مشعوذو أسطوانة المديح والمدّاحين الكُرد «بصدد الراحل جكرخوين وخلافه»

 ابراهيم محمود


أنقذونا من هذا المديح . من ؟” أحدهم
” إلى من لا يهمه الأمر “
ثلاثون سنة تفصلنا عن الراحل الكبير، شاعر أمته الكردية ” جكرخوين ” 1903-1984 “، جلها من السنوات العجاف بالمعاني التي ربما يغفل عنها سلاليوها، ورغم ذلك، يتبارى من يعتبرون أنفسهم المعنيين به أكثر من غيرهم، وبإمضاءة محسوباتية ” تحزبية في المقام الأول ” إلى الحديث عنه، ولكم يذكّروننا نحن المعرَّضون لويلات هذه السنوات، وهي تترى، بالمقولة الاقتصادية ” البضاعة الرديئة تطرد الجيدة من السوق “، أقول ذلك، وأنا في الوقت الذي أستشرف بمشاعري وأحاسيسي وقواي العقلية ما يجري كوردستانياً، وفي مواجهة إرهاب داعش وسوى داعش، متتبعاً كالقلة الكاثرة ممن أحاول أن أنتمي إلى دائرتها في ترقب المنشود كوردستانياً، لا أخفي تفجعي بهؤلاء الذين يشهرون إرهابهم بصيغ شتى في الداخل الكوردي وهم كورد، جرّاء مدائح: فضائح، تبقينا خارج التاريخ. لأبدأ من هنا:
في كتابه ” واقعية بلا ضفاف ” يفرد الفرنسي روجيه غارودي فصلاُ عن الفنان الاسباني  العظيم بيكاسو، ومن باب التنبيه إلى حقيقة فاعلة، يستهل الكتابة عنه بمعلومة مستقاة من كتاب باحث سعى إلى تخصيص كتاب فوجه إليه ملاحظة أرادها متصدرة لكتابه (اكتب أولاً:بيكاسو، إنسان، وله عينان، ويدان، ورجلان، وأنف واحد، وفم واحد…الخ)، وأعتذر للقارىء إن أخطأت في الترتيب والصياغة، لكن الملاحظة تنوّه إلى لزوم أخذ الحذر عند الكتابة عن بيكاسو، باعتباره إنساناً رغم عظمة ما جاء به إبداعياً، وفيه أخطاء إلى جانب حقائق قابلة للمناقشة بالتأكيد، فهلا تنبَّه كتابونا الكرد بأنواعهم، ممن يعتمرون خميرة المديح والاستمداح والتمادح غاية المطلوب في مناخ يساعد على ذلك؟ هل فكّروا، ولو للحظة زمنية واحدة، فيما بينهم وأنفسهم، أنهم وهم في كل حول، ليسوا كما كانوا، رغم أن الوقائع تشير إلى تغيرات لا حصر لها، كما هو راهننا الخطير؟ أي حس زمني معطوب لدى هؤلاء، ليحسنوا سلباً، إزاء هذه الفيروسات التي يغيرون بها، وهي داخلهم، على رؤوس ونفوس من يبحثون عن بدايات ليكونوا كتاباً بالفعل ؟
********
جكرخوين الذي تفصلنا عنه ثلاثون سنة، أعني ثلاثين في ثلاثين في ثلاين وجعاً كردياً وألماً كردياً ومأساة كردية، وشهيداً كردياً، ونهياً كردياً، وسبياً وسبية كرديين…الخ، ابن زمانه ومكانه، حسبه أنه قدَّم ما استطاع أن يقدمه، وليس أنه قدم أفضل ما يمكن تقديمه، والباحث فيه لا بد أن يراعي هذه العلامة الفارقة على مختلف المستويات، ليحسن التفكير، ويدرك أنه في زمن آخر، أم إن الزمن الكردي هو الآخر يعيش مأساة من يؤرخ باسمه، ويقيم فيه ولو على الهامش ؟
