دينوكا بركات وكوباني صبحي حديدي


 ابراهيم محمود


أعرف الباحث والمترجم العربي السوري منذ عدة عقود زمنية، إذ كان يدرّس الإنكيزية في قامشلو وحينها كنت طالب ثانوية في سبعينيات القرن الماضي، وكان الاهتمام الأدبي يجمعنا، أو يجمعني به، وبعدها خرج من سوريا بسبب مواقفه السياسية من النظام السوري، ولألتقي به في يوم ربيعي وفي مقهى مستطيل الشكل من عام 2005، في شارع باريسي موصول بـ” قوس النصر “، وشارع الشانليزية، بحضور الصديق الكردي السوري صبحي درويش والمقيم في باريس، وبفضله حيث اصطحبني معه من بروكسل.
كان بهدوئه المعهود، سوى أنه كان أكثر عمقا، وأكثر غماً في نظرات العينين وملامح الوجه، ولم يخف تحفظاته على الجاري، حتى بالنسبة للكرد ” ابراهيم شو قصتكن انتو الأكراد ما تتفقو حتى هون: ما قصتكم أنتم الأكراد يا ابراهيم حتى هنا حيث لا تتفقون ؟“.
تجاذبنا أطراف أحاديث كثيرة لمدة ساعتين ونيف. صبحي، بغض النظر عن مواقفه عما يجري عما هو سوري عامة وكردي خاصة، صاحب رؤية نقدية وبحثية وعمق فكري، وله صولات وجولات في هذا المقام في أوساط كبار الكتاب والمثقفين العرب وسواهم، وعلى اتصال دائم بمجريات الأحداث في العالم العربي وفي سوريا على على وجه الخصوص، وله ولع بالأدب بشكل لافت، وقراءته في النقد الأدبي لها نكهتها وقدرة على تبين مفارقات النص الأدبي وجمالية المأثور فيه.
هنا، ومن باب التذكير ببعض من مآثر الرجل، أنوّه إلى فراهة ما أثاره في مقاله الحديث نشراً، في صحيفة ” القدس العربي- 13 تشرين الأول 2014 ” هذه الصحيفة التي يكتب فيها دورياً، وتحت عنوان “ دينوكا بريفا.. تعالي إلى كوباني “، حيث إنه استعاد القصيدة البارعة لسليم بركات وهي كانت فاتحة عهده بالشهرة في الوسط الأدبي العربي وذيوع صيته في سبعينيات القرن العشرين، هذه القصيدة في بنيتها الكشكولية، كما هي جغرافية الجزيرة وأعراقها وأهواؤها أو مناخاتها وقائمة التحديات لأهلها الكرد، ثمة مشاهد تجلوها تمثّل هذه الأخطار وما يكوّن الأخطار هذه، وصبحي في استعادته لهذه القصيدة كأني به يترجم رؤيا بركاتية، أو إن شئت فبراعة الأدب الذي يلغي الزمن ويفتتح زمنه وهو يمتد فيه” في الجهات كافة “، كما لو أن كوباني هي ما كان يتمثله الشاعر عبر بريفا:ه، وأن مهددي كوباني من الدواعش هم من كانوا يجسدون الأخطار تلك، وكما أشار الباحث بشفافية لافتة ، وما يمكن أن يثار لدى القارىء في الحالتين:
 ( ولعلّي أسارع إلى اقتباس المقطع الاستهلالي الأخاذ، والصاعق في ما يستهلّ من مناخ، وما يقترح من معجم: «عندما تنحدر قطعان الذئاب من الشمال وهي تجرّ مؤخراتها فوق الثلج وتعوي فتشتعل الحظائر المقفلة، وحناجر الكلاب، أسمع حشرجة دينوكا. في حقول البطيخ الأحمر، المحيطة بالقرية، كانت السماء تتناثر كاشفة عن فراغ مسقوف بخيوط العناكب وقبعات الدرك، حيث تخرج دينوكا عارية تسوق قطيعاً من بنات آوى إلى جهة أخرى خالية من الشظايا». درك تلك الأيام يمكن أن يمثّلهم، اليوم، أيّ صنف من المسلحين الذين يستهدفون الكرد في كوباني، أو في أية بقعة معاصرة تقطنها أغلبية كردية، بصرف النظر عن هويتها العسكرية أو العقائدية، وما إذا كانت إرهابية معلنة أم مبطنة.

مقطع آخر يسير هكذا: «دينوكا. ماذا أقول للصيّادين الذين يضعون سروجاً فوق ظهور الكلاب السلوقية في سفح سنجار وجبال عبد العزيز؟ أنت مختبئة في مكان ما، ربما في زريبة، تشمّين التراب ومزاود النعاج. كبيرة أنت، بليلةٌ، مسكونة بالحصاد وبي. أسمع والدك يصيح: دينوكا.. أسمع والدتك تصيح: ‘دينوكا، احملي خبز الشعير هذا إلى المهاجرين وقولي أن يستريحوا قليلاً’». والمكان هنا، سنجار أو جبل عبد العزيز، ألا تتردد علائمه في مِحَن راهنة، عاشها الكرد أو الإيزيديون أو سواهم، تحت وطأة «داعش» أو شبيحة النظام أو مسلّحي الميليشيات من كلّ طراز ومنبت وغرض؟ «أنت تجهلين كيف يمتلىء الأخدود بين عامودا وموسيسانا بجثث البغال والأعضاء المبتورة. تجهلين من أين يحصل البدو على بنادق فرنسية، ولماذا ينتفخون على تخوم القرى حين يهجمون عاصبين رؤوسهم بعباءاتهم»، يتابع بركات، وكأنه ـ مع تبديل طفيف في المسميات، ليس أكثر ـ يصف الحال المعاصرة.) .

