صالح جانكو
ابراهيم محمود : الغني عن التعريف في مجال الدراسات الفكرية والفلسفية والإنسانية باحثٌ لا يعرف الملل ، أمضى جُلَّ حياتهِ في غُرفةٍ جدرانها مرصوفةٌ بشتى أنواع الكتب ، وفي جميع مجالات العلوم والمعرفةِ باحثاً فيها متجولاً بين صفحاتها ، يحصدُ المعرفةَ ، حتّى غدا باحثاً ، ومنتجاً للفكر والمعرفة متخصصاً في عدةِ مجالات.
لن أطيل عليكم الحديثَ عن جوانب شخصيتهِ ككاتب وباحث وصل الى درجة انتاج الفكر ، وإنما ،سأحاول أن أضيء جانباً أعتقدُ بأنَّهُ لم يأخذ نصيبهُ من الإضاءة والاهتمام ، ألا وهو الجانب الروائي عندهُ .
فعلى الرغم من قلة الروايات التي كتبها وهيّ :
ـ (أحدهم يتغزل بزوجتي) وهي صادرة عن دار الينابيع عام /2008/ وتقع في 230 صفحة من القطع المتوسط.
والرواية الثانية هي: رواية (المنغولي) ” مجهول الريح” الصادرة أيضاً عن دار الينابيع عام /2009/ وتقع في 320 صفحة من القطع المتوسط.
والرواية الثالثة هي : (اعترافات آدم) وهي على شاكلة نص مفتوح .
سأكتفي الآن بالحديث عن رواية ( المنغولي ) ” مجهول الريح ” هذه الرواية التي يبدأها الكاتب بالتعريف بالمنغولي ، حيث يقول : “واحدٌ هو المنغولي ـكثيرٌ هو المنغولي …! أنّى ذهبت يمكنك ملاقاتهُ أنى سعيت يمكنك الجلوس اليه ، ليس لديه ما يقوله كثيراً ، المنغولي مقيمٌ في العالم ، حاضرٌ بجسدهِ …المنغولي الذي يُضحكُ سواهُ المنغولي الذي يبكي سواهُ ،الذي يستفهم سواهُ المنغولي الذي فوجئَ الجميع به وصار حديث الجميع……في الوقت الذي ينسون انهم يقولون فيه مالا يدركون انهم يقولون في أنفسهم وإن لم يسموه حيث الأسماء تتنحى وتبقى الألقاب لسانُ حالهم ومقتلهم “.
كما يبدأ بالتعريف بالقرية التي يعيش فيها المنغولي ، والتي سميت فيما بعد باسمه ، والتي اتخذها الكاتب مكاناً لأحداث روايتهِ حيثُ يعتمد على المتناقضات في التعريف بهذه القرية .
” كلُّ من يقول عن هذه القرية بأنّها ليست قرية هو واهٌ تمام الوهم ، كلُّ من يعتبرها قرية هو مخدوعٌ تمام الخداع ، وكلُّ من ينفي الحبَّ فيها هو متحاملٌ تمام التحامل ، وكلُّ من يلغي الحقد الأعمى فيها هو منافقٌ تمام النفاق ، وكلُّ من ينكر أنَّ لها تاريخاً هو دخيلٌ دخيل ، وكلُّ من يؤكد بأنَّه لها تاريخاً هو مزاودٌ وهكذا …كلُّ من لا تأخذه الحكمة بعيداً إن دخلها وخرج منها هو سطحي دون نظر ، وكلُّ من دخل القرية وخرج منها وهو غريب عنها ثمَّ تأخذهُ الحكمة بعيداً هو ناقص الخبرةِ صراحةً ، ليصل على لسان الحكواتي الذي يقول : ليس فيها ما يُسِرْ ، وفيها كلُّ ما يصدم ويُسر في بعض الأوقات ، كأنَّ الذي يقيم فيها معاهدٌ نفسهُ في أن يكون هو وليس هو …!
هذه القرية التي يحدُّها من الشرق وادي الجن …! ومن الغرب تلَّةُ الثعالب ومن الجنوب الريح الصفراء ، ومن الشمال نهر الآفات …!
