إبراهيم اليوسف
كشفت التبدلات الهائلة التي جرت على نطاق واسع، من حولنا، خلال الشريط الزمني للسنوات الأخيرة الماضية، وباتت تعيد ترتيب طبوغرافيات رؤيوية كثيرة، في مقدمها ماهوثقافي، عن حقيقة نمط من المثقفين، استطاعوا إلى فترات طويلة، أن يقدموا أنفسهم في صور، حرباوية، متحولة، حسب الطلب، للحفاظ على جملة من المكاسب، من بينها ماهو معنوي، اجتماعي، على اعتبار أن لرمزية المثقف مكانتها ودورها في حيوات الأمم والشعوب، من دون أن يتخلوا عن التقنّع بالصورة الأنموذجية للمثقف، وهي التي لايمكن أن تتحقق، فعلياً، من دون دفع ثمنها، من قبله، ممارسة ومعاناة، ومجاهدة، وسيرة، وحفراً، ومواجهة، وتبنياً للخطاب المعني بمن يتوجه إليهم، في وجه أية سطوة يعانون منها، الأمر الذي يتأسس على الغيرية، ونكران الذات، بل والتضحية.
وفي موازاة، بيانية، مع حضور المثقف الطليعي، بالمعنى الغرامشي، الكلاسيكي، الذي يستمر في ديمومته اصطلاحاً وواقعاً، يظهر المثقف النقيض له، وهو قد يمتلك شروط المثقف، أو يفتقر إليها، بيد أنه يستهوي تقديم ذاته بما هو ليس عليه، وذلك من خلال معرفته في قرارته باستحواذ المثقف العضوي احترام من حوله، باعتباره، فاعلاً، مؤثراً، وأن دوره لا يقل، إن لم يزد عن دور ذلك الثوري الميداني، أو الجندي المرابض الذي يدافع عن ترابه، وهما مرتبتان جد مهمتين، لهما غواياتها، لاسيما في هاتيك المجتمعات التي تتمع بتحليها، وامتلاكها، للمزيد من أواصر القيم الأخلاقية التي تعد-في جوهرها- من أعظم الوشائج و والمتاريس والحصون التي تحافظ على خصوصية المكان، وكائنه، في آن، في مواجهات رياح المحو الهوجاء، العاتية، ومنها ما هو مستقدم، من خارج حدودها، و هو الذي يتم التحسب له، ومنها ما هو موجود ضمن إطار هذه الحدود، بسبب اختلال العلاقات الذي يظهر في أبشع صوره، تحت ظلال الاستبداد.
ثمة أدوات كثيرة، يستعين بها المثقف الزائف، وهنا نحن في حالة تشريح لمن يمتلك مؤهلاته الثقافية، والتي تسلس بتوافر عاملين، هما: المقدرة على الكتابة، وتوافر وسيلة النشر، حيث يجد نفسه في دوامة مستمرة، سببها، حرصه على تقديم الذات، بما هي ليست عليه، وإسناد أدوار لم تقم بها إلى نفسها، كي تبدو في صورة”المخلِّص” بتشديد اللام المكسورة، وهي مهمة غير موفقة، لاسيما من قبل من يمتلك روح المتابعة الحقيقية لدورة الحياة، لأن من يؤدي مثل هذه الوظيفة مطالب بأن يتخذ موقفه النقدي من رؤوس الاستبداد، من دون مهادنة، ولا محاباة، وأن ثمة ضريبة تترتب على هذا الموقف، ينوس بين الحرب على اللقمة، والحرب على ديمومته، إذ دأبت المؤسسة التقليدية على إقلاق هذا الأنموذج، عبر زجه في ما يشغله، باستمرار، لينصرف عنها، ما يجعله مهدداً في وظيفته، وفي بيته، وفي وطنه، وبين أهله، إلى أن يقبل بأحد خياري: الصمت أو الهجرة، حيث أن هجرة الآلاف من أصحاب الأدمغة، في العقود الماضية، لم تأت اعتباطاً، أو ترفاًـ وإنما نتيجة لمثل هذا السلوك الممارس واقعياً، أو رمزياً. هذه التضحيات التي يمكن تلمسها، في سيرة كل من كان مستهدفاً من أجل كلمته، وموقفه، وهي ما لا يمكن للمثقف الزائف أن يحققها، لذلك فإن متابعة سلوكياته تبين أنه يعمل على وتائر مختلفة، منها الحرص على مكاسبه الشخصية، وفي مطلعها ألا يمس من قبل أدوات الاستبداد، وأن يجسر نحو المغلوب على أمورهم، والتمويه على أنه قريب منهم، الأمر الذي لا يتحقق البتة ما لم يصدر خطاباً صريحاً يتمحور في الانتصار لهم، حيث أن الحدود الدنيا لهذا الانتصار تتجلى في نقد أوجه معاناتهم، وتشريح أسبابها، وتبيان سبل الخلاص منها، ورسم آفاق مستقبل يتأسس على العدالة والمساواة.
