في مديح الكُرشولوجيا

 ابراهيم محمود
لا يظنّن أحد أن العنوان له صلة بالكُرد، لا
من قريب ولا من بعيد، رغم أن مفردة ” كُرش ” تغري بالإحالة على مفردة
” كُرد “، ولكن ذلك لا يجوز” لا يجوز مجدداً “، ولا بأي شكل،
إدخال مفردة الكرد في الكرش أو بالعكس إطلاقاً، إلا من يرى أن ثمة ما يحفّز على
ربط الكرش وأدبيات الكرش ليس بالكرد عموماً هذه المرة، إنما من يرى في الكرد كرشاً
نسباً له، وفي من يهرعون من جهة إلى أخرى تجاوباً مع أخلاقية الكرش والتكريش
والتكرش، ونسيان أن الكرش له موقع بَطني، بينما الدماغ ” وهو شبيه كرش ”
له موقع رأسي، وقد يحدث الخلط بينهما، بالنسبة للذين يرون في الكردية بوابة تُفتَح
وتحلقاً حول ولائم تُسهِم في تعزيز التفاوت بين طرفي المعادلة الجسميين، وبنوع من
العلاقة الطردية في هذه الحالة ولمن أشرنا إليهم دون تسمية: كلما ازداد وِحام
الأمعاء، زادت أهلية البطن للتكرش، وضؤل حجم الدماغ، عملاً بالمقولة المعروفة
طبعاً” البِطنة تغلب الفطنة “، وهي معادلة أدبية  وصحية وخّازة، لا تعدو أن تكون في مقام: تسيُّد
الكرش على الدماغ !
 إذ إن الكرش محتوىً بطني، مثلما أن الدماغ محتوى رأسي، مع فارق، وهو أن الدماغ حتى إن تلاشى أثره كلياً لا يُرى، جرّاء الجمجمة العظمية، لكن الكرش في هذه البيّنة، وإزاء هذه الواقعة المعلومة والزعاماتية الكردية الخاصة، يمكن أن يكون شاهد عيان على تحولات الدماغ .
ثمة تأكيد آخر، وهو نوع من التنبيه المركَّز وحتى التحذير، وهو ألا يفرح من هو ” خلوٌّ ” من أي أثر تكرشي، إنما يتخذ الكرش طابعاً آخر، له علاقة مضمرة بمن يراهنون على كروشهم، ويودعونها رأسمالهم الاعتباري، وكفاحهم اليومي بالمقابل، وما يؤدي ذلك، كما سنرى، إلى عسر في الهضم وسوء المنقلَب !
لهذا، يكون هذا المقال، مهدى أولاً، إلى من يستمدّون أخلاقية مجابهة العالم كرشياً، عبرفصل المقال فيما بين رعاية الكردايتي والتكرش من اتصال وانفصال في تغيرات الأحوال، وثانياً، إلى الباحثين عن المحرّك البحثي في المكوّن الجمالي لهذه الكتابة المأخوذة بفتنة الكرش، وثالثاً، إلى أصحاب الدعابة والغمز واللمز، مع التأكيد على أن أي حديث عن التداخل اللغوي لهو بمحض الصدفة ليس إلا، لاختلاف اللغتين هنا، إلا إذا تحمَّس عابث ما مرة أخرى، وأكَّد على أن مفردة ” كرد ” لها صلة بـ ” كُردش ” بالانكليزية، رغم أن حرف ” الدال ” عالق بينهما، وهذا عائد إليه، وإلى من يريد أن يسمّيهم، أو يتكتم على العلاقة الفعلية. المهم هنا، هو أن المقال مفتوح ، على الأقل، على تأويلات نصف دائرية كالكرش ..
أي يأتي كل تقابُلٍ  بمحض الصدفة، رغم أن بقاء الكرد دون دولة، دون كيان سياسي ليس بمحض الصدفة، رغم أن تواجد هذا الكم الانفجاري من ” أولي أمرهم ” سياسياً وهم يتقاسمون الكرد البسطاء، ربما أحياناً أكثر ممن يتقاسمونهم من خارج نطاق لغتهم كأعداء تاريخيين طبعاً، ليس بمحض الصدفة بالمقابل.
لكن قبل التعرض لهذه العلاقة الأدبية والـ”فوق أدبية “، ومسالكها، ثمة ما يستحق التنويه وهو أن الفيلسوف الألماني نيتشه 1844-1900، والذي كان منبوذ الألمان في حياته، وكان يعاني آلاماً مبرّحة” صداع و حالات هلوسة وما يقرّبه من الشعور بجنون عظمة تترجم ما جاء به فكرياً، أي مع نبوغ استثنائي ، ليصبح مع الزمن إثر رحيله، في ألمانيا “ه”، وفي العالم لاحقاً، وراهناً، نجماً فكرياً ساطعاً باضطراد.
مغزى القول، هو أنه ربط بين الألمان، ودون استثناء، وعسر الهضم، كما في قوله (إن الروح الألمانية، هي عسر هضم، إنها لا تتوصل لإنهاء شيء، كل الأفكار المسبقة تأتي من الأمعاء لقد سبق أن قلت إن المؤخرة الثقيلة هي الخطيئة الحقيقية ضد الروح القدس )، وهي إشارة بليغة إلى مدى التضاد بين المنتج بعقله، ليدخل التاريخ، والمنتج بكرشه، لينسحب إلى الخلف ويغيّبه التاريخ .