مشعوذو أسطوانة المديح والمداحين الكرد سكارى الأسطوانة ذاتها: المديح للاسترضاء، والاسترضاء لينالوا المديح، والمديح ليستمروا.. وهكذا دواليك..تُرى ماذا أضاف هؤلاء إلى جكرخوين الإنسان ؟ ألم يكن جكرخوين مسكوناً بأوجاع ومخاوف؟ ألم يكن عرضة لأخطاء وأخطاء؟ هلا بحث أحد هؤلاء المشعوذين الكرد في شعره وكيفية الوصل بين شيوعيته” أمميته ” وقوميته ” من أول ديوانه ” نار وجمر-1945 ” إلى آخر ديوان والمنشور بعد وفاته ” السلام- 1945 “؟ هل بحث أحدهم في كم وافر من القصائد النظمية، وسلسلة التراجعات عما هو شعري بعد ستينيات القرن الماضي وحكمة هذا التراجع قياساً إلى ما سبق ؟ نعم، هو شاعر كبير، وكبير، وشاعر شعبه الكردي، بمقياس زمانه، وبمقياس زمانه يمكن النظر إليه، وبالمقابل، هل كلّف أحدهم نفسه للنظر في قائمة التناقضات في مذكراته، جرّاء تأثيره بما هو تحزبي وانصياعاً لسماسرة حزبه من حزبييه المعتمدين والقيمين عليه ؟ تُرى، أي قيمة لكتابة، وهي تقدم مديحاً إثر مديح ؟ وكيف يكون المديح المديح حين يفتقر المدوح إلى تلك الصورة التي تفصح عن ذلك ؟ أليس من خلال معرفته في تنوع نصوصه ومستويات النص الواحد؟ هل كل مناسبة دورية مدحية؟ من قال ذلك؟
أي بؤس مما يتردد مديحاً، حين نجد من وراء هذا الكم الكبير من المداحين، وهم يعتبرون كل كاتب أو سياسي كردي راحل، على أنه نجمة وقد أفلت، بحيث أنهم جعلوا السماء ” قحطاً “: أفرغوها من النجوم، إزاء هذا السطو غير المسئول ؟!
**********
نعم، جكرخوين لا يُنسى، ولكن يجب أن يُنسى باعتباره رحل، لأن ثمة ضرورة للنظر إلى الأمام، للإتيان بالأفضل. إن القيمة الكبرى التي تعطى لجكرخوين شاعر زمانه وكاتبه الكردي المأثور، هو أن يؤرشف تاريخياً، أن يدرَس باعتباره من زمن كان ذات يوم، وأن أي دراسة تتعرض له، تحافظ على المسافة الزمنية الفاصلة، فحساب اليوم ليس كحساب الأمس، في كل شيء، كل شيء .
هذا لا ينطبق عليه وحده، إنما على آخرين: شرف خان البدليسي، الجزيري، أحمد خاني، حاجي قادر كويي، جلادت بدرخان، اوصمان صبري، قدري جميل، نورالدين زازا …الخ.
في هذا النطاق، إن العودة الدورية إليهم، بصفتهم نجوماً، وتعاد الإسطوانة المدحية ذاتها، إنما هو تأكيد على موات كردي، على بؤس المتحدّث هنا. إن كل كتابة على هذه الشاكلة ترجمان خواء الجاري، والعجز عن التحول، رغم أن الذي نعيشه اليوم، لم يعد يربطنا بهم إلا من زاوية النسب، أما الاختلاف فما أكثره. إن المرعب هنا، حين يتعرض أحدهم، وعلى أعلى مستوى عمن ذكرنا، وغيرهم، وخصوصاً حين ينتمي إلى عقود زمنية خلت، كما لو أنه ابن اليوم، فتكون الإساءة مضاعفة: إلى المعني، وإلى المحيطين به. ولهذا، ما أسهل أن نسأل ونتساءل: ما الذي بقي في إثر هؤلاء، سوى ما تركوه من آثار لم يُبحَث فيها لتستحق انتماء إلى التاريخ، كما يسعى الكرد لأن ينتسبوا إلى التاريخ بوعي فعلي ؟ إن من الممكن جداً، القول بسهولة إحلال أي اسم محل آخر ممن ذكروا وأمثالهم، مع تغيير نماذج مستقاة من أعمالهم، دون أن يطرأ أي تغيير يستحق التذكير، بسبب المديح الفارط، وهو مرتكز إلى شعوذة مستفحلة هنا وهناك.
