ابراهيم محمود
خيّم مناخ حِدَادي غريب غربةَ ما نحن فيه، على بيتنا الدهوكي المستأجَر هذا الصباح ” 9كانون الثاني 2015 “، جرّاء نفوقِ ” أم الرحيل الأبدي ؟ ” لطائرين من طيور الجنة، كانا مودعين قفصاً موضوعاً في إحدى غرفه الخلفية، وقد جيء بهما من قبل أحد الأقارب ذي الشغف بالطيور.
راهناً يقع بيتنا الدهوكي المستأجر في صدر الجبل المطل على المدينة التي تظهر في موقعها المرئي كما لو أنها فاتحة فاهاً ” وهي محصورة بين مدّين جبليين ، لتنحصر المدينة في منخفض، غور أرضي “، وللموقع ضريبته، إذ عدا أجرته، عدا تعدد غرفه التي تتناسب وعدد أفراد الأسرة، ثمة ضريبة البرودة، وخصوصاً في الشتاء، وأكثر منه حين تهب عواصف ثلجية مرفَقة بالبرد، وضريبة أكثر نفاذ استحقاقات جهة الكلفة من وطأة الحر الصيفي، ناحية كيفية التصرف، إذ لا يمكن للـ” اسبليت ” ، وحدها تأمين الدفء المطلوب، حيث الكلفة باهظة جداً جداً، وأجهزة التدفئة على المحروقات ” الكاز ” بدورها تتطلب تكلفة ثقيلة العبء، وحصراً لمن تكون وارداته المالية محدودة.
ولعلم من يعلم ومن يريد أن يعلم، فإنه في وضع طوارئي كهذا، يتم التركيز على نقطة مدروسة للتجمع ” غرفة في المجمل “، ولتكون الغرف الأخرى كما لو أنها مثلجات أو مبرّدات مفتوحة، يصعب الجلوس فيها، وفي غمرة الاستنفار تجاه الموجة الباردة والثلجية كذلك، تُرِك أمر الطائرين الجنتيين، ولتكون النتيجة الصادمة: نفوقهما، وللدقة المجازة هنا : موتهما، رحيلهما الأبدي !
نعم، إني هنا، على دراية كاملة نسبية، أن هناك أرواحاً بشرية تُزهق، أن هناك بشراً مهجرين، وفي هذا الوضع بالذات مسلّمو أمرهم رغماً عنهم لإرادة قدرية بالتأكيد، أو يكابدون لسع البرد الخيمي، أو يعانون وطأة – ولو- الحد الأدنى من الحاجات الضرورية، هنا وهناك.. كل ذلك أسلّم به، سوى أن للموضوع منحى آخر، وهو إمكان مد الشعور ” الإنساني ؟ “، تجاه الأبعد من الدائرة الضيقة الخاصة بالإنسان، حيث ثمة كائنات تملك أرواحاً وليست بشراً، ولكنها تتعرض لأدواء أو وضعيات مميتة أحياناً، وربما كان ” موت ” الطائرين داخلاً في نطاق البلبلة التي يعيشها اللاجىء أو المهجّر أو المقتلع بطريقة ما من مسقط رأسه أو محل إقامته الرئيسة، ومن يسهِم بطرق شتى في توفير مثل هذه الأسباب المؤلمة لا بل والقانصة روحياً .
كانت رؤية الطائرين وهما يتلاصقان في العش الخسبي الكروي والمزوَّد بما اعتبرناه كافياً لحمايتهما من البرد وعواديه، وقد استحالتا جسمين متصلبين من شدة البرد، مثال إيلام روحي فعال، لا بل وثمة من سفك دموعاً على هذا المنظر، المنظر الذي يحفّز على فتح المجال لسرد تداعيات: كيف كانت اللحظة الأخيرة لهما وهما ينازعان البرد القارس، كيف كان حسهما الحيواني الطيري حينذاك، كيف لفظا أنفاسهما الطيرية الأخيرة وهما يحضنان بعضهما بعضاً ” عاشقاً ومعشوقاً “، من ” مات ” قبل الآخر؟ أم أنهما ” ماتا ” معاً ؟
نعم، لعل المرئي والصادم، كما تقدم، استمرار مفتوح لعالم الغربة المفتوحة وبتفاوت بالنسبة للاجئين، ولما لا يمكن توقعه البتة، حين يضيق المقام الفعلي بصاحبه، وهو ليس في مستوى الصاحب ليحسن التصرف بالمقابل واقعاً، تحت وطأة الحالة المادية قبل كل شيء، وحين يكون المؤهَّل المعرفي عبئاً إضافياً على صاحبه، وهو ليس في موقع المعرفة التي تتطلب ارتقاء بالنفس إلى مستواها في تدارك المستجد .
لعل المرئي يفتح أفق النظر الروحي المتهالك والعالق في الجسد المعنَّى طبعاً، ويوسع حدوده، وفي لحظة زمنية معينة، لمقاربة وضعيات كارثية في المحيط الجغرافي، بالنسبة لبشر مرميين في عراء الله ومن يتحدث باسمه وهو الفاعل الإجرامي في توفير وضعيات مرعبة كهذه في ” سنجار، ومحيط ” كوباني ” وخلافهما، وما كان يعاش سابقاً، في الهجرة المليونية وغيرها، قبلها وبعدها أيضاً، وما يعني ذلك من وقوع اللامتوقع الكارثي، وانشغال المرء بالحد الأدنى مما يعنيه، أو يتكفل ببقائه على قيد الحياة.
لعل المشهد المؤلم للطائرين، يخرجنا أكثر إلى ما هو مؤلم أكثر، وفي الآن عينه أكثر، يحفّزنا رغماً عنا على نسيان المرئي المؤلم هذا، نسيان رديف التذكر وقوعاً في مصيدة نزيل مشهد متوتر آخر في سلسلة مشهديات الطاغي، لأن التحدي الطبيعي يلتقي مع التحدي البشري المميت أو المريع، أو المخيف، والتخوف من الآتي، فينسى من يجد نفسه أكثر إحاطة معرفية ونفسية بما يجري من نكبات وتنكبات ومآس ٍ، حتى نفسه، ويعلن حالة الطوارىء، ليكون في مقدوره احتضان صغاره أو أهله، وربما يكون هو جرّاء هذا الإجراء ضحية هذا المستجد النافذ بصدمته، وفي غفلة ما، أو ينتهي أمره بعيداً عن أهله ودياره …
دهوك- 9-1-2015 .