحابة بيضاء أعادتها ست سنوات…

فراس حج محمد| فلسطين

في قراءتي لكتاب صبحي حديدي “مستقرّ محمود درويش- الملحمة الغنائية وإلحاح التاريخ” ثمة ما يشدّ القارئ إلى لغة الكتاب النقدية المنحازة بالكلية إلى منجز ومستقرّ الراحل، الموصف في تلك اللغة بأنه “الشاعر النبيّ” و”الفنان الكبير” “بحسه الإنساني الاشتمالي”، و”الشاعر المعلم الماهر الكبير” “بعد أن استكمل الكثير من أسباب شعرية كونية رفيعة”. و”المنتمي…

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…