ابراهيم محمود
صدقوا هذه المرة ما هو مكتوب هنا: ابراهيم يوسف يقاتل الآن في كوباني! لقد رأيته يلبس الزي الكُردي، كما لم يعمل من قبل، وقلت دون تردد: لقد ” فعلها ” ابراهيم يوسف الكردي، وأظن أن كثيرين رأوه في جهات كوباني الأربع، ولعلهم فوجئوا به، لعلهم، وهم يعرفونه جيداً، ساءلوا: كيف لهذا الستيني أن يحمل السلاح بكلتا يديه وهو يصوّب على الأعداء الداعشيين ومن هم في إثرهم؟ لقد سبقوني في سؤال التعجب، سوى أنني، وكوني أعرفه عن قرب، رددت مراراً: كيف غافلني ؟ لقد غافلني وانتهى الأمر. لم تكن عادته في التسلل خارج المكان الذي يقيم فيه وبالطريقة هذه عابراً جهة عربية ” الإمارات ” أو أجنبية أخرى ” ألمانيا ” ليؤمّ جهته الكردية، أعني ليعيش تطهراً في كردستانه. ثمة خطأ في التحرك. تراءى لي أنه شخص آخر” ألا يخلق من الشبه أربعين ؟ “، ولكنني أمعنت فيه النظر: إنها خطواته عينها، يداه، شارباه الرابضان على مشارف الفم، شامته الأنفية المخضرمة، شعره المجعد نسبياً، ثقل خطواته، لكنه برز أكثر خفة وثباتاً في التحرك، حيث التبس الأمر علي هنا، سوى أن نظراتي أكدت لي أنه هو هو بشحمه ولحمه. هتفت: ابراهيم يوسف مقاتلاً في كوباني ؟ أعتقد أنه لم يخبر أحداً في تصرفه هذا، خلاف معهوده. لكنه أحسن صنيعاً هنا.
لعلّي استرسلت في الكلام وأنا أتحدث عن ابراهيم يوسف في ظل العنوان السالف ذكره، ولأعترف، متخلياً عن ” وقاري ” وربما عن الكثير من تحفظاتي، ولأضف، عن تكتمي في نطاق حسد ما، غيرة ما، كما لو أن ذائقتي سابقتني وسبقتني وأعلمتني بالقول: ثمة استثناءات، لا يعود المعهود معهوداً، وكان ما كان.
في نصه الشعري، أو قصيدته المنثورة، والمنشورة في صحيفة ” العرب ” التي تصدر في لندن” بتاريخ 9 تشرين الثاني 2014 “، والمعنونة بـ” كوباني.. أغنية الحفارين “، كانت غفلة ابراهيم يوسف الكاتب والشاعر عن نفسه اليومية، عن تلكؤ خطواته أحياناً، وعن تردده وحتى تلعثمه وحبسته اللفظية أحياناً، وقد برز أطول من قامته، بما لا يقاس، أعرض من تكوينه الجسمي بما لا يقاس، أكثر فصاحة بما لا يقاس، طليقاً، متحرراً من ظل ابراهيم يوسف حتى الساعة الثانية عشرة ليلاً، لأنني قرأت هذا النص الكتاب الديوان في الصحيفة تلك إثرها، وأنا مهيء نفسي للنوم، سوى أن العنوان رمى بي في نهر مضاء منعش، أبصرتني كلّي الأعين والتذوقات. صدقوا أولا تصدقوا، وأنا هنا أصادق نفسي المطمئنة في القول، أن ما كتبه ابراهيم يوسف، يمثل حدثاً أدبياً يحتفى به، كما لو أنه مقاتل في كوباني الكردية حقاً، وفي صحيفة عربية، ويا لها من مفارقة الزمان والمكان! لا بد أن المنشور المنثور أرهق ابراهيم يوسف كثيراً، وأنا أدقق في كل كلمة. لا تستغربوا لحظة سماع من يقول، وهو ليس أياً كان: الإبداع ليس رهينة العمر، سوى أن المتقدم في العمر وهو يبدع يشدد على أن الإبداع هذا يقلب المعايير، ويعلّم من تأطروا أو تقولبوا، وابراهيم يوسف أخرجني من نعاسي النسبي، ولعله دفع بي إلى الاعتراف بالقول: لقد سبقتني في الذهاب إلى كوباني وأبعد منها يا ابراهيم،لتقاتل، وتؤرخ للمقاتلين، تؤرخ لتاريخ كردي، وجغرافيا كردية، للقتلة والإرهابيين، تؤرخ لأهلك: الأب والأصدقاء والأحباب، من كانوا أحياء حتى الأمس ” حامد بدرخان “، من عشت معهم، ما رأيته في مدن كردية ” علينا ألا نأتي على ذكرها ” لإبقاء المتعة مفتوحة، أرختَ للحفارين الخاصين، وللأحياء الذين سيحيون حياتهم، وللأموات الذين سيموتون في صمت، أو سيعيشون حياة لا توهب لأي كان بسهولة.
