إبراهيم محمود
وهكذا وجدتني متلهفاً لقراءة الأميركية جين ساسون في كتابها الكردي، رغم مرور ست سنوات على ظهوره بالعربية.
ولا أدري من قرأه، أعني كتب عنه بما يستحق، ومن كتب عنه، بما يستأهل من قراءة، وهأنذا في قراءتي وكتابتي أحاول تقديم الكتاب لمن يهمه أمره، وكل مبتغاي هو السعي إلى الاطلاع عليه نظراً لأهميته، وتحديداً لأن الكاتبة أجنبية وتتحدث في موضوع لافت حتى الآن.
ولا أدري من قرأه، أعني كتب عنه بما يستحق، ومن كتب عنه، بما يستأهل من قراءة، وهأنذا في قراءتي وكتابتي أحاول تقديم الكتاب لمن يهمه أمره، وكل مبتغاي هو السعي إلى الاطلاع عليه نظراً لأهميته، وتحديداً لأن الكاتبة أجنبية وتتحدث في موضوع لافت حتى الآن.
وأعني بالكتاب( مغامرة حب في بلاد ممزقة، ترجمة: سعيد محمد الحسنية، شركة المطبوعات، بيروت، ط1/ 2008 .في 600 ص من القطع الوسط.).
إن تاريخ تأليف الكتاب كان سنة 2007، وربما تعني ترجمته السريعة اعترافاً بصيت مؤلفته، وخصوصاً حين نعلم أنها كتبت عن أميرات سعوديات ” حياة الأميرة سلطانة- 1992 “، وعن الكويت قبل ذلك ” اغتصاب الكويت- 1991 “، وعن اليهود” طفلة استر- 2007 “..الخ، وهذا ما يفصح عن رغبة جين في أن تقيم علاقات مع ألسنة واثنيات مختلفة، كما هو دأبها.
ماذا يُلاحَظ أولاً ؟
على الغلاف الخارجي، ومن الأعلى عبارة طويلة مكتوبة: القصة الحقيقية لجوانا، وهي امرأة من كردستان ومناضلة من أجل الحرية هربت من العراق . ومن الأسفل ” أسفل العنوان” من الكتب الأكثر مبيعاً حول العالم “، ودون ذكر اسم المترجم ، فهو على الغلاف من الداخل.
لعل ذلك إجراء دعائي- إعلاني، وما يترتب على ذلك بالبعد التجاري للكتاب- السلعة، وتأثير ذلك القارىء الذي يتعامل مع الصورة المتخيلة، والجانب السيميائي في المسطور.
وفي الداخل تُذكَر عبارة ” هربت من الانتقام العراقي، ص 5 “.
وما ينوَّه إليه، هو أن الكتاب سردية تاريخ حياة شخصية، وبأسلوب روائي تسجيلي، وسينمائي، لا يخفى ما للتحفة الهوليودية من تأثير في بنية الكتابة، وقد تعرفت على ” جوانا ” وأصغت إلى حياتها: نشأة” مواليد 1962 ” في بغداد، وعائلتها معروفة في تاريخها السياسي ” آل العسكري” حيث الأب عربي والأم كردية من السليمانية، لكن جوانا ومع أفراد عائلتها كانت ضد نظام صدام حسين والاستبداد، وعانت الكثير حتى تمكنت من الخروج من العراق، وقد شهدت العنف الدموي الصدامي ومن أسهم فيه” علي حسن المجيد: الكيمياوي “، وبلسان المؤلفة: كانت جوانا شديدة التعلق بالمناضلين الكرد” البيشمركة، وتزوجت من مناضل ” ص 14 ” .
وتفاصيل الحياة مذكورة وطريقتها باسم ” جوانا العسكري حسين . ص 15 “.
إن ما يؤكد هذا الجانب الاعتزازي بالكرد وبيشمركتهم هو الإهداء: إلى البيشمركة الشجاع في حياتي، شارباست ” زوجها ” وولدي، كوشا وديلان، إلى خالتي عائشة، إلى زوجات البشمركة الشجاعات ” جوانا حسين “.
