منظار الدنيا

 بقلم: نوزاد جعدان

عندما غادرت الغيوم وجه القمر معلنة عن  حريته إلا غيمة واحدة بقيت و أبت أن تطلق سراحه , كان روني جالسا وحيدا يفكر بنفسه و بوضعه فهو أمسى كبرميل يكب فيه أصدقاؤه أحزانهم و آهاتهم لا يتذكرونه إلا في المآسي  و الأوقات الحالكة و عندما يصبحون فارغين من مشاكلهم ينسونه  ولا يرى لهم أثر, في ظلمة ذلك الليل وبتأمله وجه السماء قرر قرراه التاريخي بالزهد عن الحياة  و مقاطعة الدنيا, فروني لم يكن في يوم يملك الأشواك, فقط كان يملك دكاكين الزهور بقلبه فالحياة صعبة و لروني قلب مفعم بالأمنيات فله خيال خصب وخيالي يحلم بالخلود و بأن يناطح السماء ويصبح شخصاً فريداً من نوعه فلم يعلم بأن أجنحته الخرافية حرقتها حرارة الشمس ,في لحظات غضبه كان يقضي ساعات طوال على سطح بيته في حي الفقراء الذي يفصله عن حي الأغنياء نهر جميل أصبح قذارة يرمي فيه المخمليون أوساخهم و مسبحا يسبح فيه أولاد المساكين.

ذهب روني إلى السوق ليشتري منظارا و يبدأ زهده عن الحياة  و فعلا أقتنى المنظار و رجع إلى المنزل و أحضر معه طعاما يكفيه لأشهر و وضع المنظار أمام عينيه ليرى بها عالما جميلا و يراقب مساكن الأغنياء  و ينتقل من منظر إلى آخر كشخص تائه في الصحراء يبحث عن غدير ماء يروي به عطشه ,فانبهر روني بالأضواء الساطعة و النوافذ العاكسة للنور و بدا يمسح بمنظاره عالما لم يحلم به  و أخيرا شاهد بيتا جميلا و فتاة رقيقة ترقص على ألحان لم يعزف مثلها إلا قلب روني فسقط أسيرا لهواها و تابع بالمراقبة و لحسن حظه أن الشباك الذي يتسلل منه منظاره هو شباك غرفة الفتاة  فبدأ يراقب تفاصيل حياتها متى تنام , تستيقظ و تأكل…
بقي روني على هذا المنوال مدة من الزمن  يراقب أميرة أحلامه غير آبه بالزمن الذي يمضي والعمر الجميل المنقضي حتى تولد شعور لديه بالغيرة و الحسد في ظروف توفر لها أفضل سبل المعيشة , في هذه الأثناء شعر جاره به و قاموا بجمع رجال الحارة ليضربوا روني بتهمة أنه يتلصص على نسائهم و فعلا ضربوه ضربا مبرحا و رجع روني لمنزله ولم يثبط ذلك من عزيمته و أول شيء تذكره هو منظاره فركض إليه ليتابع نظره بعالم لم يكن يحلم به حتى في المنام  و راقب جميلته و هي تسرح شعرها واقفة عند الشباك  تتأمل العالم كما روني يتأمل جمالها…
عندما شعر أهل الحارة أن روني لم يتأدب و بقى على طريقه سائرا قرروا بناء حائط أمام سطحه لكي لا يمنعوه عن المراقبة   و بنوا حائطا عاليا في وجهه  فحزن حزنا عميقا و اشتدت حالته سوءا و شعر بان الحائط هو حد فاصل بين الجنة والنار و كم كان يتأمله بقلب حزين  و فشعر انه رجع لنقطة البداية ,بدأ يتكلم مع نفسه و يؤنب نفسه ويشعر بان حريته سلبت  فقام وحمل الفأس و بدأ بهدم الحائط  لم يستطع رجال الحارة أن يوقفوه عن عزيمته فلقد تحول لوحش كاسر لم يعد روني السابق الضعيف بؤرة الأحزان فهو الآن متعلق بالحياة و له حبيبة أيضا  و صرخ روني صرخة النصر وزئيرا يهابه من يسمعه معلنا نشوة النصر,  ورجع إلى سابق عهده يتأملها بشغف .  
حتى جاء الشتاء و قرر روني مصارحتها و أن يعلن عن حبه ,كان خائفا مترددا حائرا من هواجسه بأن الفقراء وحدهم يعرفون الحب فكيف للفتاة الغنية أن تفهم !  فهي غنية وتسكن في حارة الأغنياء أما روني فهو يشم رائحة اللحم من أمام المطاعم دون أن يتجرأ و يدخل  و لكن ما كان يعزيه شكله الجميل و عيونه الكبيرة البريئة و طول قامته و تناسق جسمه …
ذهب روني وعبر الجسر الخشبي ليذهب إلى حارة الأغنياء و ينتظر فتاته كي تخرج فهو عالم بكل تفاصيل حياتها أكثر من المقربين لها و انتظرها أمام بيتها ولم تخرج بقي ينتظرها أياما وليالي ولم يرها مضت الأشهر وابيض شعر روني و مازال ينتظر حتى الآن  فهل كانت هي أم كانت طواحين دون كيشوت الهوائية ؟  فهل كانت هي أم كانت سحابة صيف عابرة ؟؟؟!!!…. 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

