حين يستحيل الموزاييك إلى السواد

غسان جانكير

مقطع الفيديو، الذي نُشر على موقع اليوتيوب، الذي يبدو أن أحد الهواة قد سجّله خلسةً، لرجلٍ خمسيني تدل لهجته أنه من محافظة الرقة، يتحدّث فيه بأريحية و دونما تنميق للكلمات، عن حالته النفسية وتبرّمه من الدواعش، الذين فرضوا عليه لحيةً لا يُطيقها، وأزالوا مِن وجهه شاربٌ يحنُّ اليه، وصلوات إجبارية في المسجد، يرفضها حتى و إن كانت توصله الى الجنة.
بالرغم من أن المقطع يهدف الى السخرية من الدواعش، بكلّ الشتائم الشعبية التي تخطر ببال هذا الرجل، دون تهذيبها أو فلترتها، فأنه في الآن ذاته، يحمل الى المُتلقي حجم المأساة التي تعانيها هذه المحافظة التي وقعت تحت حكم الدواعش، خاصة لمَن عايش حياة البسطاء فيها منذ سنوات عدّة.
كانت للرقة نكهة خاصة في تحفيز الكثير من الحواس لدى زائرها، رائحة الأراضي السبخة (بفعل السقاية الزائدة في الاراضي المالحة) مَلمحماً بقرب الوصول الى قلب المدينة، التي تنفرد عن غيرها من المدن بصخب الطرطيرات (مركبات آلية بثلاث دواليب)، التي كانت تُستخدم كوسائل نقل عمومية تناسب الحالة المادية لأغلب سكانها الفقراء، تفرض حميمية على ركابها، الذين يجلسون في صندوقها الخلفي ذي المتر المربع مساحةً والأوسع كقلوب البسطاء ترحاباً، بصخب الركاب في أحاديثهم التي لابد أن تعلو على صوت المحرك، وتماسكهم بعضهم ببعض ألّا يقع أحدهم، حين تميلُ الطرطيرة ذات اليمين أو الشمال وقد انتشوا بالرجّة التي تسري الى أجسامهم من المحرك الذي يزداد ارتجاجاً كلما زاد السائق من عيار البنزين.
تزداد النشوة ألقاً حين تمرُّ بالعيونِ الألوان المُزركشة الزاهية لثياب الرقاويات المتمايزة عن غيرها من المدن، اشترينه مِن كدّهن في حقول القطن والقمح والذرة الصفراء، مع ذكريات حميمة عن حقول الخير تلك، والأُلفة في الاختلاط مع الشباب، وبثّ لواعج القلب عبر أغنية عراقية سبحت بعكس تيار نهر الفرات، فتسمو سمو الحب في رقة ودقة المعاني .
على بيادر القمح التي يختصّ بدرسها و فرزها الكرد بواسطة الحصّادة، التي تكاد ان تكون حكراً عليهم، أثناء استراحة الغداء يقول صاحب البيدر (الشاوي) نكتة هي أقرب الى بساطة العيش المشترك منها الى تجنيدها في مواجهة الفاسدين، الذين يحكمون سوريا بشعارات قومية يسترون بها طغيانهم، النكتة تقول : ” أنّ الله حين وزّع المهن بين الشعوب، أعطى الأرمن مهنة الصناعة، والكرد مهنة الحصادات، أمّا نحن العرب فقد أعطانا مخاً لكنه في العضو الذكري ” .
  

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

فراس حج محمد| فلسطين

رواية “أنيموس” للكاتبة صفاء أبو خضرة، الصادرة في عام 2018 أول عمل روائي منشور لها بعد مسيرة إبداعية ركزت فيها على الشعر ونصوصه، ويعدّ هذا العمل السردي إضافة نوعية جريئة ومؤسسة في المشهد الروائي العربي المعاصر، ويتناول بعمق وألم قضية الهوية المفقودة والتشظي النفسي، متمحورة حول شخصية “تيم”؛ ذلك الطفل الذي يواجه…

فواز عبدي

بداية لابد من القول أن أية لغة تنشأ بنظام صوتي وإشاري بسيط يتطور تدريجياً. ومن اللغات ما تجد الأجواء المناسبة فتزدهر وتنمو كشجرة عملاقة، ومنها ما تتحول إلى لهجات متعددة وتتلاشى تدريجياً.. وذلك وفقاً للمجتمعات التي تتكلم بها..

أما عوامل تطور أو اندثار اللغة فليست موضوع بحثنا الآن. ما يهمنا هو وضع اللغة…

زاهد العلواني آل حقي

لي ملاحظة وتوجيه كريم إلى من يسمّون أنفسهم اليوم بـ “رؤساء العشائر”.

وبحكم الدور التاريخي للسادة العلوانيين آل حقي في جزيرة بوهتان منذ عام 1514م وإلى يومنا هذا، والدور الديني والاجتماعي والإصلاحي الذي اضطلعوا به بين العشائر الكردية في جزيرة بوهتان قديماً، وبين العرب والكرد حديثاً، في ظلّ الخلافة العثمانية التي حكمت المنطقة…

ا. د. قاسم المندلاوي

يؤكد علماء التربية على اهمية التعاون بين البيت والمدرسة بهدف النهوض الافضل بمستوى التلامذة. ولو تابعنا المشهد اليومي لوضع البيت والانشطة التي تجري داخل المدرسة لوجدنا اختلافا بين الجانبين.

هناك اتهام من قبل المدرسة على غياب اولياء الامور وابتعادهم عن المساهمة الجادة للجوانب…