وبهذا الصدد أيضاً: من الذي يمكن أن يتحدث باسم أي من هؤلاء من ” ورثته “؟ أي ثقافة فعلية تمنحهم الحق في أن يتباهون بآبائهم وأمهاتهم وقد صاروا رموزاً كردية متفاوتة، ولا يكفّون عن إرسال المديح فيهم، كما لو أنهم محقون في كل ما يتفوهون به، رغم أن الذي يمكن التأكيد عليه هو عدم صلاحية أي من ورثة هؤلاء، في الغالب، لأن يعتد بأبيه أو بأمه ” روشن بدرخان، مثلاً “، من خلال الوقائع، بالعكس، لقد أصبحوا عبئاً على الذين صاروا رموزاً، وتشويهاً لمفهوم الثقافة، كما لو أننا إزاء وراثة من نوع آخر، أي: إن من حق أي من أبناء وبناء هؤلاء الرموز الظهور على المنبر وأمام جمهور عريض التحدث في موضوع يخص أباه دون أي رصيد أدبي أو ثقافي يذكر… !
أشير هنا، وللضرورة، وفي يوم الراحل جكرخوين: الأبعاء مساء، بتاريخ 22 تشرين الأول 2014، وعلى شاشة فضائية ” روداو” حيث تابعت مجموعة مقابلات ؟ مع من يهمم أمر الشاعر الكبير، فكانت حفيدته ” سليفا ” من بين هؤلاء وفي الاستديو. ثمة تعليقان هنا:
التناقض على مستوى المظهر، إذ برزت بلباس أسود، تعبيراً عن حِداد على جدها، بينما كانت مسشورة الشعر، ومجمّلة الوجه بشكل لافت، ولا بد أن مهتماً بدلالة السيمياء يتنبه إلى مفارقة الحالة المتلفزة.
في الجانب الآخر، حيث كانت تجيب حفيدة جكرخوين على أسئلة مقابلها، بصورة متقطعة، وهي متباهية بجدها، ولا ضير في ذلك، ولكنها أفصحت عن أن العلاقة قرابية لا أكثر، وليتها اعترفت حين سُئلت عما إذا كان أحد من عائلتها يهتم بالأدب، بالعكس، حاولت أن تعلِم المديح أن هناك من يهتم بالأدب” كتابة نصوص شعرية ” دون تسمية، ولا أشك للحظة واحدة، أن ما أشارت إليه، بطريقتها تلك لا يعدو أن يكون مجرد ” لخبطة ” كتابية، وخصوصاً في الواجهة الانترنتية، ولأن هناك اعتماداً على النسْبة، ولكم كنت أفرح، وأعتبر المسموح بشارة خير، لو أن  سليفا اعترفت بعدم وجود من يهتم بالأدب في عائلتها، كما يجب، حتى وإن لم تتأسف على ذلك.