غريب ملا زلال

أحمد الصوفي ابن حمص يلخص في تجربته الفنية الخصبة مقولة ‘الفن رؤيا جمالية وبدائل لفساد الروح’، وهو كثير الإنتماء إلى الضوء الذي يحافظ على الحركات الملونة ليزرع اسئلة محاطة بمحاولات إعادة نفسه من جديد.

يقول أحمد الصوفي (حمص 1969) في إحدى مقابلاته : “الفن رؤيا جمالية وبدائل لفساد الروح”، وهذا القول يكاد ينبض في…

عبد الستار نورعلي

في الليلْ

حينَ يداهمُ رأسَك صراعُ الذِّكرياتْ

على فراشٍ مارجٍ مِنْ قلق

تُلقي رحالَكَ

في ميدانِ صراعِ الأضداد

حيث السَّاحةُ حُبلى

بالمعاركِ الدُّونكيشوتيةِ المطبوخة

على نارٍ هادئة

في طواحينِ الهواء التي تدور

بالمقلوبِ (المطلوبِ إثباتُه)

فيومَ قامَ الرَّفيقُ ماوتسي تونغ

بثورةِ الألفِ ميل

كانتِ الإمبرياليةُ نمراً..

(مِنْ ورق)

بأسنانٍ مِنَ القنابلِ الذَّرية

ومخالبَ مِنَ الاستراتيجياتِ الدِّيناميتية

المدروسةِ بعنايةٍ مُركَّزَة،

وليستْ بالعنايةِ المُركَّزة

كما اليوم،

على طاولته (الرفيق ماو) اليوم

يلعبُ بنا الشّطرنج

فوق ذرى…

حاوره: إدريس سالم

إن رواية «هروب نحو القمّة»، إذا قُرِأت بعمق، كشفت أن هذا الهروب ليس مجرّد حركة جسدية، بل هو رحلة وعي. كلّ خطوة في الطريق هي اختبار للذات، تكشف قوّتها وهشاشتها في آنٍ واحد.

 

ليس الحوار مع أحمد الزاويتي وقوفاً عند حدود رواية «هروب نحو القمّة» فحسب، بل هو انفتاح على أسئلة الوجود ذاتها. إذ…

رضوان شيخو
وهذا الوقت يمضي مثل برق
ونحن في ثناياه شظايا
ونسرع كل ناحية خفافا
تلاقينا المصائب والمنايا
أتلعب، يا زمان بنا جميعا
وترمينا بأحضان الزوايا؟
وتجرح، ثم تشفي كل جرح،
تداوينا بمعيار النوايا ؟
وتشعل، ثم تطفئ كل تار
تثار ضمن قلبي والحشايا؟
وهذا من صنيعك، يا زمان:
لقد شيبت شعري والخلايا
فليت العمر كان بلا زمان
وليت العيش كان بلا…