أمرك سيّدي

نارين عمر
narinomer76@gmail.com

يُقال: كان هناك رجل فقير يعيش كفاف العيش مع زوجته وأولاده, لكنّ فكرة ملعونة نطّت إلى فكره, شغلت باله, وأقلقت سكينته, تكمن في رغبته مجاراة المنعمين والمرفّهين بغية الوصول إلى مقامهم الرّفيع والعزف على مختلفِ الأنغام والأوتار التي يدندنون بها,فقرّر الرّحيل مع عائلته إلى قريةٍ أخرى لا يعرفه فيها أحد. خَطَرَ له ذاتَ يومٍ أنيتوجّه إلى وجيه القريةِ, توسّل إليه في أن يقبل به خادماً مطيعا, وعاملاً أميناً, فقبل به الوجيه, وحين سأله عن اسمه, ردّ عليه (اسمي يا سيّدي هو ابن الـ …؟), فاستفسر الوجيه عن الاسم, وحاول أن يفصح عن اسمه الحقيقيّ, لكنّه أصرّ على الّلقبِ الجديد الذي سرعان ما انتشر بين أفراد القرية حتّى صار الجميع ينادونه بالاسمذاته.
الجملة التي كان يردّدها على الدّوام للوجيه ولغيره من الأشخاص كانت “أمرك سيّدي” حتّى أنّ الكلّ كان يردّدها على سبيلِ المزاح والتّهريج.
مرّت الأيّام لتتحوّل إلى شهور, وهي بدورها تتحوّلُ إلى سنوات, أحسّ خلالها الرّجل بثقل القطع النّقدية والورقيّة التي تملأ عبّه, وأنّه قد جمع من حوله مجموعة بشرية من هنا وهناك -نتيجة كلامه المعسول ومجاملته الزّائفة-فتوجّه نحو مضافةِ الوجيه, وكالعادةِ ردّ عليه السّلام هو ومَن في المضافةِ بلقبه المعتاد, لكنّ الرّجل ثار في وجههم وقال للوجيه:
“بل أنت وأبوك ابن الـ…..”, قسماً, عظماً من الآن وصاعداً الذي يناديني بهذا الاسم سأرديه قتيلاً في الّلحظةِ ذاتها”.
أيّها الوجيه! منذ الآن يجب أن أجلس إلى جانبك أنت وكلّ وجهاء القرية, لأنّني مثلكم أصبحتُ صاحب شأن كبير, معي قوّة لا تعلو عليها قوةّ, وسلطة لا تضاهيها سلطة أخرى” قوّة المال وسلطة الوجاهة” انظروا إلى مالي, انظروا إلى حاشيتي, أصلحُ مثلكم أن أكونَ الوجيه والسّيّد.
نظرَ إليه الوجيه بقليل من التّمعّن, ثمّ قال:
“نعم, قد يكون لديك الآن ما لديّ ولدى وجهاءِ القريةِ من المال وربّما أكثر, وقد جمعتَ من حولك البعضَ الذي خُدِعَ بزيف كلامك والبعض الذي هو مثلك, فيبادلونكَ الزّيف والتّملّق نفْسه, وينادونك بالسّيّد والقائدِ والوجيه ولكنّك ستظلّ في عينيّ وأذهان القرويّين جميعاً ذلك الشّخصَ المتملّق, الانتهازيّ, بل ذلك الخادم المطيع الذي لا يملك شيئاً, وسوف يظلّ الجميعُ ينادونك الاسم ذاته الذي اخترته لنفسك طول الفترةِ السّابقة, ولا يهمّنا كثرة مالك ولا عددُ مَنْ يلتفّ حولك, يصفّقون لك, ويغرقونكَ بزيفِ الحديثِ والنّفاق.
بنيّ!
الأصالة والوجاهة ليست في كثرةِ المال ولا في التّملقِ والتّزييف, ولا في المكانة غير اللائقة التي يحْصلُ عليها الشّخصُ منّا, إنّما تكمنُ في جوهرِ الشّخصِ أوّلاً وفي “تكوينه الأسري والتّربويّ”, وفي عمق إخلاصه لنفسه وللآخرين.