” ثمة ملاحظة هنا، وهي أنها ورغم وجود الأب العربي، لم تنس كرديتها، لا بل يبرز فيما أفصحت عنه عبر المؤلفة مدى تعلقها بالكرد، تعبيراً عن إخلاص لهم، إذ ما أكثر من يتنكرون لكرديتهم، لا بل ويحاربون بها كردهم بالذات” في حال الجحوش ومن يرادفهم خارج الإقليم”، وعندما يكون الزوج كردياً، والولدان باسمين كرديين” ديلان: عرس، رقص، أما كوشا، وهو الولد الأول، فيعني بالكردية هناك: المناضل، ص 573″، والإهداء إليهم إلى جانب الخالة والبيشمركة وكلهم كرد، يظهر جانب الافتخار الصادق في ذلك .
ذلك يعني في الحال عدم إطلاق حكم مطلق على جماعة ما سلباً أو إيجاباً، من باب التفاعل.
إن عشرات الصور المنشورة في الكتاب تضفي عليه قيمة وثائقية وليس روائية فقط” ص: 419-420-421، حيث تكون جوانا مع زوجها ومع البيشمركة، وثمة لوحة تظهر جريمة صدام من خلال أنقاض قرية، ومن ثم ص:556-557-558، وقبلها، ص 92-93-94، وهي صور عائلية، كما لو أن هذه تقول للقارىء: إن ما تقرأه واقعة فعلية كما هي الصور المثبتة !
الكتاب في الحالة هذه يقرأ تاريخاً وأدباً ووثيقة، ومن خلال طريقة اليوميات وعناوين صغيرة معبرة، ومن البداية” فتاة ” البيشمركة ” الصغيرة “، ولاحقاً، وفي السطر الأول:
عشت فتاة كردية في البلاد التي تكره الأكراد . ص 29.
وأظنه الإيجاز والإنجاز والتعريف والتلطيف بالاسم والمكانة والجغرافيا معاً.
وتقول تالياً في الصفحة ذاتها( تعلق قلبي بالسليمانية، برغم أنني ولدت في بغداد، وكبرت فيها. بغداد هي مدينة والدي العربي، أما السليمانية فمسقط رأس والدتي الكردية.).
وما يجب أن يُلاحَظ هنا، هو أن العنوان” مغامرة حب في بلاد ممزقة “، وهي بلاد كردية، يشكل عنواناً فرعياً يؤرَّخ له في ” بغداد: 1977 “، حينها كان عمر جوانا 15 سنة، وقد تعلقت بشاب كردي يصبح زوجها لاحقاً: شارباست، وهو بيشمركي( بدأ شارباست يتحدث عن قطع دراسته الجامعية والذهاب إلى الجبال كي يحارب من أجل كردستان. ص 203 ) .
ربما كان المعنى لشارباست” سهل المدينة ” وجوانا ” الحياة ” ضمناً .
وثمة الجانب الاجتماعي والتربوي في التعامل مع الكرد” الأكراد، جرّاء تجييش الوعي الشعبوي القومي العروبي، كما في السخرية من جوانا وهي صغيرة من قبل آخرين” عصابة الأربعة من أولاد الحي” ( وتبادلوا الضحكات الممزوجة بالازدراء المقيت، وراحوا يسخرون مني، ويرددون: ” منزل الأكراد! منزل الأكراد! فتاة كردية ! ” . ص 38 ) .
وهذا يستوقفنا ويحفزنا على مكاشفة خاصية النظام الاستبدادي الاجتماعي والسياسي القائم .
وما يلفت النظر في سلوك جوانا على صعيد التعبير عن ذات مقاومة، هو أنها وأمها كانتا ترتديان الثياب الكردية على الدوام” ص 50 “.
وهو الإجراء الذي يفصح عن علاقة تضاد مع القائم وتشبث بما هو أبعد من الرمز: اللباس.
تصرف آخر يبرز في هذا السياق، لحظة تودد أم جوانا من طفلين عربيين، وتقديم حلوى لهما
واستهجان والديهما لذلك” كأن قطع الحلوى هذه مسببة..” ورفضها، ومن ثم ( صُدمت لجلافة تصرف هذين الوالدين بالرغم من أنني كنت كبيرة بما يكفي كي أفهم حقيقة من حقائق الحياة: معظم العراقيين العرب يكرهون الأكراد . ص 51 ) .
أترانا إزاء رهاب الكردي ” الكرد فوبيا ” والمستهدف منها على أعلى مستوى ؟
إنه الرعب العراقي قوموي عروبي بنسخته الصدامية، حيث الشك في كل شيء، وحظر استعمال أي أداة لنقل شيء( وفرضت الحكومة قوانين جديدة شديدة القسوة، من بينها: يُشنق الكردي الذي يقبض عليه وهو يحمل منظاراً. ويقبض على الكردي ويحاكم إذا امتلك آلة كاتبة من دون إذن خاص. ص 53 ) .