***********
من الذي يهتم بجكرخوين وجلادت بدرخان وتيريز وغيرهم ؟ ما أكثر حضورهم شمَّاعات، حيث يعلَّق من يمارس المديح فيهم، أخطاءه الفادحة على شماعة ما، أو لعجزه المترجِم لتقاعسه عن أداء دوره المطلوب فيه تجاه المستجدات، كما كان أولئك، وليحولوا دون تعرض آخرين لهم، ممن لا يكفون عن الارتقاء إلى مستوى الحياة وتحدياتها، ومعايشة المآسي الكردية والكتابة عنها دون تردد ؟
بهذا الصدد، أي إسهام فعلي لهؤلاء الذين يقدّمون أنفسهم الكتاب الكرد الغيارى على كرديتهم وفي هذا الظرف العصيب سوى التسابق في عقد اجتماعات وبث وجوههم المتلفزة صحبة من يوالونهم ويهمهم أن يبقى كل شيء على ما هو عليه سوء ؟
بالطريقة هذه، سيصبح كل راحل: كاتباً وسياسياً نجماً، وسيحتفى بالجميع، وسيزحم الموتى الأحياء، وفي الوقت نفسه، سوف تطلق أسماؤهم نظراً لأهميتها” وكونها لم تخطىء أبداً ” على ساحات وحدائق وشوارع وقاعات ومؤسسات ومدارس ودور حضانة، ولينفع كل كاتب كردي خارج الجوقة المرعبة هذه !
*********
بهذا المناسبة، وعلى طريقة الشيء بالشيء يُذكر، حين ينبري مشعوذون إلى التعبير عن فرحهم بما تحقق في اجتماع ” دهوك ” الأخير على أنه نصر كردي، ورحّب به، رغم أن شيئاً مما هو مرجوّ لم يتحقق بعد، إنما ينتظر التطبيق على الأرض، إنما يكون محط تساؤل واستغراب. وحتى في الحالة هذه، وتعليقاً على مراسل إحدى الفضائيات الكردية، وهو يستفسر أحد الحزبيين، في اليوم الأخير؟ عما تحقق، ليزف البشرى إلى الشعب الكردي، وكان الآخر فائق السرور عبر ملامحه، وقد كان الأجدى أن يبادر في الحال إلى الاعتذار لكل كردي مقاتل على الجبهة الجنوبية والغربية، ولكل كردي عما يجري، وجرّاء خلافات ” الساسة الكرد المتحزبين “، وهم في ثمانية أيامهم المحسوبة والمقتطعة تكليفاً من لقمة كل كردي إن أردنا التقدير، أم أننا سنستمر على منوال ” طنجرة لقت غطاها ” ؟
وهذا يصلنا بمدى قصور الإعلام الكردي، حين يركّز في الاتصال على من يهمه أمرهم، حيث المحسوبيات تقطع الجغرافيا الكردية طولاً وعرضاً، كما في التركيز على المحتفين بالمناسبة الجكرخوينية وغيرها، أي حين يصبح الحزبي سياسياً ومثقفاً ومقيماً للأوضاع ومن خلال توصيات وتوجيهات معينة. أم علينا أن نسمي كل شيء باسمه ؟
**********
ربما على الكرد أن يتهيأوا للمزيد من السنوات العجاف” وهذا ما لا أتمناه، ولا غيري ممن يكابد ويلاتها”، وأن علينا ألا نلوم من هم أعداؤنا دائماً لأنهم ينالون منا، طالما أننا نعيش وضع لامبالاة بما هو شديد الفعالية اجتماعياً وثقافياً وسياسياً على أكثر من مستوى، لا بل نستمر في الاستئناس بالإقامة في ” أذن الثور “. قدّروا إذاً كم تكون مساحة كردستان، وكم هو عدد السكان الكرد الأحياء الفعليين فيها .
أكتفي بما تقدم، وأنا أختتم ما كتبته بذكر الطرفة التالية، وأترك صلاحية الضحك لمن لا يهمه الأمر: سأل مفتش التذاكر في قطار لندني راكباً لا يحمل معه تذكرة، فكان جوابه: أنا صحفي. فما كان من الآخر إلا أن قال له: لنمض إلى نقيب الصحفيين في القطار، للتأكد من صحة زعمك. فمضيا إلى حيث يكون، وبالفعل قال الآخر: نعم، هو صحفي.
وحين نزل الصحفي، تقدم من الآخر” نقيب الصحفيين “، وقال له:
أشكرك، لقد أنقذتني من ورطة، فأنا لست صحفياً.
فرد عليه الآخر: 
وأنا أيضاً لست نقيب الصحفيين !

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…