طرفا هذا الدور في معادلة المثقف الزائف لا يمكن أن يتحققا، ضمن الأجواء الطبيعية، وتوافر الرؤيا السليمة، لذلك فإن بعض النماذج المنتمية إلى هذا المصطلح، يتحرك في ظل حالات الفوضى، والحرب، والتخلف، من خلال النهل من مخيال وبائي، مريض، متخلف، عماده النميمة، والاستعداء على الآخر، بل وتشويه من يراهم في مقدمة الميدان الثقافي، حيث يرى في حضور هؤلاء إعداماً لشخصيته، لذلك فهو لا يفتأ العمل على مستويات عديدة لطمس ملامحهم، بما يتضمن تقديم خطابه، على أنه الممتلك لوصفة خلاص الآخرين، باعتباره الأقرب إليه، وهو ما يدفع من ابتلي بأخطر أنواع هذه الحالة الوبائية لممارسة إعدام المتميزين عليه، واعتبارهم أعداء فعليين له، من دون أن يوفر الاستعداء عليهم، من قبل أشكال المؤسسة المهيمنة، للعب دور المخبر المنبوذ.
ويصل حال هذا الأنموذج إلى الدرك الأسفل من قبل ذلك الموهوم بالثقافة الذي يصاب بمثل هذه الآفة، ليتحول إلى مجرد بؤرة عدوانية، تشكل في حقيقتها، خطراً على الحياة العامة، ولابد من تشخيصها، والعمل على استطبابها، والدعوة إلى الحذر منها، مادام أن الانفتاح الإعلامي الذي وفرته شبكة الاتصالات باتت تمنح جميعهم ليتمظهروا في صورة المثقف، لاسيما أن في الحاسوب ميزة”المصحح” وهي تمكن كل متحرر من أميته- وثمة أمي قد يمتلك شهادة دراسية عليا- من إيهام العامة على أنه في موقع منتج الكتابة، هذه الكتابة التي هي”سمة” للمثقف الحقيقي، وأحد تجلياته، فحسب، وباتت تنتهك أمام أعيننا جميعاً، على امتداد حركة عقارب ساعة اليوم، وبات مزيفها، الغثياني، يقدم في وعاء النشر نفسه الذي يقدم من خلاله منتج الثقافة الحقيقي الذي نحتاج إليه.
أجل، ثمة خطورة شديدة، تواجهنا، الآن، وهي ظاهرة تسويق المثقف الخلبي، المزور، الذي قد تتم مهادنته، نظراً لوجود أولويات المواجهة، فيما لم يتنطع لنشر ثقافة التزوير، التي تلجأ إليها أنظمة الاستبداد عادة، فتزرعها، وتعمل على تنشيطها، وتفعيلها، وتوظيفها، ومن شأنها أن تنسف ذاكرات الشعوب، ووجداناتها، وضمائرها، وتواريخها، ورموزها، وأبطالها، لأن غاية هذا الأنموذج الرئيسة تكمن في”خلط الأوراق”، لتسوية نفسه كمتطفل، بمن هو مضح، تنويري، لذلك فهو لا يتورع عن استخدام أسلحته المختلفة، وأبسطها التلفيق، ضد ذوي الحضور، و ممالقة الأقوى، ومقارعة من هو دونه، من خلال تهويل أخطائه، لقتل بذرة النضال، وهيمنة روح التيئيس، وهو موجود في كل مكان، ولعل في أذهان كثيرين منا ملامح صورته الفاضحة لسلوكياته.