ألا يذكّرنا هذا الشّخصُ وغيره بأشخاص كثيرين في مجتمعنا,ممَنْ يقولون عنهم أنّهم يركبون الموجة, موجة ثورات المجتمع والشّعب المختلفة, وموجة ثورات التّغيير والتطوّر المتباينة.فهم يظهرون أمام الآخرين بمظهر البؤسِ والمسكنةِ, يتذلّلون إلى هذا, ويتملّقون إلى ذاك, يقبّلون الأكفّ واليدين, والمبدأ الذي يتحكّم بهم هو ((الغاية تبرّرُ الوسيلة)), وحين يحسّون ببعض التّعاطفِ من الآخرين, وأنّهم قد حقّقوا شيئاً ملموساً يشعرون وكأنّ أجنحة ملائكيّة قد غرست في جسدهم فيحاولون الطّيران عالياً, عالياً, ويرغبون في القفز من فوق السّلم, متناسين أنّ عدسات كاميرا الواقع ثابتة, نافذة لا يستطيع أحدٌ محو صورها أو دبلجتها حسب هواه, وأنّ القفز من الدّرج الأوّل إلى الأخير دفعة واحدة سوف يسقطه أرضاً, ويكسر عظامه, ومتجاهلين أنّ بوصلة الحقيقة قد يصابها العطب فتضلّ الاتجاهات أحياناً, ولكنّها تظلّ تهدينا إلى الاتجاهات الصّحيحة والصّائبة.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

د. محمود عباس

حين يمرض الضوء، تبقى الذاكرة سنده.

قبل فترةٍ ليست بعيدة، استوقفني غياب الأخت الكاتبة نسرين تيلو عن المشهد الثقافي، وانقطاع حضورها عن صفحات التواصل الاجتماعي، تلك التي كانت تملؤها بنصوصها القصصية المشرقة، وبأسلوبها المرهف الذي حمل إلينا عبر العقود نبض المجتمع الكوردي بخصوصيته، والمجتمع السوري بعموميته. كانت قصصها مرآةً للناس العاديين، تنبض بالصدق والعاطفة،…

خالد حسو

 

ثمة روايات تُكتب لتُروى.

وثمة روايات تُكتب لتُفجّر العالم من الداخل.

ورواية «الأوسلاندر» لخالد إبراهيم ليست رواية، بل صرخة وجودٍ في منفى يتنكّر لسكّانه، وثيقة ألمٍ لجيلٍ طُرد من المعنى، وتشريحٌ لجسد الغربة حين يتحول إلى قَدَرٍ لا شفاء منه.

كلّ جملةٍ في هذا العمل تخرج من لحمٍ يحترق، ومن وعيٍ لم يعد يحتمل الصمت.

فهو لا…

صدرت الترجمة الفرنسية لسيرة إبراهيم محمود الفكرية” بروق تتقاسم رأسي ” عن دار ” آزادي ” في باريس حديثاً ” 2025 “، بترجمة الباحث والمترجم صبحي دقوري، وتحت عنوان :

Les éclaires se partagent ma tête: La Biography Intellectuelle

جاء الكتاب بترجمة دقيقة وغلاف أنيق، وفي ” 2012 ”

وقد صدر كتاب” بروق تتقاسم رأسي: سيرة فكرية” عن…

كردستان يوسف

هل يمكن أن يكون قلم المرأة حراً في التعبير؟ من روح هذا التساؤل الذي يبدو بسيطاً لكنه يعكس في جوهره معركة طويلة بين الصمت والكلمة، بين الخضوع والوعي، بين التاريخ الذكوري الذي كتب عنها، وتاريخها الذي تكتبه بنفسها الآن، فكل امرأة تمسك القلم تمسك معه ميراثاً ثقيلا ً من المنع والتأطير والرقابة، وكل حرف…