إبراهيم اليوسف
بعيداً، عن الإغراق في النقاش حول ثنائية “الغموض” و” الوضوح” في النص الشعري، حيث مارس الشبح النقدي، سطوته، في ما يتعلق بهذه الثنائية، وتغيير مسارات الشعرية، طوعاً لما هو خارج عنها، وتم الاستسلام لتكريس مفهوم إدانة الغموض، مقابل تكريس مفهوم الاحتفاء بالوضوح، ما خلا استثناءات طفيفة، من بينها ما قد يمكن استخلاصه من كتابات القرطاجني التي رأت أن الشعر ليس موسيقا ووزناً فقط، أو الجرجاني الذي استكشف تطور اللغة، ومفردات القصيدة، بالإضافة إلى ابن الأثير الذي رأى في المثل السائر أن المعاني لا يمكن استخلاصها في النص الشعري عبر ما هو تلقيني ببغاوي، بل عبر بذل المزيد من الإمعان، إلى جانب قلة آخرين، لم ينطلقوا في استقرائهم للشعرية من خلال الرضوخ لهيمنة الذائقة السائدة التي تميل عادة إلى الكسل.
وهو ما كان من شأن الاستسلام له، قطع الطريق أمام تطور الشعر، لاسيما أن النص الشعري ليس خزاناً معرفياً، ولا وسيلة لمحو الأمية، بل هو كما يقول د. دريد يحي الخواجة شبكة بنى خاصة، أي أن لها علاماتها الفارقة الخاصة، في تقديم شحنة جمالية صرفة، قد يكون ما بينها ملمح مما هو معرفي، إلى جانب المزيد من الملامح الأخرى المعقدة، والواضحة في بعضها، وغير الواضحة في بعضها الآخر.
ولعل من الغريب، أن الوضوح والغموض، وهما قضبان متنافران، معرفياً، بحيث أن الوضوح هو سمة ما هو يومي، شعبوي، في أية شفرات إنسانية، وقد نشأ معجم الثقافة العامة، في إطاره، لأن التواصل الاجتماعي مبني على أساس هذه الثيمة المعرفية، بينما نجد الغموض نقيض ذلك، وإن كان يعد، في الوقت ذاته، مرحلة سامية، في إطار استخدام اللغة، لا يمكن تلقيها، باستسهال، دون أن تتوافر عوامل التلقي، في حدود التعامل التقليدي للغة. ورغم ذلك، فإن من يرفض أحد طرفي هذه الثنائية، وهو الغموض، فإنه لا يتخذ الموقف نفسه، إزاء، المبتذل من الوضوح، بمعنى أن الوضوح يحمل بطاقة مروره، من دون أية معوقات، ومثبطات، وكوابح، بعكس نقيضه الذي يتم رفضه، شعبوياً، بل ومن قبل النخبة المتواشجة مع هذه الفئة، حتى وإن تسلحت بتقديم المسوغات، متدرئاً، بسلطة رؤى العوام التي طالما سدت آفاق تطور الشعرية، رغم وجود اختراقات كثيرة، لهذه القاعدة، من قبل أبعاضهم.
ولا أريد أن يفهم من هذا الكلام أن الغموض بكل أشكاله، إنما هو جمالي، ومستساغ، لأنه ورغم وجود معجم خاص، هنا، بهذه الأشكال، فإنه يمكن أن تفرز هذه الأشكال، على ضوء خمول الموهبة، أو قوتها، لأن هناك من يعجز عن أي إبداع شعري، فلا يجد مناصاً أمامه، من الإيغال في هذا العالم الذي قد يقدمه في صورة الشاعر الخلاق، المائز، كما أن هناك من يلجأ إلى الغموض انطلاقاً من دواع جمالية، و رؤيوية، أو نتيجة الاضطرار إلى استخدام الرمز، وشبكة العلاقات المجازية، للتخلص من ربقة الرقابة، والالتفاف عليها، والاحتيال عليها، لاسيما عندما يكون من بين استراتيجات هذا النص، بعده المعرفي.
أجل، ثمة أشكال محلقة من النصوص الغامضة، التي تخلق تلك الدهشة المتوخاة من الإبداع، بحيث تسجل فتوحات جديدة، غير مسبوقة في مجال الشعرية، ناهيك عن أنها تطور الذائقة، وتؤازرها في تقديم أشكال جديدة، في عالم الجمال، في الوقت الذي نجد نصوصاً غامضة، مسيئة إلى الإبداع، والكتابة، باتت تزاحم النصوص الإبداعية التي يكتنفها الغموض الجمالي، ويكون غموضها نتاج موهبة متفردة، بل ونتاج مهارات فريدة، وروح إبداعية خلاقة، وهو يتعلق بدرجة الوعي الجمالي لدى المتلقي، ويعد النقد المسؤول الأول أمام عدم الحسم في هذه الظاهرة، نتيجة تغليب أهواء الناقد، وخارج رسالته على هذه الظاهرة القديمة المتجددة.
وبدهي، أن مفهوم الناقد، هو أيضاً، بحاجة إلى التحديد، لاسيما أن التناقل الببغاوي للمصطلح النقدي، ودون أية ثقافة نقدية، أدبية، إبداعية، جمالية، خبروية، بل دون أية موهبة، يمكن من سبر النص، وفهم أولوياته، وكيفية عمارته، ناهيك عن فهم طبيعة المدارس النقدية، أسهم في تمييع مكانة الناقد، وقد بلغ هذا الانهيار حدوده العظمى، في ظل عدم المسؤولية النقدية، والاستكثار السرطاني لوسائل الإعلام، والنشر، ما أدى إلى استسهال هذه الوظيفة، أكثر من ذي قبل، من لدن طفيليي هذا العالم، والذي لابد منه كي تتحقق معادلة الإبداع، وهي-في الأصل- معادلة الجمال، بل ومعادلة الحياة، وليس أدل على هذا من مجيء أحد متطفلي النقد للمساواة بين نصين، أحدهما مدون من لدن ناص متمكن، ومشوب بالغموض المسوغ، وآخر متهافت، نتاج انعدام الموهبة من قبل منتجه..!.