هذا العنف الدموي وكيفية تأليب العرب على الكرد قديم، منذ ما قبل ظهور صدام الطاغية، إذ كان يسهل حرق الكرد أحياء وتدمير قراهم، كما كان الحال مع عبدالكريم قاسم ” ص 91 “.
لكن العنف الذي تعرض له الكرد في العراق يعيدنا إلى تاريخ سابق أيضاً، إلى الربع الأول من القرن العشرين، وفي سنة 1918، حيث الحديث عن البريطاني اللدود والمشدد على الكرد ونستون تشرشل والذي ( صنَّف الأكراد باعتبارهم” قبائل بدائية” وكانت تلك هي المرة الأولى التي يتعرض فيها شعبنا لمجزرة عن طريق استخدام الأسلحة الكيميائية. ص 106 ) .
وحالة الشبهة تسهّل عملية قتل الكردي( قُتل الكثيرون من الأكراد نتيجة لإظهار دعمهم، بكل بساطة، للزعماء الأكراد. ص 121) .
طبعاً، أهلها جميعاً عانوا المرارة وهم تحت المراقبة وفي السجن، إلى جانب أمور أخرى، مثل من يتم اعتقاله لأنه ( يستمع إلى إذاعة باللغة الكردية.ص152 ) .
وفي الحرب العراقية الإيرانية كان هناك الوضع العصيب للعراقيين عموماً، لكن الوضع الكردي أصعب بكثير لأسباب تعنيهم أمنياً طبعاً ” ص 208 ” .
وفي هذا الوضع بالذات، إلى جانب الرصد الاستخباراتي الأمني للكردي، يظهر من هو من بني جلدته مهدداً إياه وله ” الجحش” أو الجحوش( إنهم التافهون من الأكراد، الذين يتسببون في اعتقال العديد من مقاتلينا ومقتلهم، بالإضافة إلى المتعاطفين معنا. ص 244 )، كما جاء في يومية لشارباست وهي مرسلة إلى جوانا .
وكردستان كانت ساحاً لحروب واضطراب ومذابح وبشكل لافت، بدءاً من سبعينيات القرن الماضي” ص 320 ” .
يضاف إلى ذلك، موقع الكرد في الاعتبارات الدولية، وهو بائس( وهل يعرف العالم أن العرب يُجلبون ليعيشوا في منازلنا، وليستولوا على ممتلكاتنا ؟
هل يكترث العالم إذا ما عرف هذه الحقائق ؟
يبدو أن الأكراد ينزفون من آلاف الجراح، ولا يعرف أحد، برغم ذلك، بمعاناتنا. ص 379 ).
طبعاً، لم يكن العنف الخارجي أو القصف الكيمياوي أو الدمار كافياً، بقدر ما كان هناك العنف الرهيب، وهو المتمثل في ” اغتصاب النساء الكرديات”( أطلقت حكومة صدام منصباً” رسمياً ” شنيعاً، هو ” المنصب الحكومي”، الذي يتبع لإدارة السجون العراقية. تنحصر واجبات شاغل هذا المنصب باغتصاب الزوجات الكرديات على مرأى من أزواجهن، أو البنات على مرأى من آبائهن. ص 438 ) .
وهذه لا تمثل إهانة عادية، إنما ومن منظور التحليل النفسي والثقافي استناداً إلى تاريخ قائم ومتفعل، وهو أن الاغتصاب الجسدي يضاهي اغتصاب جغرافيا كاملة، وأن الجمع بينهما يعني مدى تفهم المغتصِب لشعور الآخر، وكيفية التمكن منه، عبر مفهوم الشرف العُرفي وغيره.
في ضوء ذلك، يكون الهرب من القصف العنيف، والبحث عن ملاذ آمن عملية شاقة جداً، إذ حدود البيشمركة لأعداء الكرد بالمقابل، كما في هجرات الكرد المستمرة مع توالي عمليات الملاحقة والقصف المركز والمذابح الجماعية” الفقرة 23، بدءاً من ص529″، لكن الصيغة التالية في بيت يلخص الحدث يضفي على المأسوية بعداً نضالياً يتمثل في سعي الكردي إلى البقاء( بدأت بطون الكرديات في تعويض الخسائر البشرية التي أصبنا بها. ص 574 ).