” كوباني.. أغنية الحفارين ” لا تقرأ بسهولة، لا بد أن يكون قارئها كامل الجسد يقظاً، القراءة بالأعضاء كلها، لا بد أن تكون لديه ” معدة ” قراءة، مع مائدة كاملة الدسم وتغوي بالإقبال عليها كاملة!
أذكر هنا أن الأميركي هارولد بلوم قال في شكسبير( شكسبير يقرؤك بشكل كامل أكثر مما تقرؤه )، أهي فلتة لسان، مساومة وجدانية، إن قلت هنا، هنا( إن هذا النص يقرؤك بشكل كامل أكثر مما تقرؤه!)؟
أقول ذلك، ليس لأن ابراهيم لم يكتب نصاً جميلاً، وإنما لأن ما كتبه بروعته من ألفه إلى يائه، يمثّل اكتشافاً آخر، ولعله في الغفلة هذه عاش ” قانون ” الإبداع الخاص، وقد أضاء الليل.
ليس في الإمكان التوقف عند كل مفردة، وهي مستحقة، كما هو الاحتفاء، كما هي النشوة اللاشعورية بالنصر، وإعلام كل ذرة تراب كردية، بألا داعي للخوف من وقاحة صندل الإرهابي الإرهابي، وأنا أورد بعضاً مما قرأت، وشعرتني معه، أعني في إثره، وهي ليست عادتي غالباً:
( لا تزال مفردتي على آلة الحفر بخطّي: ذكرى، مضافة لاسمي محفورة، في المكان ذاته، راحت عني إلى قرى ومدن كثيرة، وشتت في كوباني. )
ليكن الوصل بين الحفر هنا، وملامسة الماء في الأعماق هناك، ليكن سفر إلى الأعماق. أن تحفر هو أن تتجاوز حتى صلاحيات الجسد الدنيوي، وتتوحد مع رؤاك وما أتتك به من طيبات المنتظَر:
(على أكتافهم غبار المكان، جاؤوا في مواعيدهم-إنه الصيف ذروة غيظ وقيظ- دون أن يستبطئوا نجمة، أو طائر كركي، اللهاث، وقرقعة المعدن، وصوت المحرك، ورائحة المازوت، في عنفوان هدأة الأمسية، علاماتهم أكثر من أن تعد هنا، أخاديد طويلة يتركونها، أنّى حلّوا، يوسّعون دائرتهم، بعد أن ضاقت بهم الثلاثية، في وجهاتها الثلاث، أو أكثر من طريق خارج: الجزيرة، وعفرين، إلى هولير، أو السليمانية، كأن كوباني ممر للمجرات المائية، تخرجها من جوف المكان، هدايا من رذاذ لا تفتأ تشير إليه. هم أنفسهم، الثلاثة، قبل أن يمضي بهم الاطّراد، ليصبحوا ستة، ومن ثم تسعة، أو اثني عشر، يزدادون إلى رقم أكبر أكبر في الفلك واللوغاريتما. )
هل أنتم جادون معي فيما أثرته، أو اقتبسته؟ لا يهم ما تقولونه، أو ما يمكن أن تقولوه: قراء أو باسم النقاد، إذ إنني أقول ما لا يمكن إلا أن أقوله اعترافاً بهذا الصنيع اليوسفي. ابراهيم يوسف لا يشبه إلا ابراهيم يوسف، ولا بد أنه فيما كتبه هو ابراهيم يوسف اليومي الذي يغبط ابراهيم يوسف المبدع اللايومي طبعاً:
( كوباني الآن تحفر على ريقة مختلفة
تحفر الخندق
تحفر القبر للعابر في عطن مفكرته
يظن الاخضرار بوابة لمخادع الحوريات
يظن ينابيع الماء السلسبيل المنشود
هو غارق في قراءة الأضلولة لا مخرج له منها
وهو يسير وفق الكروكي المخطوط
لم يكن يدري أن هنا غير الماء
جحيم كردي لم يذكر الجغرافيون استحالة معبره غزواً
حورية الكرد شأنها مختلف
تترك رصاصتها الاحتياطية
لجمجمتها قبل أن يصلها الرجل المستذئب
أو تهندس جسدها في “مشتى نور” في مواجهة السعير الموقوت
– تلك هي صانعة الملحمة
– ذاك صانع الملحمة!).
