سرمديّةُ الوحداتِ الثّلاث

جوان فرسو

الهَواءُ..
لُهاثُ الذّاتِ حَوْلَ مَوْعِدٍ غَيْرِ مُنْتَظَرٍ…
والمَسافةُ الفاصِلةُ بَيْنَ الوَجَعِ والآهِ..
وسَحابَةُ رَغْبَةٍ لاعْتِناقِ المَساءِ،حَيْثُما يَجِدُ الزَّوْرَقُ..
مَساحَةَ طَيْفٍ، ليعبُرَ شَوْقُهُ في فَضاءِ المُحيطِ!..

الهَواءُ..
حَنينُ اللهِ لأَخْذِ مَنْ يُحِبُّ.. وأَخْذُ اللهِ لِحنينِ مَنْ تُحِبُّ..
وهَذَيانُ السَّماءِ.. لعُريِ الفَضاءِ.. والْتِماسُ اللَّهْفَةِ، للمُضيِّ الأَخيرِ نَحْوَ
الهاويةِ! والحَشْرُ الثَّاني.. للمُعْتَنقينَ جداريَّةَ الوَسَطِ بينَ الأنينِ والانتحارِ..

الانتحارُ..
أيُّها الفارضُ شَبَحَهُ، والجارحُ ظِلُّهُ.. لَحْظَةَ انتكاسَةِ الفِكْرِ.

أيُّها الهَواءُ الرَّحْبُ..
لَيْسَ في الأَديمِ مُفْتَرَقٌ للوداعِ.. ولَيْسَ للوَداعِ مَسافةٌ للجُرْحِ..
ولَيْسَ للجُرْحِ نِيّةُ الاندمالِ..
فاعبُرْ لنا- كَمْ لنا مِنْ سُباتٍ للعُبورِ – قَدَرَنا الَّذي غادَرَ وَلَمْ يَسْتَأْذِنْ
بالحَنينِ.. ولم يُنبئ طُفُولَتَنا، بِأَنَّهُ لَنْ يَغيبَ طَويلاً.. فانْتَظَرْناه.. ضَواحي
القَرْيَةِ، نَبْحَثُ عَنْ إيابِهِ بِسَرَاويلنا المُغْبَرَّةِ.. وقُمْصانِنا المُمَزَّقَةِ..
وأرجُلُنا.. تَبوحُ بِخَرَائِطَ للأَوْطانِ المَنْسِيَّةِ!.. في أَسْفَلِها الغُبارُ، وبَيْنَ ثنايا
تَصَدُّعاتِها الأَلَمُ.. ولَمْ يَعُدْ غَيْرُ الهواءِ..
ولمْ نَنْتَظِرْ غَيْرَ الهَواءِ…
لعلَّ الَّذي.. يَعْبُرُ أَفْئِدَةَ الصَّباحِ، لا يأخُذُهُمْ مَعَكَ إلى الماضي…
يا هَواءُ..

سَلِسٌ.. كالوَتَرِ، مُنْسابٌ كالأَثيرِ.. مائِلٌ كالمَساءِ..
تَتَخَبَّطُ في تلويحِهِ..أنَّاتُ ضحايا الغُرَفِ المَسْكُوْنَةِ بالعِشْقِ،
فَوْقَ صُدُورِهنَّ المَلْساءِ..
إنَّهُ الماءُ..

سِرُّ الأَرْضِ الحُبْلى بإغواءِ الجاذبيَّةِ.. ولَوْعَةُ المَجْرى، لبُعادِ الأمِّ الحَنُونِ..
ذلكَ هُوَ النَّهْرُ.

حَنانُ الأُمِّ.. تَخْمدُ حَيْثُ يَنْهَمِكُ الصِّغارُ بالْتِحافِ نَهْدَيْها..
ذلكَ هُوَ المُحيْطُ..

إنَّهُ الماءُ..
ثَغْرُ الإِلهِ القادِمِ نَحْوَ ذاتِهِ..
فَراشَةُ البانِ الغارِقَةِ في هَشيمِ الشَّفَتينِ!
حيٌّ كالصَّباحِ..

لَوْنُهُ..
نُعاسُ العَدَمِ وصَوْتُ الهُدُوءِ بِما يُجاري الصَّمْتَ.. حِيْنَما تَغْفُو القُلُوبُ
فَوْقَ أَسِرَّةِ نِصْفِها الآخَرِ..