يبدأ الكاتب الرواية بأن يسمي المنغولي “أزو “…! والذي يقول الكاتب عنهُ بأنَّه من أكثر الأسماء التي يمكن التوقف عندها ، فهو يعني أكثر من شيء ولا يعني شيئاً بالمقابل ، يخصُّ ذات المرء ولا يقال هكذا …” وكان ما كان ”
إنَّ اختيار اسم أزو للمنغولي والذي يعني باللغة الكردية ” أنا ” وكأنَّهُ يوحي لنا جميعاً بأننا هو ، وحينما نناديه كأننا نخاطب أنفسنا وحينما نسخر منه ، وكأننا نسخر و من ذاتنا التي لا تختلف عن هذا المخلوق.
وُلِدَ المنغولي وسط جوٍّ من السُّخط والرَّفض والاستهجان والسُّخرية من محيطهِ هذا المنغولي الّذي فاجئ الجميع بقدومهِ جاعلاً الجميع في ذهولٍ واندهاش من هذا الكائن الذي بدأ يصدم وجودهم وكأنَّهُ يقول لهم بأنَّهُ هو حقيقتهم الخفية التي يشعرون بها ولا يفصحون عنها .
تبدو بيئة الرواية بيئة كردية وذلك من خلال اسم ( أزو ) كذلك حين يأتي ذكر اسم ممهِ آلان على لشان احدى الشخصيات .
أطياف أو مجموعة رموز ، حيثُ يلاحظ القارئ بأنَّ الكاتب قد أدخل أغلب هذه الشخصيات رغم كثرتها لا لتكون غاية بحد ذاتها وانَّما لتكون وسيلة ٍ لتفاعل الشخصية الرئيسية في الرواية وهي شخصية المنغولي الذي يبدو هو أيضاً وسيلة يسخرها الكاتب ليكشف بها عمَّا يدور في تلك البقعة المهملة من الأرض واللامسماة ، والتي سُميت فيما بعد بفرية المنغولي الّذي يطلقُ ريحاً وأيُّ ريحٍ يطلقها هذا المنغولي .
فالشخصيات جامدة لا تنمو مع الأحداث و لا تتغير و ليست ذات تأثير أو فعالية لذلك يمكن إضافة العديد منهم إلى الرواية أو إزالة أيٍّ منهم دون ـن يترك ذلك تأثيراً مهماً على مجرى الأحداث سوى بعض الشخصيات الرئيسية مثل (العجوز المعمرة ) التي أعطاها الكاتب فسحة أكبر من باقي الشخصيات التي ترد في الرواية و كأنها تلميحات عابرة هذه العجوز التي أدخلها الكاتب إلى الأحداث و كأنها ضمير حاضرٌ يراقب الأحداث و يرتبها حسبما تشتهي و ذلك من خلال عدم اكتراثها بأحد حيث تقول كلمتها و تمضي غير عابئة بما سيجري بعدها شخصيتها التي لا يعرف أحد من هي و لماذا تعيش وحدها فهي الحاضرة و الشاهدة على كل من رحلوا وكل من هو حي و حتى الذين يأتون لها أثر في تحديد مستقبلهم هذه الحاضرة الغائبة .
أما بالنسبة لبيئة الرواية فهي بيئة مختلفة بائسة فقيرة مهملة منسية جاهلة مملوءة بالخرافات .
أغلب الشخصيات تعاني من عاهة ما :
الشاعر الضرير – المرأة الرئيسية زوجة المعقد الذي يعاني علّةً مجهولة في رجله اليمنى – الرجل القنفذ …. المنغولي الحاضر على كل مشهدٍ من مشاهد الحياة اليومية للقرية و كأنه الضمير المشوه لها و المراقب الصامت لتصرفات أهلها و كأنه يسجل الأحداث على طريقته الخاصة .
إن اعتماد الكاتب على تقسيم الرواية إلى مقاطع فغيره و كثيره و كأنه مرصد يرصد المواقف بين أهل القرية .
حيث يقوم بتقديم بعض التحليلات النفسية و ذلك من خلال رصد تصرفات أهل القرية و كأنه يحاول أن يكون كالمرأة التي تكشف المستور أو ما يدور في خلد أهل القرية كاشفاً بذلك تأثير حالة القهر و الهدر التي تعرضت لها هذه الحفنة من البشر الذين ألقى بهم القدر في أحضان تلك البقعة من الأرض المسماة قريةً حتى أصبح لهم تصوراتهم و أفكارهم و أفرجتهم و أمزجتهم و تحليلاتهم النفسية الخاصة بهم و بهم وحدهم فهم وحدهم من يحق لهم التفكير و التصرف هكذا .
