دراسة في الادب الكوردي المعاصر .. بناء القصيدة ذات المدخل غير المباشر عند الشاعر لقمان محمود

يوصف هذا النوع من القصائد بالتكامل والنضوج،لتعدد أغراضها واختلاف موضوعاتها, لكنها في الحقيقة تُشكل وحدة عضوية تحصل من تعلق تلك الموضوعات ببعضها لتكون القصيدة بنية حيّة تامة الخلق والتكون,كما وصفها الحاتمي(ت388هـ)أو شبهها بجسم الإنسان من حيث ارتباط أجزائه ببعض بقوله(إذا انفصل واحد عن الآخرأو باينه في صحة التركيب غادر بالجسم عاهةً تتخون محاسنه وتعض معالمه،وقد وجدت حُذّاق المتقدمين وأرباب الصناعة من المحدثين يحترسون في مثل هذا الحال احتراساً يجنبهم شوائب النقصان ويقف بهم على محجة الإحسان حتى يقع الاتصال ويؤَمّن الانفصال،وتأتي القصيدة في تناسب صدورها وإعجازها وانتظام نسيبها بمديحها كالرسالة البليغة والخطبة الموجزة لا ينفصل جزء منها عن جزء ..)
إلاّ أنَّ ممن سبقه من النقاد وصفها في طريقة بنائها بالقصيدة المكتملة من حيث المقدمة ثم الرحلة ثم الغرض. إذن فهي تمثل قيمة أدبية حيّة لا سبيل إلى الفصل بين أجزائها إذا ما أَحسن الشاعرسبكها وأحكم بناءها،فالمبدع لا ينتقل من غرضٍ إلى آخر وقد ربط بينهما برابط متين ويتضح ذلك من خلال الوقوف على بناء القصيدة المفردة،لأنها تمثل الأساس للشعر العربي،فقد سارَعليها الشعراء اللاحقون،وأول ما نلحظه فيما يتصل بالشكل الفني للقصيدة أنها قد حققت على أيدي الشعراء صيغة فنية مكتملة اصطلح القدامى على تسميتها بالقصيدة التي تتألف من حيث شكلها الفني من الأوزان والقوافي والصورة الشعرية المصاغة بلغة فنية منضبطة انضباطاً كاملاً تتألف من حيث المضمون من أغراضٍ مختلفة يؤلف الشعراء بينها تأليفاً فنياً وفكرياً متكاملاً من الوقوف على الأطلال الدارسة إلى الغزل ووصف الرحلة وغيرذلك من الموضوعات مع انسجامها مع العناصر الأساسية لبنية القصيدة التقليدية,ويمكن أن نحدد تلك العناصرأو الأقسام لهيكل القصيدة في مجموعة الشاعرلقمان محمود كالآتي:
المقدمة: 
عُني نقادنا القدامى بدراسة مطالع قصائد الشعراء عناية خاصة من حيث المعنى والصياغة، ومناسبة الغرض الذي قيلت من أجله القصيدة،لأنه(المطلع)بداية حديثهم،ولاسيّما أن هذه البداية تكون الأسماع متطلعة إليها ومنجذبة نحوها،وعلى رأي ابن رشيق(ت 456هـ)الذي عَدَّ المطلع مفتاح الشعربقوله:(إنَّ الشعرقفلٌ أوله مفتاحه ويجب للشاعرأن يجود ابتداء شعره فإنه أول ما يقرع السمع وبه يستدل على ما عنده من أول وهلة) ورأي آخر(إنه أول ما يقرع أُذن السامع فينشرح له صدره وتهتز نفسه ويشعربأريحية وبهجة فيتشوق لما يأتي بعده وينساق إلى الإصغاء إليه طواعية واختياراً)وما دام حسن الافتتاح داعية الإنشراح ومطية النجاح(3)فقد حدد النقاد للمطلع شروطاً تكون معياراً لمعرفة المطلع الجيد من الرديء،وأهم هذه الشروط أن يكون حلواً سهلاً وفخماً وجزلاً خالياً من التعقيد وخالياً من المآخذ النحوية،وأن تراعى فيه جودة اللفظ والمعنى ,كما استحسن بعضهم استقلال المطلع بنفسه،فكلما كان حسناً بديعاً حليماً رشيقاً كان داعية الاستماع لما يجيء بعده من الكلام. وبيدو لي أنَّ مطالع الشاعرلقمان محمود جاءت موافقة للشروط إلى حدٍ ما ليرفع بها مكانة شعره ويشعربأُبهة ذلك،منذ الوهلة الأولى .كما امتازت مطالعه بالجودة وحسن السبك وجمال الصياغة والمعاني الفخمة لموضوعاته المتعددة،من تلك المطالع قول الشاعرلقمان محمود:
لقد بكيت كثيرا
لكن دموعي الان باسمة
وقلبي عصفور.