لقد تعمدت في نقل مقطعين طويلين نسبياً من مقاله المذكور، في محاولة لإحاطة أكثر بمحتواه إلى جانب استشرافية الشعر البركاتي، فالصيادون وما يصطحبونه معهم، وطريقة الدهم أو المداهمة للقرى، لـ” كوباني ” هنا، هي ذاتها، مع ذاتها الأسلوب المريع للدواعش، وهم في محاولتهم للنيل من ” طريدتهم ” الجغرافية ومن أهلها، كما هو مسعاهم في أمكنة أخرى ذكِرت في السياق .
ملعب أحلام بركات، ساحته ذات المدى الجغرافي الواسع، خميرة إبداعه ” بريفا “، يستحيل مقاماً جغرافياً منصوباً في أفق الرؤيا الأدبية الشعرية، ولعله قنص من نوع آخر، قنص من قنص: الصيادون بدلالتهم في القنص، والحيوانات بشبقها في ” الافتراس “، وترويع الأهالي الكرد، ومغافلة حيواناتهم: بهائمهم، طيورهم الداحنة، حماماتهم، أرانبهم..الخ، وبركات في قنصهم، وهو يحيلهم إلى نموذج في القدح وإظهار ” إرهابهم “: عنفهم المتعدد الأبعاد، وقد تأمموا زمنياً ومحط أنظار الآخرين، وصبحي في قنصه النقدي إذ أخرج المكان المحلي من محليته، وأفصح عن أهلية التحويل، لتكون بريفا : كوباني، ولتكون كوباني شاهدة على إرهابية أمارة بالويلات والفظائع، وإشارة إلى هذا التعدي من داعش ومن في إثر داعش، ومن يتقدم داعش، وأنا – ربما- في قنص آخر، مواز، ونظير ما تم، في إطهار هذا التركيب البديع والملهم، والذي يلغي الحدود بين اللغات، والاثنيات ويترجم الموحّد أو يسمّي ” تدبير المتوحد ” الجغرافي والديموغرافي والإنساني، كما في نهاية مقاله :
( دينوكا… تعالي إلى كوباني، إذاً، بعد بريفا، فثمة هنا أكثر من طعنة دامية، إذْ يخرج الكــــرد «من جهـــة العــــراء» هنا، إلى جهات العراء جمعاء، حيث الجهات ليست البتة خالية من الشظايا.) .
ولتبقى النهاية مفتوحة، كما هي الأرض المنبسطة وهي تري مهزلة المستفحَل الداعشي، وفي الوقت نفسه، لتعرّفنا بمن يسمّي داعش إرهاباً حتى وإن تكلم بلسانه ” العربي ” في منحى المجابهة، وأعني بذلك ابن بلدي صبحي حديدي، رغم كل ما يمكن الحديث فيه عن المختلف واللافت مجدداً، ولأنوه في السياق إلى شفافية أخرى لها صلة بشفافية ما سمّي آنفاً، تتعلق بمقال آخر له منشور في ذات الصحيفة”  كرد سوريا.. ظلم ذوي القربى “، إذ إن ظلم ذوي القربى هم الكرد، ومن يظلمونهم هم من يغفلون عنهم وهم يتعرضون للاضطهاد، وما هو مسبّب لذلك، عائد إلى التشظي السياسي الكردي، ومن ثم الانقسام العربي وسلبيات الحالتين.
ربما، بقي أن أقول أخيراً، لا آخراً: قد تجد من يوجه إصبع الاتهام إلى صبحي حديدي، لأكثر من موقف عقيدي أو إيديولوجي، وهذا وارد، سوى أن الجائز قوله أيضاً: علينا ألا نطالب الآخرين، ممن يتكلمون بلغة غير لغتنا، بما نعجز نحن عن القيام به، ولا نتمثله قيمياً فيما بيننا في الواقع اليومي، إلى جانب جبن نسبة ملحوظة من بني جلدتنا: من الكتاب والسياسيين، حتى اللحظة عن تسمية الخطر المحدق بما هو كردي، وحين يتنكر الكردي هذا لعيوبه التي تحتفظ بسهم نافذ لها في تسعير القائم أو المتداول كردياً، وفي تنمية اللاكردي كردياً، لنكون إزاء دينوكا ضد دينوكا وكوباني ضد كوباني…ولعل الحبْل على الجرّار..
========
م: يمكن مراجعة المقالين على الرابطين التالين:

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…