والكلب يعوي، ولعل العواء صوته الذي يمد فيه لضرورة خاصة: في الجوع والعطش والألم
مثلاُ، وهو يشمله وسواه” السباع “. لكن الكلب المعروف بالنباح، هو أنه
ينبح كما هو المتردد عنه لينبّه إلى وجوده الكلبي، كما لو أن نباحه دعاية له،
بينما الكلب حين يعض، فهو يقوم بفعل كلبي مسّي. النباح علاقة بعيدة تشير إلى كلب
ما، بينما العض فهو عبارة عن علاقة مباشرة يترتب عليها أذى معين، قد يكون مميتاً .
لكن الكلب ينبح لأن عليه أن ينبح، والنباح
” لغته ” الحيوانية، وربما النباح يكون علامة خير: لإرشاد التائهين إلى
الطريق ” في الصحراء “، إنما قد يكون إيقاعاً بالمسافرين أحياناً، حين
يكون هناك مستنبحون ” من يقلّدون الكلاب ” ،
استشرفت به سر هذا الاستنباح، حيث الكلب حيوان أهلي، وثمة البرّي طبعاً، والنباح
مقلّد وليس العواء تماماً، وكأن الكلب حين يعوي يثير ” حفيظة ” السباع:
الذئب مثلاً “، إشارة إلى أن سطو الكلب على ما هو برّي كثيراً، ومن يقلّد
الكلب في نباحه، فإنما يفصح عن تماه مع الكلب في داخله، وهذا لا صلة له بالنزعة
الكلبية ” الإغريقية ” حيث ممثلوها عُرِفوا بحراس الفضيلة
الكلبيين، والتماهي مع الكلب، وكيف يمكن لأحدهم أن يصبح كلباً لغيره، أن ينبح
تعبيراً عن سلوك يرتد سلباً عليه، أو لانسلاخه عن إنسانيته، بينما الكلب العاض فهو
النيل من الآخر على غفلة، ومعلومة أخرى تقول: بأنه من المستحيل الفصل بين نباح
الكلب وعضته، إنما ثمة درجات أو تفاوت بينهما .
بين نباح الكلب وعضته، يُرى كرديٌّ ما ذاك
الذي ينبح لسواه خارج نطاق ” قومه “، أو على غيره، للتشويش عليه، أو يرتقي سلوكه في
الاتجاه المضاد حين يتمكن من عضة مجاوره أو جاره أو المنتمي إلى دائرته الاثنية
وغيرها. طبعاً ليس الكردي وحده المعني، إنما لضرورة ما.
وفي وسع الكردي أن يمرّن ذاكرته ، الآن
كثيراً ، على استدعاء كم وافر من المعلومات التي تعرّف بنفاذ فعل النباح في تاريخ
الكردي بنسبة ما إذ ينسى أنه كردي وله شخصيته، وهو يسيل لعابه لمرأى عظمة من
يكتريه، أو ينتشي كلبياً لمرأى عظمة كبيرة واهماً أنها تفيه حاجته، دون أن يعلم أنها
مجرد عظْمة، ولكنها دالة على مدى ابتعاده عن حقيقة ما هو عليه، وأن السلوك الكلبي
لا يعدم صلته بالعض: عضة الكلب بالمقابل، وقد تكون نتيجة سعار طبعاً، وهي قاتلة .
إن كل ما يخص الكلب يقتصر على الكلب فيما
أتينا على ذكره، إنما هو في هذا التداخل التاريخي الحيواني الكبير والمستمر إلى
يومنا هذا، كما هو فحوى القول” القافلة تسير والكلاب تنبح “، أو ”
غدار مثل الكلب : في عضته “، سوى أن الجدير بالتنبيه هو أن الكلب مندمج
بغريزته، فهو لا ينبح لأنه مدرب على النباح، ولا يعض لأنه موجَّه للعض حصراً، إنما
داخل في دائرة غريزته، وأن الساعي إلى استغلاله الكلبي هو المعني بالموضوع، ويعني
ذلك أن أحدهم حين يحوّل ركبه النفسي والذهني إلى الكلب، فيستعذب النباح أو العواء
في حالات أخرى، أو في الحد الأقصى من نفاذ الفعل الكلبي تحديداً: العض، فإنما هو
التعبير الأوفى عن مدى خوائه، وجنوحه، وخروجه من خانة الإنسية بالذات، عن استعداده
لأن يصبح كلباً انتماءً .
كأن كرديَّنا الذي يمتلك ذخيرة معلومات تخص
الكلب وعالم الكلب أو بيئته لأسباب لها صلة بالبيئة أو الطبيعة وغيرها، لا يكفيه
أن يقال فيه ما يقال جهة الذم أو التقليل من قيمته في هذه الجهة أو تلك، أي
بتجريده من اعتباره الإنساني بكلبنته ” إضفاء صفة الكلب عليه “، فيثبت
على نفسه هنا وهناك ما يضفي مصداقية قول الآخر: الغريب فيه، وهو ينبح على نظيره
الكردي أو لا ينفك يتربص به ليعضه، والنباح والعض، كما هو معلوم، لا يقتصران على
ما هو حسي فحسب، وإنما قد يكونون في الكلام، والكتابة والحركات…الخ. الأمثلة
متروكة لأهلها !
لندع الكلب في شأن نباحه وعضته، ولنعش وجودنا
الإنساني: كرديتنا، لنتدبر سبل عيش مشترك كردية قبل فوات الأوان !