لهذا، لا بد أن الشاعر ، وهو يكتب قصيدته عن أصحاب الكروش، يدرك إلام يرمي، كما في:
رأيتُ الـكـروشَ تُـشيـبُ الـرجـالا … و تَـجعـلُ حُـسْـنَ الـنـساءِ سَـرابا
تَـراهمْ جمـيعا إذا ما مـشَـوا … أنابـيبَ غـازٍ تَـدُكُّ التـرابا
تَـلُـفُّ يميناً و حِـيناً شِـمالا … فــنَـضحكُ حتى يَـثـوروا غِـضابا
و عنـدَ الـتَّـرَبُّـعِ في مَـجـلسٍ … تَـرى لـلكـروشِ شُـؤوناً عِـجابا
تَـراها تَـدلـدَلُ بينَ الـفُـخـوذِ … و نحـوَ البـِساطِ تَـرُومُ اقـتـرابا
و لكنّ هذي الـمفـاتـنَ تخـبو … و تـغـدو بِــفِـعـل الشحـوم خـرابا
و أمَّـا الـرجالُ فـكم مِـن فـتىً … تَـراهُ مِـنَ الخـلـفِ شخـصاً مُـهابا
و لكـنْ إذا ما اسـتـدارَ إليكَ … رأيتَ بَـطِـيناً يـعاني اضطرابا
فـيــــــــــا أيها العابــــــــــــــرونَ بِـشِـعري … هَـلُـمُّـوا لِـنَـجْــــــــرفَ تلك الهِـضـــــــــــــــابا
لكن مظفر النواب، الشاعر العراقي، والذي كان شديد السخط على المتكرشين، والمندفعين وراء كروشهم، كان يقدّر  ما يريد تسميته وإطلاقه في فضاء التاريخ، نوعاً من التعرية لصاحب كل كرش، ليس لكراهيته للكرش، إنما ما ينطوي عليه الكرش من مفارقات، تتمثل في أنه يختصر صاحبه هنا، وهو يشدد في حصاره الهجائي على أولي الأمر العرب ذات يوم، وهو يوم مفتوح ربما إلى اللحظة هذه وقد يتجاوزهم، بقدر ما يمتد إلى المستقبل، وربما- أيضاً- أكثر حدة وعمق سخرية ٍ، جرّاء هذا الانقسام الكارثي، والعنوان ” قمم ” هو الانفتاح الأكبر على المشار إليه، قمم تكون كروشاً، وكروش تترجم قمماً، إلى درجة أنه صار من الصعب جداً الفصل بينهما، فالقمم هِوى ” من الهاوية ” والكروش انحدار المعنيين إلى الأسفل، إلى حد انعدام الرؤية وتبصرة الجهات، إلى حد أن المناط بهم تحديد المطلوب يكونون عاملاً في تتويهه وتفجيعه:
قمم
قمم..
معزى على غنم
جلالة الكبش
على سمو نعجة
وتبدأ الجلسة
لا
ولن
ولم
مبارك .. مبارك
وبالرفاه والبنين
أبرقوا لهيئة الأمم
أم قمم
وحدقوا .. وحللوا…
وأجلوا
ومحصوا
ومصمصوا
وشخت الذمم
وأهبلتكم أمكم
هذا دم أم ليس دم ؟؟!
ما أقبح الكروش من أمامكم
وأقبح الكروش من ورائكم
ومن يشابه كرشه فما ظلم
قمم … قمم .. قمم…
قمم
ولعل الحديث عن الكرش باعتباره عِلماً، ومن منظور العلم التشريحي، يصدمنا بأخلاقيته الهضمية، بما يدفع الطعام إليه دفعاً، وبما من شأنه الضغط على البطن ذاته، على حساب توازن الجسم بالذات .
وقد يكون لافتاً في القول إن أشرنا من خلال تفكيك الكلمة/ المفردة” كرش “، مدى الارتباط بين ” كرَّش: كشَّر “، إذ إن الذي يكرّش هو الذي يرتقي إلى مقام من ينهش في اللحم ويمزقه، من خلال تكشيرة، وما في ذلك من استسلام لميكانيزم الغريزة البرّية المفتوحة، وبالمقابل، حين تنقلب مفردة” كشر ” إلى ” شرَك “، فالكرش شرك صاحبه وهو يسلس له القياد حتى لا يعود قادراً على التحرر من ربقته .
ويمكن تنوير القول بقول هو توأمه، وهو أن صاحب الكرش لا يخفي- ضمناً- شكره المستدام له، أعني أنه مطَّلع تماماً، وإن لم يذكر، على العلاقة القائمة بين بروز الكرش والشكر، وإلا لما حصل ما حصل، وخصوصاً حين يحال المعني بالأمر إلى جانب الدعابة والقابلية للطرب، فليس من نظير للذين يتميزون بالتكرش، أو حب الكرش والطرب، وهم يطبطبون على كروشهم، كما لو أنهم يضربون على طبل، لتصريف الطعام، مثلما أن الطبل يصدر صوتاً، أي يتوحد الإيقاع الصامت بالصائت.
ولا بد أن هؤلاء الذين يهمم أمر كروشهم، يهمهم في المتن أن يحيلوا من يزعمون أنهم يتحدثون باسمهم وعلى أعلى مستوى، كما لو أنهم موجَّهون إلى كروشهم، إذ ينطوون داخلها، ليكون لدينا تاريخ بطني/ هضمي، هو المرئي في الاحتواء الكرشي الذي لا يتوقف عند حد معين، لأن المسألة لا ترتبط بخاصية الشبع، وإنما بذلك النهم الذي يزيد في سعة مضطردة في الكرش، بحيث لا يعود حامله يرى أمامه سوى كرشه، مع افتقاد الملامح جرّاء التوحد معه وانعدام مسافة الرؤية المطلوبة، ولا يعود العالم أنَّى التفت سوى الكرش الذي يقوده، ليصبح معادلاً كرد” ” شياً، حتى ” يفقع، ويلوّث الأرض والسماء بمدخوله !

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…