ثم لتصبح جوانا مع عائلتها في لندن” خاتمة: الحرية! ص 574″، وهي الفقرة اللافتة بعنوانها ودلالتها طبعاً
لتكون الكلمات التالية للمؤلفة” أين هم الآن ؟ ص 585 “.
إن السرد المكثف لمجريات الأحداث، وما آل إليه أمر العراقيين والكرد ضمناً، وإثر إعدام صدام حسين، آل بالمؤلفة ربما إلى أن تكتب عبارتها الأخيرة ( سيبقى الأمل في القلوب الكردية. ص 587 ).
وهي عبارة تحفز على النظر في الجاري هنا وهناك، وما يعنيه الأمل واقعاً ومضموناً .
ليكون في الكتاب ثبْت تاريخي بأحداث عراقية وكردية، وبغية الاستفادة منه لحظة التمعن في الكتاب وبنيته تأليفاً وتشابك أحداث ومسرى جمالياً .
يبقى هناك أكثر من سؤال:
ماذا يعني العنوان : مغامرة حب في بلاد ممزقة ؟ أتراه يعني أن في وسع الحب أن يشكل دواء ما لداء تاريخي مستفحل في مواجهة أكثر من طاغية ؟ أم ترى الحب القائم يترجم تنوع العلاقات الاجتماعية؟ وكيف أن في مقدور الحب أن يصل ما بين قلب وقلب، بغض النظر عن اللسان : اللغة، وأن المستتر يصعد إلى السطح ليعلمنا: ربما صاحب لسان آذى قوى أكثر من غريب لسان، والكتاب يبثنا صوتاً على الشاكلة هذه ؟
أم أن الكتاب ينوّع في بنية الموقف: الاجتماعي والسياسي والتاريخي والفكري، ويدشن لعلاقة أخرى مع العالم الخارجي، عبر ما استمدته المؤلفة من جوانا ما شكل مدماكها الثقافي ؟
أم أن الكتاب يعدنا بالأمل، ولكنه يشدد على ضرورة البقاء في حالة حيطة وحذر، لأن الطاغية الذي أعدِم ترك طغاة وطغاة، بالنسبة للكرد أنفسهم، كما هو الوضع الراهن ؟
أم أن الكتاب يجعل من الحب نفسه مغامرة تحتمل البعدين: المفرح والمحزن ؟
الكتاب متروك لأكثر من قراءة إذاً !
م: رغم قدَم الكتاب النسبي، كما نوهت، إلا أنني عثرت عليه في مكتبة المركز البحثي الذي أعمل فيه، ولم أجد مناصاً من تقديمه بالطريقة السالفة، إذ غلبت المقبوسات ما كان ينبغي التوقف عنده ومقاربته نقدياً، وربما هو اعتقاد ما مني، على أن ثمة كتاباً كثيراً ما يترجم نفسه بنفسه، ويعرّف بنفسه، ويشرح نفسه، لتكون قراءته أمتع.. فكان ما كان .
ماذا يُلاحَظ أولاً ؟
على الغلاف الخارجي، ومن الأعلى عبارة طويلة مكتوبة: القصة الحقيقية لجوانا، وهي امرأة من كردستان ومناضلة من أجل الحرية هربت من العراق . ومن الأسفل ” أسفل العنوان” من الكتب الأكثر مبيعاً حول العالم “، ودون ذكر اسم المترجم ، فهو على الغلاف من الداخل.
لعل ذلك إجراء دعائي- إعلاني، وما يترتب على ذلك بالبعد التجاري للكتاب- السلعة، وتأثير ذلك القارىء الذي يتعامل مع الصورة المتخيلة، والجانب السيميائي في المسطور.
وفي الداخل تُذكَر عبارة ” هربت من الانتقام العراقي، ص 5 “.