محنة النص
محنة الناص
إذاً، أننا أمام محنة فعلية، يومية للنص، وهي محنة الناص الأصيل، الذي باتت القيمة الفنية لنصه تضيع، في أرخبيل هذا الفضاء، الشاسع، مترامي الأطراف، بعد أن كان فضاء النشر، مجلساًً، أو خيمة، أو جداراً، أو رقماً، أو منبراً، أو صحيفة، أو مجلة، أو كتاباً، لاسيما بعد أفول هيبة النشر، وبات نص جديد، له جمالياته الجديدة، وهي جماليات ملتبسة، في الجزء الأعظم، وليس الأكبر، فقط، منها، أمام كثرة الهاطل إلكترونياً، بما يشكل محيطات هادرة، بل ومستنقعات، خانقة، حيث يحتاج المتلقي، بعد أن تغير توصيفه إلى “المبحر” أن يستعين بمقدرة فريدة للتوصل إلى ما هو إبداعي، في غمرة أشباهه الهائلة، التي تغرقه، ناهيك عن أنه بحاجة إلى ذائقة غير ملوثة، في زحمة هذا الطوفان، كي يعيش لحظة النص الجمالي، وهو أمر محفوف بما لا ينتهي من تحديات، ومصاعب، ومعرقلات.
إن هوية النص الإبداعي، باتت مهددة، وإن مهمة صونها، ملقاة على عاتق الناقد الحصيف الذي لا بد أن يطور أدواته التقليدية، ويضيف إليها أدوات جديدة، تسلحه أثناء أداء مهمته الأصعب، والأخطر، في تاريخ النقد على الإطلاق، ناهيك عن الحاجة إلى مؤسسات نقدية، بدلاً عن الجهود الفردية المتناثرة التي كانت متسيدة، من قبل، وتؤدي جزءاً من مهمتها، مادام أن استفحال الخراب النصي، والموات الذائقي، أوصلنا إلى محطة جديدة، وواقع جديد، لابد من التحرك، بإيقاع عال، للارتقاء إلى مقام الأسئلة المستجدة، في الوقت الذي يعد غض النظر-هنا- هزيمة أمام الجاري، وتواطؤاً أمام حالة الدمار العام الذي يجتاح كل ما هو جمالي، مضيء، في إطار نشر ثقافة القبح، والظلام.
أجل، نحن أمام منعطف جديد، أو تحول جديد في جغرافيا، وتاريخ الشعرية، حيث باتت صفحة الغموض تطوى، مع ولادة نص جديد، يقدم أوراق اعتماده، من دون استئذان، من أحد، ولعل من ملامح هذا النص الجديد سهولته، هذه السهولة التي باتت تشكل خطراً على الحالة الإبداعية، نتيجة الالتباس المحتمل، مع إمكان الإقدام على إنتاج مليارات النصوص يومياً، عبر شبكات التواصل الاجتماعي، على نحو عام، ما أدى إلى سقوط الوصاية النقدية التقليدية، بل سقوط الغموض، واجتياح الوضوح للمشهد القرائي، لاسيما أن المنبر الجديد الذي ينشر فيه الغث، هو نفسه المنبر الذي قد ينشر فيه الثمين، ومن بينه الإبداعي.
ثمة كتابات يومية، تداهمنا، ينتجها ناص كل منها، في أجزاء الدقيقة، أو خلال دقيقة، أو أكثر، ما يجعلها مشروعاً، خاسراً في الغالب، ماعدا النادر، الذي لا يمكن الاهتداء إليه، إلا عبر بوصلة خاصة، من قبل المبحر، تتلاطم من حوله لجج المحيط الإلكتروني، المجنونة. كل هذا، بات يتسبب في ولادة نص آخر، هو استكمال لنص سابق، طالما كتب من قبل، وتم الإقلاع عن طريقة إنتاجه، بعد تهالكه، وهو النص الشفاهي، أو الرؤيوي سهل المفاتيح، الأمر الذي جعل بعضهم يستعيض عن فن خلق الدهشة، بطرق جديدة، منها ما يشكل إضافات قيمية، ومنها ما هو مصطنع.
إن سلطة وسائل النشر الجديدة، باتت تنشر ثقافتها المغايرة، كما أنها باتت تقترح جمالياتها الجديدة، حيث إعادة الاعتبار لقطب الوضوح، في ثنائية الإبداع، مقابل هزيمة النص الغامض الذي انحسرت جماهيريته ضمن هامش نخبة النخبة، وليس النخبة بعامة، كما كان الأمر من قبل، وهو يعني أن الغموض-بوصفه- أحد التجليات الجمالية، لابد من أن يعيد تشكيله، بما يناسب طبيعة العلاقات المتشكلة، وسط هذه التحولات الهائلة، التي هي ثقافية، في المقام الأول، كما هي جمالية، بل يمكننا القول، أخيراً “ثمة عالم جمالي كامل يتشكل وسط هذا الطوفان”.
من مخطوط” إبرة الذهب”
في شعرية النص الفيسبوكي