يعود الجذر اللغوي لكلمة “التكسب” إلى الفعل الثلاثي” كسب”، والكسب النيل، وقد يتحول الفعل نفسه إلى رباعي، بتشديد”السين” فيؤدي المعنى ذاته، بينما تجيء صياغة الفعل على وزن “تفعل” لتدل على القيام بالفعل، و قوة حدوثه، بل وكثرة وقوعه، في آن، وهو في امتداده الاصطلاحي يذهب أبعد مما هو معجمي، لاسيما عندما تكون هناك العلاقة بين طرفين، أحدهما معطٍ، والآخر مستعطٍ، ليكون هناك المعنى الدلالي للتكسب، مقابل الاسترزاق، وإن كانت صيغة “الاستكتساب” غير مستخدمة معجمياً. وإذا كان مصطلح “التكسب” قد شاع على أيدي عدد من الشعراء عبر التاريخ، وله جذوره التاريخية التي تعود إلى قرون طويلة، ما جعلنا نكون أمام ما سمي ب” أدب الكدية” الذي تناوله أبو عمرو الجاحظ، عبر حديثه عن” أدب الشحاذين”، حيث يتجاوز التسول في مفهوم الكدية إلى درجة الاستجداء.
وقد رصد النقد العربي أسماء شعراء التكسب، عبر التاريخ، حيث لكل منهم حكاياته، وقصصه، وطرائقه، وموهبته في استدراج ممدوحه، والإيقاع به، وإدخاله في دائرة الحرج، وابتزازه، حيث يعمل على مستويين: أحدهما، تحقيق ما يصبو إليه، والحصول على مرامه من المال، وثانيهما تبخيس قيمة الشعر، وتشويه صورته، والقيمة الرمزية لمنتجه، لدرجة أن هناك من ينحدر إلى مستوى الكتابة من أجل مائدة عامرة، أو ما يملأ بطنه، عبر الوجه الآخر غير الحميد لمفهوم الصعلكة.
وفي ما لو توقفنا عند هذه المفردات البارزة التي تم عرضها، عبر هذه المقدمة السريعة، لوجدنا أن الأداة الرئيسة التي تمت المقايضة، والمساومة عليها، هي: القصيدة، ما جعل الكثير من النقاد يرون أن أية قصيدة مديح، يقدمها صاحبها-مهما علت قامته الإبداعية حيث هناك شعراء كبار عبر التاريخ في هذا المجال- غرضه من ورائها الكسب، بأشكاله، ولو المعنوي منها، فإن لا علاقة لها بالإبداع، بل إنها لا تحقق الشرط الشعري، لأنها كتبت تحت وطأة دافع عرضي زائل، لا شأن له.
و فضاء الشعر، هنا، هو المجال الحيوي- باللغة العلمية أو الجغرافية، لظاهرة الكدية، وإن كان السرد، يأتي-تالياً- وقد ظهر ذلك من خلال قيام الناثر، الباحث، أو واضع الكتاب، الديواني، وغير الديواني، بتقديم مؤلفه لأحد الأعيان، وأصحاب المال، أو السطوة، عسى أن يتكسب به، ما أمكن من مال، أو حظوة، بيد أن استساغة ما يقوم به الأخير، لم تتم إلا من قبل من يدرك أهمية ما هو مكنون بين دفتي هذه المدونة أو تلك، أي من قبل: العين-جمعه أعيان وهو مأخوذ من القول الوصفي المعروف” فلان عين في قومه”، بيد أن تقبل”سلعة” الشاعر، تتم من قبل العوام، صغيرهم وكبيرهم، عالمهم وجاهلهم، حيث يكاد ألا يوجد من لا يدغدغ إطراء الشاعر له، لاسيما عندما يكون هذا الأخير ذا مراس وخبرة وحضور إبداعي.
ثمة دوافع كثيرة لظاهرة التكسب- وهي الشكل الأقل سوءاً مقارنة بسواها من أساليب الابتزاز الثقافي- تأتي في مطلعها حاجة المبدع إلى تأمين أسباب العيش، أو بغرض مد اليد للخروج من محنة تعرض لها، سواء أكانت سجناً، أو مرضاً، أو بحثاً عن وظيفة، وقد تكون نتيجة طمع أو جشع، لتكسب المزيد من المال أو المنزلة، ولكل من هذه الحالات طريقة تقويمها، وفق المعيار الأخلاقي، وإن كان شعار” تموت الحرة ولا تأكل بثدييها” معمماً لدى المبدع الذي يحرص على اسمه، وإبداعه، فما أكثر هؤلاء الذين آثروا أن يواجهوا شظف العيش، وضنك الحياة، بل وعرضوا أنفسهم لمصائر أليمة، من دون تقديم أي تنازل، ومن دون أي تخاذل، أو استسلام أمام المصاعب، والأهوال، والشدائد، والمحن، مهما كانت جسيمة.