مجتمع يعج بأشباه البشر العاطلين عن كلِّ ما يخص البشر المحكومين بالقدر و ما يجلبه لهم . فكل ما يحصل هو نتاج شرٍ ما أو خيرٍ ما .
وهكذا تصبح الحياة كلها مرهونة و محكومة بما هو حاصل وما سيحصل و كأن كل واحد منهم يعلن تبرأته من المسؤولية عما آل إليه مصيرهم فيما بعد .
من خلال هذه المقاطع القصيرة و كان هناك محاولة لتفتيت الزمن و خلط أجزاءه من خلال التنقل بين أحداث الرواية حيث تبدو و كأنها في بعض مراحلها استذكارٌ لما حدث و في أحايين أخرى يضعك الكاتب في مهب الأحداث و كأنك تعايشها إلى أن يأخذك الخيال إلى توقع ما يمكن حدوثه لكن يفاجئك بتحويل مسار الأحداث من خلال بعض الشطحات الصادمة وكأنه يقول هذه البيئة غير خاضعة لأي منطق أو قانون فكلُّ ما فيها اعتباطيٌ رهنٌ لقوىً خارجة عن الادراك .
يضعنا الكاتب على مسافة متساوية كمن الواقع و الخيال و في بعض الأحيان يجعل هذه المسافة تضيق و تنكمش على ذاتها لدرجة التمازج و الانعدام بحيث يبدو الواقع خيالياً بعيداً عن التصديق و يقرِّب الخيال حيث يصبح هذا الخيال واقعاً معشاً , فعبثية الواقع و الفوضى المستفحلة , كلُّ ذلك يوحي بأنه لا يمكن أن تجد حلاً إلّا من خلال الحلم هذا الحلم الذي تفتقده قرية المنغولي التي ضلَّ الحلم طريقه إليها منذ زمان , كما أنها ضلّت الطريق إلى الكثير من الأمور التي تربطها بالعالم من حولها , ربما (أزو) هو الوحيد الذي يحلم و ربما هذا هو الذي دفع بالكاتب للبحث عن آفاقً جديدة تكون بديلاً عن حالة اللاتمايز التي تعاني منها هذه القرية , هكذا حتى أوقعها الكاتب في لعبة الألقاب التي أتقنها أهل القرية حتى أصبحت بديلةً عن أسمائهم التي باتت لا قيمة لها , ما دام صاحب اللقب يُعرَف من محيطه بلقبٍ هو ذاته … من (فسوة الديك) إلى (عنب الثعلب) إلى (بهنوكو) ….و هكذا استُرخصت الأسماء الحقيقية حتى أصبح التخلي عنها سهلاً بمقايضة رخيصة مع الغرباء بحفنة من الدراهم أودت بذاكرتهم .
هنا نلاحظ بأن الكاتب قد خرج من سياق الرواية التقليدية المستندة على مواصفات معينة في بنائها و اسلوبها و أهدافها و وظيفتها التي في الغالب كانت تسعى إلى العليم و الوعظ و الارشاد المباشر .
كما أنه ابتعد عن اعادة انتاج الوعي السائد و قام باستيراد بعض المشاهد من مخزون الذاكرة ليوحي بها إلى الحاضر و كأن يحاول اجراء مقارنةٍ بسيطة بين ما كان و ما هو كائن و ما ستؤول إليه هذه الكينونة و في الختام و من خلال سرد أحداث الرواية يلاحظ القارء بأنه أمام عدد لامتناهٍ من الأحداث و المفارقات و الاستفهامات التي تجعله يشعر بأنه أمام نصّ مفتوحٍ لا يقف عند نهاية أو خاتمة تطرح مجموعة من الأسئلة التي توحي للقارئ بأنه عليه البحث عن أجوبتها بنفسه .
وبعد الانتهاء من قراءة هذه الرواية لابد لنا من الوقوف عند مجموعة من إشارات الاستفهام التي يلقيها الكاتب بين أيدينا , و التي يضعها كقنفذٍ يتدحرج بأشواكه في وعينا حتى يبقيه يقظاً من الألم .