إبراهيم اليوسف
لا أدري هل أن الكاتب السوري الكبير حنا مينة” 1924- “، وهو يتابع ” الثلج الكبير” الاستثنائي، الذي تساقط، على نحو مفزع، هالك، مميت، في عدد من الأمكنة التي يعيش فيها مواطنوه، سواء أكان ذلك تحت سقوف الخيام المتأهبة للطيران، المزروعة على الحدود، بين بلده، وسواه، أو خلفها، لا فرق، بل ومن يعيشون ضمن حدود بلده-أيضاً- بعد أن تهدمت بيوتهم، وصاروا فجاءة، في قلب العراء، قد خيل إليه-والروائي أبو الخيال الخلاق- أن يغير عنوان روايته الشهيرة التي قرأناها: الثلج يأتي من النافذة”مع سلسلة رواياته المهمة، التي فتحنا عليها أعيننا، وطالما تباهينا بقراءة أعمال من اعتبرناه امتدادا ً لروح همنغواي العظيمة، ليكون عنوانها” الثلج أيضاً يقتل الأطفال”، بعد أن أجهز الثلج على عدد من الأطفال، تؤازره سلسلة المفردات المكوننة، الشتائية والتشريدية، من زمهرير، وعراء، وخوف، وأوحال، وعواصف، وسيول جرف أسرَّتهم، وصقيع جمَّد أنفاسهم.
مؤكد، أن إيراد اسم الروائي مينة-هنا- ليس إلانتاج استذكار اسم روايته المومأ إليها، لأنه بعد أن بلغ سن الشيخوخة قد لا يستطيع إنتاج ما هو جديد، وإن كان قد قال قبل سنوات في ندوة جماهيرية كبرى حضرتها، في مدينتي الأم قامشلي، أن أمامه مشروع كتابات جديدة، وهو ما يؤكد حلم المبدع في تقديم المزيد، متحدياً حتى نذير الشيخوخة، و حيث أنه وفي مثل هذا الحال، يتوقع من صاحب أية قامة عالية، التعبير مقالياً، أو شفاهياً، عن موقفه عما يدور حوله، كما هو بعيداً عن أية أهواء أو منافع، وهو شأن كل من يعرف كيف يوجه الكلمة في سياقها الصحيح، لئلا تكون الكتابة مجرد ترف، جمالي، أو فانتازي، لا شأن له، في ميزان الفائدة، أو الوظيفية.
الرواية الجديدة، وليس ضرورياً أن يكون كاتبها الروائي الكبير مينة، ذاته، بل وليس ضرورياً الالتزام بالعنوان المقترح، على نحو حرفي، كل ما يهم أن يكون من بين مفردات عنوانها”الثلج-المخيمات أو العراء- موت الطفولة..إلخ، حيث أن الزمان واضح ومحدد، والمكان محدد، وأبطاله الأطفال الضحايا معروفون، وهم يلفظون أنفاسهم الأخيرة، ليس على مرأى آبائهم فقط، وهم يذوون معهم، بذوي فلذات أكبادهم، نتيجة تهاون عالم كامل، بل وعلى مرأى هذا العالم كله، بعد أن غدا اللاجىء بحاجة إلى تأشيرة مرور إلى بيته، أو أي مكان آمن، دون جدوى.
الأجواء الكابوسية التي خيمت في محيط محطات هاتيك الأسر، المشردة، المهجرة، المجوعة، كافية لكتابة مليار رواية، مادام أفرادهذه الأسر لم يجدوا أعشاشاً دافئة، ولوصغيرة، بحجم الأجساد الغضة، المبللة، المتصقعة، وأن لهفة الآباء والأمهات الذين ينفخون هواء رئاتهم-عبثاً- على وجوه أطفالهم الصغار، في لحظات الاحتضار، دون أن يتمكنوا من كسر شوكة الجليد، المتواطىء مع ظروف “المهجرين” هرباً من براثن الموت، والقتل، وتوقاً إلى الحياة، ليخففوا من دائرة الثلج، المتقرمز، الطافح برائحة البارود، والدم، والآهات المجهضة في العراء اللامتناهي في هذا المكان، بكلا ردائيه الجديد والقديم.
موت الطفولة، بهذا الشكل التراجيدي العظيم، استفزاز ليس للكاتب، أو الشاعر، أو الفنان، فقط، بل هو استفزاز لأي ضمير نظيف، يقظ، يتلقى ما يتم كسفود ملتهب في الروح، ولا يهدأ له بال، طوال هذا النفير، ليضع حداً لهذا الفخ الأنسي الرهيب الذي يصطاد الأرواح، وبات ضحاياه الأطفال رقماً جد كبير، كما ذووهم، كما أمكنتهم، وطيرهم، وحيوانهم، وشجرهم، أجل، إنها جميعها استفزازات قد تنعكس في نصوص مشاريع روائية مقترحة، لتكتب بحبر من الدمع والأسى.
إبراهيم اليوسف