وما ينوَّه إليه، هو أن الكتاب سردية تاريخ حياة شخصية، وبأسلوب روائي تسجيلي، وسينمائي، لا يخفى ما للتحفة الهوليودية من تأثير في بنية الكتابة، وقد تعرفت على ” جوانا ” وأصغت إلى حياتها: نشأة” مواليد 1962 ” في بغداد، وعائلتها معروفة في تاريخها السياسي ” آل العسكري” حيث الأب عربي والأم كردية من السليمانية، لكن جوانا ومع أفراد عائلتها كانت ضد نظام صدام حسين والاستبداد، وعانت الكثير حتى تمكنت من الخروج من العراق، وقد شهدت العنف الدموي الصدامي ومن أسهم فيه” علي حسن المجيد: الكيمياوي “، وبلسان المؤلفة: كانت جوانا شديدة التعلق بالمناضلين الكرد” البيشمركة، وتزوجت من مناضل ” ص 14 ” .
وتفاصيل الحياة مذكورة وطريقتها باسم ” جوانا العسكري حسين . ص 15 “.
إن ما يؤكد هذا الجانب الاعتزازي بالكرد وبيشمركتهم هو الإهداء: إلى البيشمركة الشجاع في حياتي، شارباست ” زوجها ” وولدي، كوشا وديلان، إلى خالتي عائشة، إلى زوجات البشمركة الشجاعات ” جوانا حسين “.
” ثمة ملاحظة هنا، وهي أنها ورغم وجود الأب العربي، لم تنس كرديتها، لا بل يبرز فيما أفصحت عنه عبر المؤلفة مدى تعلقها بالكرد، تعبيراً عن إخلاص لهم، إذ ما أكثر من يتنكرون لكرديتهم، لا بل ويحاربون بها كردهم بالذات” في حال الجحوش ومن يرادفهم خارج الإقليم”، وعندما يكون الزوج كردياً، والولدان باسمين كرديين” ديلان: عرس، رقص، أما كوشا، وهو الولد الأول، فيعني بالكردية هناك: المناضل، ص 573″، والإهداء إليهم إلى جانب الخالة والبيشمركة وكلهم كرد، يظهر جانب الافتخار الصادق في ذلك .
ذلك يعني في الحال عدم إطلاق حكم مطلق على جماعة ما سلباً أو إيجاباً، من باب التفاعل.
إن عشرات الصور المنشورة في الكتاب تضفي عليه قيمة وثائقية وليس روائية فقط” ص: 419-420-421، حيث تكون جوانا مع زوجها ومع البيشمركة، وثمة لوحة تظهر جريمة صدام من خلال أنقاض قرية، ومن ثم ص:556-557-558، وقبلها، ص 92-93-94، وهي صور عائلية، كما لو أن هذه تقول للقارىء: إن ما تقرأه واقعة فعلية كما هي الصور المثبتة !
الكتاب في الحالة هذه يقرأ تاريخاً وأدباً ووثيقة، ومن خلال طريقة اليوميات وعناوين صغيرة معبرة، ومن البداية” فتاة ” البيشمركة ” الصغيرة “، ولاحقاً، وفي السطر الأول:
عشت فتاة كردية في البلاد التي تكره الأكراد . ص 29.
وأظنه الإيجاز والإنجاز والتعريف والتلطيف بالاسم والمكانة والجغرافيا معاً.
وتقول تالياً في الصفحة ذاتها( تعلق قلبي بالسليمانية، برغم أنني ولدت في بغداد، وكبرت فيها. بغداد هي مدينة والدي العربي، أما السليمانية فمسقط رأس والدتي الكردية.).
وما يجب أن يُلاحَظ هنا، هو أن العنوان” مغامرة حب في بلاد ممزقة “، وهي بلاد كردية، يشكل عنواناً فرعياً يؤرَّخ له في ” بغداد: 1977 “، حينها كان عمر جوانا 15 سنة، وقد تعلقت بشاب كردي يصبح زوجها لاحقاً: شارباست، وهو بيشمركي( بدأ شارباست يتحدث عن قطع دراسته الجامعية والذهاب إلى الجبال كي يحارب من أجل كردستان. ص 203 ) .
ربما كان المعنى لشارباست” سهل المدينة ” وجوانا ” الحياة ” ضمناً .
وثمة الجانب الاجتماعي والتربوي في التعامل مع الكرد” الأكراد، جرّاء تجييش الوعي الشعبوي القومي العروبي، كما في السخرية من جوانا وهي صغيرة من قبل آخرين” عصابة الأربعة من أولاد الحي” ( وتبادلوا الضحكات الممزوجة بالازدراء المقيت، وراحوا يسخرون مني، ويرددون: ” منزل الأكراد! منزل الأكراد! فتاة كردية ! ” . ص 38 ) .