هذه المطالع وغيرها في الكثيرمن قصائد الشاعرلقمان محمود نراه تتفجرمن البداية الأولى معلنة عن موضوع القصيدة الأساس والتي نجد فيها أيضاً ألفاظ القوة والفخامة التي تدلُّ على قدرة الشاعرفي نظم الشعروإلى جانب ذلك نجد في مطالعه الرقة والعفوية ولاسيّما في مطالع قصائد الشوق والحنين إلى الماضي، وبما أن المطلع جزء من المقدمة،فقد عدَّ النقاد مقدمة القصيدة جزءاً رئيساً في بنائها الفني ولابُدَّ للشاعرمن السيرعلى منهج أسلافه وإلاّعيب ونيل من شعره،فضلاً عن ذلك أن المقدمة نشأت مع القصيدة العربية منذُ العصرالجاهلي،وظلَّ معناها يلقانا في صدورها على امتداد العصور الإسلامية المختلفة.  ومن نقادنا القدامى من فصل القول في المقدمة بقوله(إنَّ مقصد القصيد إنما ابتدأ فيها بذكرالديارفبكى وشكا وخاطب الربع …ثم وصل إلى النسيب فشكا شدة الوجد وألم الفراق)ومنهم من يرى أن على الشاعرأن يتفكرفي مقدمة شعره ومفاتيح أقواله ويبتعد عن الكلام الذي يكثر فيه البكاء ووصف الديار وألم الفراق والتحسرعلى أيام الشباب وذم الزمان وكثرة الشكوى لما فيها من استمالة عطف القلوب واستدعاء الأسماع والقبول,إلاّ أنَّ المنهج الذي رسمه ابن قتيبة(ت 276هـ)لم يكن تقليدياً فنياً يجب أن يلتزم به الشعراء إنما كانوا ينظمون ويصدرون عن دوافع وحالات نفسية تملي عليهم أن يأخذوا بهذا النهج في بعض قصائدهم.
المتعددةِ المضامينَ والمتنوعةِ الأغراضَ بين طلل وغزل وحماسة وطبيعة وشكوى وحكمة تبعاً لاختلاف المضامين في التجربة الشعرية،غيرأن المقدمة الطللية والغزلية كانتا الأكثر شيوعاً،ولعلَّ هذا ما أدى بالنقد أن يهتم بها اهتماماً واضحاً في تفسيرهذا الاندماج المباشر للشاعرفي مقدمة القصيدة التي يمكن أن نرجعها إلى طبيعة حياتهم،لأن العربي كانت حياته مبنية على الهجرة السريعة والانتقال المفاجيء مما يخلق أثراً بين الأحباب والديار لا يزول.  كما أن كثرة الغزل في مقدمة القصيدة يعود إلى ما في هذا الفن من تعدد الأشكال واختلاف المضامين فوصف الحبيبة بجمالها وكمال خلقها غزل،ووصف الشاعرحاله مما يلقي من هوى وغزل فضلاً عن كونه تعبيراً عن الحب الذي يعد مجمله جوهر العلاقة التي تقوم عليها حياة المجتمع,إذن المقدمة في نهاية المطاف رمزٌتعبيريٌ وشعوريٌ ذو صلة جوهرية ومناسبة قوية تقوم على فكرة الإصابة ودقة المطابقة العقلية والعاطفية يُفرض على القصيدة ليُحقق وحدتها العضوية،وهذا ما سعى إليه الشاعرلقمان محمود في مقدماته محاولا المزاوجة بين التقليد والأصالة مجسد شعوره ووجدانه تدفعه في ذلك قوة تجاربه التي يمكن أن تتخطى العادات والتقاليد،لذلك عدَّ بعض الدارسين المقدمة نافذة القصيدة على ماضي الشاعركُلّه، فالشاعريصورمن خلالها مشهداً من مشاهد ذلك الماضي الذي لا تنقطع صلته بالشاعرتبعاً لطبيعة الشاعرالنفسية والفنية والتجربة التي يعالجها موضوعه.  وكذلك نجد في مقدماته تنوع تلك المقدمات في افتتاح أشعاره أو قصائده،فقد وجدنا المقدمة الطللية والمقدمة الغزلية ومقدمة الشكوى والحكمة وغيرذلك من المقدمات،وما يهمنا هنا الوقوف على تلك المقدمات أو اللوحات الفنية التي تمر بها القصيدة .حيث تُعدُّ المقدمة الطللية أقدم أنواع تلك المقدمات التي عرفها الشعرالعربي قبل الإسلام وأكثرها شيوعاً وبما أن حياة العربي كانت في حركة مستمرة في انتقاله من مكان لآخر وراء العشب والماء،فلا يستقرون بمكان ثابت مما كان له الأثرالكبيرفي نفس الشاعرعندما يرتحل قومه فيترك ذكرياته في الموضع السابق فلا ينسَى عشقه لها وتلك الأيام المفرحة والحزينة فهو يقف مستذكراً بأحاسيسه وعواطفه تلك الدياروالوقوف على آثارها والتي يمكن أن تزيلها عوامل الطبيعة . لذلك أراد الشاعرأن يُجسد تلك الآثاروالذكريات في مقدمة قصائده لتبقى تلك الصورة الحزينة خالدة في شعره،وإن لم تكن كاملة فوصف ما بقي منها على تلك البقعة من الأرض الواسعة، كما فعل الشاعرلقمان محمود حيث يقف متسائلاً وحائراً عن تلك الدياروتظهرفي ذلك آلامه المتدافعة في الوحدة والغربة وما ألمَّ به من مصائب وحوادث كما تظهرفي ذلك عوامل الطبيعة وقوتها على تلك الآثارالتي محت جزءا منها،حيث يقول في مقدمة قصيدته:
اتابع حياتي
:انا النهر الجريح
في الاراضي الميتة.
