ابراهيم محمود
ما علاقة هز البطن أو حتى المؤخرة بالفكر الذي يعرف بثقافة شعب ورقيّه خلاف الأول من النواحي كافة ؟
لعل من أولويات التعامل مع الآخر ، هو التعريف به في موقعه الذي يستحقه، بالطريقة التي تتناسب وهذا الموقع. بالمقابل، فإن العلاقة تستوجب إنارة صورة الآخر هذا من خلال القريب منه والمطَّلع على أثر أو أكثر له، أو الممتلِك للأدوات المعرفية التي تعمّق هذه العلاقة.
ما لفت نظري، هو ما فوجئت به، وأنا أتابع على قناة ” روداو الكردية ” برنامج ” Roja Rojîn: يوم روجين “، وروجين مطربة كُردية ولها أسلوب خاص في الغناء: اختيارَ كلمات وأداء، سوى أنها عندما تتجاوز دائرة كونها مطربة، وتقحِم نفسها، كما يقحِم أنفسهم من سعوا إلى ذلك، في مجال لا يمت إلى عالمها الغنائي بصلة، فإن في ذلك الكثير من الاستخفاف بالموضوعين: الغناء والفكر معاً.
ولربما، يوجد استثناء لحظة بروز اهتمام ثقافي: معرفي، نقدي عند المطرب، للقيام بهذه المهمة، رغم أن ذلك غير مقبول في بنية العلاقة سالفة الذكر، ربما، كان فيما تقدم، بعض العذر، وإمكان القبول، أما عند انعدام هذه الميزة، فتلك طامة كبرى.
ولا بد أن غيري أيضاً، تابع لقاء المطربة روجين ” وهي من كردستان الشمالية “مع المفكر التركي، وصديق الشعب الكردي الكبير اسماعيل بيشكجي يوم السبت بتاريخ 8 تشرين الثاني 2014، الساعة التاسعة صباحاً.
ما الذي يربط روجين ببيشكجي ؟ هل لأنها تعرف التركية فقط؟ هذا لا يشفع ؟ ألا يوجد من يقوم بهذه المهمة كتاباً، مثقفين كرداً في تركيا، احتراماً للرجل الاستثنائي والمفكر الاستثنائي في نطاق الصداقة الاستثنائية للكرد شعباً وقضية ومصيراً ؟
الرجل، كما يبدو، بادي التواضع، وهو متواضع بشكل لافت، كما تابعته عن قرب قبل عدة أشهر في دهوك، وكتبت عنه في أكثر من منبر ثقافي : كردي وعربي، وأصدرت عنه كراساً عن ” مركز الأبحاث العلمية والدراسات الكردية- جامعة دهوك” تحت عنوان ( اسماعيل بيشكجي: الذات مضاءة بالآخر- تموز 2013 “، قبل رؤيته عن قرب، والكتابة عنه ليست سهلة ، باعتباره مفكراً وعالم اجتماع وسياسياً، وهذا يتطلب إحاطة كافية لمقاربته، وكتابتي لا تعدو أن تكون محاولة تعريف، واعتباري قارئاً له لا أكثر.
أما حين تنبري روجين، وتتحدث بعبارات إنشائية تقرأها من الورقة، وهي ليست من ” صنعها ” وكذلك، حين ترحّب به، وتسأله، وتستوقفها القراءة المتقطعة أحياناً من الورقة، وهي غير متمكنة، والأسئلة ذاتها مكتوبة، ثم تهز برأسها، وتبدي إعجامها به وهو يسترسل في الكلام، وتهش وتبش تعبيراً عن إعجاب مواز، وتوحي إلى أنها تعرف كل ما يقول، فهذا أبعد من حدود اللامعقول.
للتنويه، وكما تابع غيري هذا البرنامج، كان بصحبته الكاتب الكردي ” ابراهيم جوكلو “، وهو يضيء عالمه، متحدثاً عن تعاون بينهما على صعيد نشر الثقافة الجادة في تركيا، واللافت أكثر، حين تنهض روجين ولأكثر من مرة لتغني لبيشكجي” كفاصل منشط “، وتهز بخصرها بثوبها الكاكي، وهذا يستدعي سؤالاً من نوع: ما علاقة كل ذلك بحوار جاد، ولا يمكن إلا أن يكون جاداً، مع مفكر جاد ؟
المؤلم، وهو متوقع، حين كان الكاتب جوكلو يأتي على ذكر بعض الأسماء، وروجين تتابع بطرب وكأنها تدرك بنية كل ما تسمع، ولكن المتردد خلاف المرئي، كما في ذكره للراحل نورالدين زازا، واستفهامها عنه، وإرباكها، ليحدد هو بأنه مثقف كردي…الخ.
وما يدخل في نطاق التعالم، أو ادعاء العلم، حين كانت روجين تفصح عن أنها مطلعة على عالم بيشكجي، وأن الاستفهام حول كلمات معينة من باب ” كيف فاتها ذلك ؟ ” وليس لأنها غير مدركة لهذه وتلك .
هل نريد أن نحوّل الفكر إلى قضية فرفشة ونعنشة ؟ أم أننا نريد، وككرد، أن نظهر كيف نستطيع الإساءة إلى الثقافة الفعلية في وضح النهار وعلى الملأ؟ كما لو أن الثقافة ترف، والفكر أول الترف، وروجين ليست المثال الوحيد، فهناك أخريات بالمقابل، لا داعي للتذكير بأسمائهن وخلافهن، كما لو أن الإقليم يعدِم وجود كتاب ومثقفين يمكنهم القيام بهذه المهمة !
في الحالة هذه، علينا ألا نلوم الآخرين دائماً، لأنهم ينظرون إلينا بعين ” ضيقة ” ومن ” فوق “، كوننا نعرّف بمن هو ” فوق ” بالفعل، على أنه ” تحت “، بمعنى أن قضية الثقافة، والفكر الفعلي في المتن، لا شأن لها كما يرى الآخرون، وليستمر النعي الثقافي الكردي فينا ومن خلالنا..