مَذاقُهُ الزُّهْدُ..
حِيْنَما يَنْحَصِرُ شِراعُ الرَّغْبَةِ فِيْهِ، فَيَتْلو مِن انصهارِ اللِّذَّةِ..
فِيْ حَليبِ الشَّفَتَينِ، سَرْداً.. لاحتكامِ الأَساطيرِ في ذَوَبانِها اللاّ مُتَناهي،
إلى عَبْقَريَّةِ التَّاريخِ.. ويَحلمُ بنا.. حِيْنَما نَفْتَحُ شَبابيكَ هَواجسنا..
علَّهُ.. يسندُ انسيابيَّةَ المَلْمَسِ في رئَتَيْهِ، وظَهْرَهُ للشَّمْسِ
في خاصرةِ الشَّلاّلِ..

شَذاهُ..
يا شَذا الماءِ يا شَذا الماءِ.. لَيْتَ العَثَراتِ في أَحْلامِنا، تُسَلِّمُ الماءَ للرِّيْحِ..
علَّ شَيْئاً مِنْكَ، يُغادِرُ أَفْئِدَةَ الغيابِ.. ليُعْلِنَ أنَّ للحُبِّ – للَحْظَةٍ واحِدَةٍ –
بَقيَّةُ رُوحٍ…

التُّرابُ..
ضُمَّني إليكَ..
كلَّما أَمُرُّ باسْمِكَ،
وأتذكَّرُ المُلْتَحفينَ ثَناياكَ..
فإنْ لَمْ أَتَذَكَّر،
ضُمَّهُمْ إليَّ..

أيُّها البِساطُ المَنْثُورُ، فَوْقَ وَجْهِ الثَّباتِ.. يُضْحِكُنا تَثاقُلُ جَسَدِكَ المُغْمى
عَلَيْهِ لازْدحامِ الأَحْياءِ والمَوْتى.. بَيْنَ جَبْهَتَي ناظِرَيْكَ.. وعُيونُنا.. مَلأى
بالرَّبيعِ..

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

دريس سالم

 

«إلى تلك المرأة،

التي تُلقّبُني بربيع القلب..

إلى الذين رحلوا عني

كيف تمكّنْتُ أنا أيضاً على الهروب

لا أريدُ سوى أن أرحلَ من نفسي…».

يفتتح الشاعر الكوردي، ميران أحمد، كتابه «طابق عُلويّ»، بإهداء مليء بالحميمية، ملطّخ بالفَقد، يفتتحه من قلب الفَقد، لا من عتبة الحبّ، يخاطب فيه امرأة منحته الحبّ والحياة، لقّبته «ربيع القلب». لكن ما يُروى ليس نشوة…

علي شمدين

المقدمة:

لقد تعرفت على الكاتب حليم يوسف أول مرّة في أواخر التسعينات من القرن المنصرم، وذلك خلال مشاركته في الندوات الثقافية الشهرية التي كنا نقيمها في الإعلام المركزي للحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا، داخل قبو أرضي بحي الآشورية بمدينة القامشلي باسم ندوة (المثقف التقدمي)، والتي كانت تحضره نخبة من مثقفي الجزيرة وكتابها ومن مختلف…

تنكزار ماريني

 

فرانز كافكا، أحد أكثر الكتّاب تأثيرًا في القرن العشرين، وُلِد في 3 يوليو 1883 في براغ وتوفي في 3 يونيو 1924. يُعرف بقصصه السريالية وغالبًا ما تكون كئيبة، التي تسلط الضوء على موضوعات مركزية مثل الاغتراب والهوية وعبثية الوجود. ومن المميز في أعمال كافكا، النظرة المعقدة والمتعددة الأوجه للعلاقات بين الرجال والنساء.

ظروف كافكا الشخصية…

إبراهيم اليوسف

مجموعة “طائر في الجهة الأخرى” للشاعرة فاتن حمودي، الصادرة عن “رياض الريس للكتب والنشر، بيروت”، في طبعتها الأولى، أبريل 2025، في 150 صفحة، ليست مجرّد نصوص شعرية، بل خريطة اضطراب لغويّ تُشكّل الذات من شظايا الغياب. التجربة لدى الشاعرة لا تُقدَّم ضمن صور متماسكة، بل تُقطّع في بنية كولاجية، يُعاد ترتيبها عبر مجازٍ يشبه…