وهذا يستوقفنا ويحفزنا على مكاشفة خاصية النظام الاستبدادي الاجتماعي والسياسي القائم .
وما يلفت النظر في سلوك جوانا على صعيد التعبير عن ذات مقاومة، هو أنها وأمها كانتا ترتديان الثياب الكردية على الدوام” ص 50 “.
وهو الإجراء الذي يفصح عن علاقة تضاد مع القائم وتشبث بما هو أبعد من الرمز: اللباس.
تصرف آخر يبرز في هذا السياق، لحظة تودد أم جوانا من طفلين عربيين، وتقديم حلوى لهما
واستهجان والديهما لذلك” كأن قطع الحلوى هذه مسببة..” ورفضها، ومن ثم ( صُدمت لجلافة تصرف هذين الوالدين بالرغم من أنني كنت كبيرة بما يكفي كي أفهم حقيقة من حقائق الحياة: معظم العراقيين العرب يكرهون الأكراد . ص 51 ) .
أترانا إزاء رهاب الكردي ” الكرد فوبيا ” والمستهدف منها على أعلى مستوى ؟
إنه الرعب العراقي قوموي عروبي بنسخته الصدامية، حيث الشك في كل شيء، وحظر استعمال أي أداة لنقل شيء( وفرضت الحكومة قوانين جديدة شديدة القسوة، من بينها: يُشنق الكردي الذي يقبض عليه وهو يحمل منظاراً. ويقبض على الكردي ويحاكم إذا امتلك آلة كاتبة من دون إذن خاص. ص 53 ) .
هذا العنف الدموي وكيفية تأليب العرب على الكرد قديم، منذ ما قبل ظهور صدام الطاغية، إذ كان يسهل حرق الكرد أحياء وتدمير قراهم، كما كان الحال مع عبدالكريم قاسم ” ص 91 “.
لكن العنف الذي تعرض له الكرد في العراق يعيدنا إلى تاريخ سابق أيضاً، إلى الربع الأول من القرن العشرين، وفي سنة 1918، حيث الحديث عن البريطاني اللدود والمشدد على الكرد ونستون تشرشل والذي ( صنَّف الأكراد باعتبارهم” قبائل بدائية” وكانت تلك هي المرة الأولى التي يتعرض فيها شعبنا لمجزرة عن طريق استخدام الأسلحة الكيميائية. ص 106 ) .
وحالة الشبهة تسهّل عملية قتل الكردي( قُتل الكثيرون من الأكراد نتيجة لإظهار دعمهم، بكل بساطة، للزعماء الأكراد. ص 121) .
طبعاً، أهلها جميعاً عانوا المرارة وهم تحت المراقبة وفي السجن، إلى جانب أمور أخرى، مثل من يتم اعتقاله لأنه ( يستمع إلى إذاعة باللغة الكردية.ص152 ) .
وفي الحرب العراقية الإيرانية كان هناك الوضع العصيب للعراقيين عموماً، لكن الوضع الكردي أصعب بكثير لأسباب تعنيهم أمنياً طبعاً ” ص 208 ” .
وفي هذا الوضع بالذات، إلى جانب الرصد الاستخباراتي الأمني للكردي، يظهر من هو من بني جلدته مهدداً إياه وله ” الجحش” أو الجحوش( إنهم التافهون من الأكراد، الذين يتسببون في اعتقال العديد من مقاتلينا ومقتلهم، بالإضافة إلى المتعاطفين معنا. ص 244 )، كما جاء في يومية لشارباست وهي مرسلة إلى جوانا .
وكردستان كانت ساحاً لحروب واضطراب ومذابح وبشكل لافت، بدءاً من سبعينيات القرن الماضي” ص 320 ” .
يضاف إلى ذلك، موقع الكرد في الاعتبارات الدولية، وهو بائس( وهل يعرف العالم أن العرب يُجلبون ليعيشوا في منازلنا، وليستولوا على ممتلكاتنا ؟
هل يكترث العالم إذا ما عرف هذه الحقائق ؟
يبدو أن الأكراد ينزفون من آلاف الجراح، ولا يعرف أحد، برغم ذلك، بمعاناتنا. ص 379 ).