ويروى عن أحد الشعراء أن طاغية متجبراً متشاعراً قد سجنه، لأنه استتفه ماكتبه، فرماه في قعر بئر، بيد أنه بعد مرور عام على عقابه، طلب ممن حوله أن يأتوا به، بعد أن” يحمموه”، ويلبسوه أفضل الملابس، ويكرموه أحسن تكريم، ويقدموا له أفضل أنواع الطعام والشراب، ولما صار بين يديه، قال له هذا المتشاعر ما معناه: بني، أقدر صراحتك، وجرأتك، فقد أعدت النظر في ما أكتبه من شعر، وتبين لي أنك كنت محقاً في ما قومت به من قصائدي القديمة، فها قد كتبت أشعاراً جديدة، تداركت فيها عيوب قصائدي السابقة، فما كان ممن حوله من حاشيته إلا أن بدأوا يظهرون علامات الإطراء والطرب والإعجاب، وهم يسمعون سيدهم يقرأ قصائده، وما إن انتهى الرجل من قراءة ما في جعبته، سأله: والآن، أيها الشاعر، ماذا تقول في ما كتبت، فقال له: مولاي أعدني إلى الجب..!.
ومع انتشار وسائل النشر، بات هذا النمط الارتزاقي جد كثير، لاسيما أن الأمر لم يعد في حدود إطار الشعر أو السرد، لأن وسائل الاتصالات الهائلة باتت في متناول الناس، وثمة من لا يفلح في كتابة عنوان مقال يسميه افتتاحياً، قد يخطئ فيه، بات في إمكانه مطاولة مستوى من لهم باع في مجال خدمة أهلهم، بعد أن يتم توجيههم، للإساءة إليهم، من قبل هذه السلطة أو تلك، ثقافية كانت أو سياسية، وهو أنموذج متهتك، يستطيع أن يغير قناعاته خلال شريط زمني مرئي لا يتعدى السنة الواحدة، أو السنتين، أكثر من مرة، وذلك بعد أن يستشعر منفعة أكبر، وهذا الأنموذج، مباع، ورخيص، متجرد من القيم والأخلاق، لا يستقر على حال، فهو ما إن يكن أداة في يدي طرف ما، حتى سرعان ما ينقلب عليه، أنى استشعر زوال منافعه الواقعية أو الافتراضية.
نحن الآن، أمام خطر حقيق، محدق بالمشهد الثقافي، من قبل مرتزقة الكتابة العابرين، الذين لايمكن لهم أن يفلحوا في مهماتهم، إلا بعد أن تستكمل شروط انتعاش فيروساتهم، المدمرة، إذ لابد من إماطة اللثام عن وجوههم المقنعة، وإظهار سوء طواياها، بل وسمومها، ووضعها تحت مجاهر التشريح، لأن هؤلاء شر مستطير، وداء فتاك، من شأنه نسف المنظومة القيمية في مجتمعاتنا، والانقضاض على كل ما هو أصيل وجمالي، لاسيما عندما تم اعتمادهم- كبطانة- في بعض المواقع المسؤولة، رغم أن لا أوراق اعتماد من قبلهم تؤهلهم لتقديم ما هو منفعي لمجتمعاتهم، لاسيما في ما يخص سمة التضحية التي يجب أن يتحلى بها المبدع، حتى ولو كان ذلك على حساب حياته، ولعلنا عارفون أن شاعراً كأبي الطيب المتنبي- رغم ما يمكن أن نسجله عليه في هذا المقام وهو مالئ الدنيا، وشاغل الناس، قد دفع حياته رخيصة، من أجل بيت من الشعر، عندما واجهه فاتك الأزدي وأصحابه في دير عاقول وكان قد توعده لتناوله شقيقته في قصيدة له عندما هجا ولدها، فهم بالفراربيد أن مرافقه وخادمه مفلح قال له، أولست القائل:”
الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم
فرد عليه، ويحك، لقد قتلتني قتلك الله، يابن اللخناء…!
ظروف حالة الحرب المشتعلة، باتت تظهر جيشاً هلامياً، مرتزقاً، ممن لا علاقة لهم بالكتابة، بيد أنهم باتوا يظهرون في عوالمها، لاسيما أنها لم تعد تتطلب الموهبة، بل ولا إمكانات الكتابة، و لا حتى الثقافة، أو المهنية، مادامت المدونة الإلكترونية باتت في متناول أي أمرئ من مليارات العالم السبعة، وصارفي إمكانه-وفي ظل غياب القانون، والمحاسبة، أن يشتم أي طود شاهق، أو أي رمز ثقافي أو سياسي، مرموقين، مادام أنه مستظهر بمن يسانده، ويدفع له، وهو شأن أصحاب الأقلام المكتراة الذين باتوا يظهرون في كل مكان، وهو تهديد جدي لقدسية الكلمة، وعراقتها، وشرفها، بل هي تتفاعل مع الحالة المستنقعية الآسنة، لاتفتأ تنفث سمومها في الجهات كافة.
أجل، ما انحدرنا إليه- الآن- من مناخ مكربن، خانق، بات يفرز بيادقه المكتراة، كي تتوجه إما عبر الريمونت كونترول، أو عبر أصابع من يمكن وصفه ب” كبيرهم الذي علمهم السحر”، وهو-عادة- امرؤ هامل خمول، ينضح بالحقد على كل من حوله، لأن من يغرق في حب ذاته، لا يمكن أن يستوعب سواه، مادام أن وجوده يحد من أوهام تضخم هذه الذات، نهاز فرص، ممالق، وبائي، كارثي، جرثومي، عديم إمكان الظهور عندما تكون هناك أية مواجهة، هاجسه الانحياز إلى الأقوى، لذلك فهو يفتقد الروادع والأخلاق، يستطيع أن يبدع أحاجيجه، يسوقها، مهما كانت متناقضة مع الإطار الرؤيوي الذي قدم به نفسه في ما قبل.