كما نجد أنَّ الشاعرلقمان محمود يحاول معرفة هذه الديارالتي اصبحت ذكريات تراقص ذاكرته,التي صارت اشبه بجزيرة تهرب منها نفسه نحو فضاء خال من الظلم,وقسوة الحياةكما رفد الشاعرلوحته الطللية بعناصرتقليدية تمثل شكلاً منهجياً واحداً من الأشكال التي كانت تقف أمام كثيرمن الأعمال الشعرية التي أقدم عليها الشعراء،ألاوهي لوحة المرأة التي رسم صورتها بشكل واضح،كأن يكون الشاعرقد تأثربها،أو قصدها حقيقة، وعلى رأي ابن رشيق،أن للشعراء أسماء من النساء تخف على ألسنتهم ثم ينتقل الشاعرإلى لوحة أُخرى من النسيب فيصف تلك المرأة التي شاركت حياته,باحلامه والامه وذكرياته,فيتغزل بها وبجمالها,ولو ان راهبا نظراليها او تعرض لها لعشقها,وترك صومعته ودعا ربه من شدة حبها فكيف يكون حال الإنسان العادي إذا نظرَإليها.فقد أحسن الشاعرفي هذه اللوحة،إذ يقول:
عودي ايتها الجريحة
عودي,لتشلحي الحرب قليلا
هيأت لكل جرح شفتين من فمي.
وينتقل الشاعربعد هذه لوحة،الى ولوحة جديدة اذ يبدع فيها ألا وهي لوحة الشكوى،وما ألمَّ به من البعد والغربة والاشتياق الى عالمه الذي هرب منه في غفلة من الزمن,فيقول:
أتابع حياتي
:انا النهر الجريح
في الاراضي الميتة.
ثم يدخل الشاعربعد هذه اللوحات الجميلة إلى موضوع أخر الأساسي وهو يذكر أيامه وأيام التي طاردته من مكان إلى أخر بحثا عن ملاذ أمن له بعيدا عن أهله,حيث الموت ينتظر خلف جدران السجون الطغاة بأسلوب رائع في بناء التراكيب والصور ,وهذه المقدمة في قوله:  عندما امسك يديك
كي اودعك
لماذا انسى كفي فيهما؟
ومقدمة اخرى في قصيدة تتكون من عدد من المقاطع وهي بناء مقطعي,حيث تكون من عشرة مقاطع وكل مقطع له مقدمة خاصة به ففي المقطع الاول يصف الشاعر عندما يمسك يد حبيبته فينسى يده في يدها حيث يقول:
عندما امسك يديك
كي اودعك
لماذا انسى كفي فيهما؟
اما في المقطع الثاني يصف كيف يكون النهارعند يريد ان يستحم وهي مقطع رمزي يتصورفيه الشاعران الحياة التي يعيشها البشروسط الفوضى والتخبط في عالم غريب يأخذ اكثرمما يعطي,لهذا يصرخ في وجه غول الظلام,ويطلب ان تتحرر نفوسهم من قيود العبودية,حيث يقول:
اذا شلح النهار كامل لباسه
واراد ان يستحم
فهل ستكون الشمس
وفي مقطع الثالث يتصوران الحرية امرأة والشعب هو ذلك الرجل الباحث عن الحب,عندما يرتبطان تتشكل الرفاهية,حيث يقول:
لماذا الحرية انثى..
ولماذا الشعب ذكر..
ولماذا اذن
اما في المقطع الرابع فهو يخاطب حبيبته حيث يتصورها حديقة كاملةاما نساء العالم فشجرة واحدة,حيث يقول:
اذا كانت الانوثة شجرة
لماذا انت حديقة كاملة؟
يستمرالشاعربوصف حبيبته حيث يتعجب كيف يراها بعينيه ولا يراها بقلبه,حيث يقول:
لماذا اردت ان اراك بعيني
– هذه المرة فقط –
هل سيعمى قلبي؟
—————
د. جمال خضير الجنابي
جريدة التآخي البغدادية

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…