طبعاً، لم يكن العنف الخارجي أو القصف الكيمياوي أو الدمار كافياً، بقدر ما كان هناك العنف الرهيب، وهو المتمثل في ” اغتصاب النساء الكرديات”( أطلقت حكومة صدام منصباً” رسمياً ” شنيعاً، هو ” المنصب الحكومي”، الذي يتبع لإدارة السجون العراقية. تنحصر واجبات شاغل هذا المنصب باغتصاب الزوجات الكرديات على مرأى من أزواجهن، أو البنات على مرأى من آبائهن. ص 438 ) .
وهذه لا تمثل إهانة عادية، إنما ومن منظور التحليل النفسي والثقافي استناداً إلى تاريخ قائم ومتفعل، وهو أن الاغتصاب الجسدي يضاهي اغتصاب جغرافيا كاملة، وأن الجمع بينهما يعني مدى تفهم المغتصِب لشعور الآخر، وكيفية التمكن منه، عبر مفهوم الشرف العُرفي وغيره.
في ضوء ذلك، يكون الهرب من القصف العنيف، والبحث عن ملاذ آمن عملية شاقة جداً، إذ حدود البيشمركة لأعداء الكرد بالمقابل، كما في هجرات الكرد المستمرة مع توالي عمليات الملاحقة والقصف المركز والمذابح الجماعية” الفقرة 23، بدءاً من ص529″، لكن الصيغة التالية في بيت يلخص الحدث يضفي على المأسوية بعداً نضالياً يتمثل في سعي الكردي إلى البقاء( بدأت بطون الكرديات في تعويض الخسائر البشرية التي أصبنا بها. ص 574 ).
ثم لتصبح جوانا مع عائلتها في لندن” خاتمة: الحرية! ص 574″، وهي الفقرة اللافتة بعنوانها ودلالتها طبعاً
لتكون الكلمات التالية للمؤلفة” أين هم الآن ؟ ص 585 “.
إن السرد المكثف لمجريات الأحداث، وما آل إليه أمر العراقيين والكرد ضمناً، وإثر إعدام صدام حسين، آل بالمؤلفة ربما إلى أن تكتب عبارتها الأخيرة ( سيبقى الأمل في القلوب الكردية. ص 587 ).
وهي عبارة تحفز على النظر في الجاري هنا وهناك، وما يعنيه الأمل واقعاً ومضموناً .
ليكون في الكتاب ثبْت تاريخي بأحداث عراقية وكردية، وبغية الاستفادة منه لحظة التمعن في الكتاب وبنيته تأليفاً وتشابك أحداث ومسرى جمالياً .
يبقى هناك أكثر من سؤال:
ماذا يعني العنوان : مغامرة حب في بلاد ممزقة ؟ أتراه يعني أن في وسع الحب أن يشكل دواء ما لداء تاريخي مستفحل في مواجهة أكثر من طاغية ؟ أم ترى الحب القائم يترجم تنوع العلاقات الاجتماعية؟ وكيف أن في مقدور الحب أن يصل ما بين قلب وقلب، بغض النظر عن اللسان : اللغة، وأن المستتر يصعد إلى السطح ليعلمنا: ربما صاحب لسان آذى قوى أكثر من غريب لسان، والكتاب يبثنا صوتاً على الشاكلة هذه ؟
أم أن الكتاب ينوّع في بنية الموقف: الاجتماعي والسياسي والتاريخي والفكري، ويدشن لعلاقة أخرى مع العالم الخارجي، عبر ما استمدته المؤلفة من جوانا ما شكل مدماكها الثقافي ؟
أم أن الكتاب يعدنا بالأمل، ولكنه يشدد على ضرورة البقاء في حالة حيطة وحذر، لأن الطاغية الذي أعدِم ترك طغاة وطغاة، بالنسبة للكرد أنفسهم، كما هو الوضع الراهن ؟
أم أن الكتاب يجعل من الحب نفسه مغامرة تحتمل البعدين: المفرح والمحزن ؟
الكتاب متروك لأكثر من قراءة إذاً !
م: رغم قدَم الكتاب النسبي، كما نوهت، إلا أنني عثرت عليه في مكتبة المركز البحثي الذي أعمل فيه، ولم أجد مناصاً من تقديمه بالطريقة السالفة، إذ غلبت المقبوسات ما كان ينبغي التوقف عنده ومقاربته نقدياً، وربما هو اعتقاد ما مني، على أن ثمة كتاباً كثيراً ما يترجم نفسه بنفسه، ويعرّف بنفسه، ويشرح نفسه، لتكون قراءته أمتع.. فكان ما كان .
دهوك