ثمة ما يشبه الرؤيا، ولا بد أنها الرؤيا: هو الذي رأى كوباني، كما لم يرها من قبل، كما لم يرها أحد سواه على طريقته، أكثر من المقاتل الكردي الذي يتوحد مع قدره المقدام، لأنه يعيش الاتجاه الذي يلزمه بالنظر، وابراهيم متعدد الاتجاهات في التسديد والإصابة المثمرة، وما يخص الحفارين، إذ تترى الرؤى:
( الحفارون، أنفسهم، في مهمة أخرى، يخرجون الحجارة لمنجنيقاتهم، في ظلِّ الضلع الرابع، المنغلق، أصلاً، لم يغادروا مكانهم، آلاتهم في صور مموّهة كما عربات الدفع، والمدافع، والدبابات، تصدر أصواتها، تستعيد أسطورة “البرزاني”، وهو يوعز بإشعال الفوانيس، تنتقل بها الجحاش، كما وقع آباؤهم من قبل في المصيدة، في الجهة المقابلة، أخطأ هؤلاء، هذه حفارات يستقر منقار هدهدها على الماء، يستخرجونه، لا نفط في المكان، وإن كانت بوصلة النفط بين يدي الحفارين، أمناء عليها، وعلى خرائطها، واثقين أن معجزة تتم، مادامت المدينة الصغيرة تهز أربع جهات الأرض، وسلسلة قاراتها، تشير إلى من دلّوا هؤلاء إلى حتوفهم ).
يحضر التاريخ، تتأبطه الجغرافيا الكردية، أهلها النجباء والأصفياء والمقاومون والماضون إلى أعالي النجم، مسقط رأس الشهداء الذين يستشهدون ولا يموتون، وإذ يموتون يمنحون الأحياء حيوات مؤمنة، بقدر ما يحضر الشهود بلغات شتى، ويسمع سماسرة الموت والحرب والمرابون والملثمون بلغات شتى، ويسمعون:
( الحرب أرجوحة، وهو ما يعرفه الحفارون، يكنسون المكان، من هوام الرايات السوداء المتساقطة، من سقط اللحى الاصطناعية، متعددة المشارب، لا بأس لكل ما حدث، ما دامت الصياغة الأخيرة للملحمة، لن تكون إلا على أيدي النابت من كبد التراب، لا المنبتّ، في مصادفة تلحق بسابقاتها.) .
ويوزع ابراهيم يوسف ظلاله في جهات كوباني، وصدى ظلاله يعم جهاتها وإلى الأبعد الأبعد منها كردستانياً طبعاً، ماضياً إلى ابراهيم يوسف الذي يعيش مخاضات أخرى في روحه، حيث لا يسعه الوقت، مسابقاً زمنه، داخلاً في عهدة ابراهيم يوسف الكاتب والشاعر، والأصح: ابراهيم يوسف الذي يغفل مؤانسيه لضرورة الإبداع، وأنا بدوري أنسحب إلى الخلف، أعيش مع الأثر المحتفى به، بيني وبيني، وأنا أسلس القياد ليقظة ليست نوماً، إنما هو الحلم العائد إلى تيمة اليقظة، وأنا أسافر إلى كوباني، أعني أمضي إليها تحت أنظار خاصة، وأنا اعيش كوباني، ليست كما كانت من قبل، إنما كوباني المتباهية باسمها الكردي بجدارة، وهي تشمت الأعداء، وهي تمرّر براحاتها المائية على كبد كل مقاتل كردي حرّى !
لا بأس أن تقولوا: يا للمديح المفرط ! نعم، هو مديح مفرط، وسوف أفرط في مديح أي نص يخرجنا من دائرة التقطع الزمني، ورتابة المقروء، وخزعبليات الصور المحنطة، ووباء المجاملات .
فقط، اقرأوا كوباني.. أغنية الحفارين، وأنتم لا تعرفون ابراهيم يوسف، ستعرفونه جيداً.. حينـ…ها !