ابراهيم محمود
وأعلمَ صديقه الذي كان يناديه منذ عقود بـ” خِلّي ” أنه يريد زيارة المدينة التي ذاع صيتها في الغرابة.
أعلمه صديقه بصيغة سؤال: أو تعلَم أصل هذه الغرابة ؟
ليقول دون انتظار رد فعله: إنها مدينة الأجسام التي لا تحمل رؤوساً .
فتح صديقه فاه ذاهلاً: كنت أعتقد أنها مدينة غريبة بعاداتها ؟
خله: وهي ميزة بارزة في لائحة عاداتها .
وكيف ؟
خله: كما تناهى إلي، من الصعب عليك دخولها بصفة زائر، وكما تريد، أو بأي صفة أخرى، لأنك على الحدود ستجد من يدقق في طبيعة زيارتك، وفي الحالات كافة، سوف يطرَح عليك السؤال التالي: زيارة برأس أم من دونه ؟
رد صديقه بذهول: وكيف الدخول بدون رأس ولماذا ؟
خله: هنا حط الجمال ! كما رويَ لي، يكون التوضيح كالتالي: إذا أردت دخولاً آمناً ومن ثم خروجاً آمناً، فما عليك إلا أن تسمح لنا بفصل رأسك عن جسمك، أما أن تدخل ومعك رأسك، فسوف تتعرض لمضايقات وربما لنهاية وخيمة.
طرح صديقه سؤالاً وهو في حالة استغراب: وكيف يتم ذلك ؟ التحرك بدون رأس ؟
خله: هاها ! كما قيل لي، سيقولون لك: نحن سنتكفل بكل ذلك، تحرك كما تشاء وفي أي اتجاه ترغب، وكل شيء هو في حسباننا: الطعام والشراب والإقامة المريحة وحتى الترفيه والمتعة كذلك، إذ إن جسمك سيمارس نشاطاته المختلفة دون أي عائق، لأن هناك الكثيرين مثلك، في مدينة أردناها معرَّفة باسمنا في العالم أجمع، وهي الطريقة الأحدث في معايشة الديمقراطية، حيث لا آلام ولا أوجاع إطلاقاً.
زاد فضول صديقه، وكونه من أصحاب المغامرات، كان جوابه: سأعيش هذه التجربة .
وهكذا كان تحركه صوب مدينة الأجسام التي لا تحمل رؤوساً، وكله شوق إلى اللحظة التي يعيش فيها التجربة المنتظَرة .
كان مدخل الحدود هادئاً، حيث حرس الحدود والمعنيون بأمنه بأجسام سليمة، وعندما تقدَّم من الكوة التي تجري المعاملات اللازمة، سمع صوتاً أنِ ادخُل، فدخل من الجهة المرسومة له .
كانت غرفة واسعة، وثمة طاولات مرصوفة، وخلفها أجسام لا تحمل رؤوساً، فكان ذهوله الفعلي. إنها المرة الأولى التي يرى فيها بشراً على هذه الشاكلة، وهي تتحرك، وبين منكبيها، ثمة ما يشبه الآلة، كما لو أنها تتولى مهمة تحريكها، وتحديداً عندما لاحظ مدى دقة حركة الأجسام الجالسة وراء طاولاتها، وهي تسيّر معاملات القادمين والخارجين، سوى أنه أبصر جسمين سليمين، فارتاح لهما، وتقدم من أحدهما:
أريد زيارة المدينة !
أشار أحدهما إلى بطاقة ملصقة على الجدار.
نظر في الحال فقرأ: أتريد الدخول برأس أم من دونه؟
هنا سأل وهو يوزع نظراته بينهما: ولكن ذلك مستحيل ؟
ابتسم الاثنان، وسمع ضحكات صادرة من الأجسام التي لا تحمل رؤوساً بالمقابل .
رد الاثنان معاً، تأكيداً على قدَمهما الوظيفي: اطمئن من هذه الناحية، لا مستحيل هنا، تلك هي علامة مدينتنا الفارقة، والتي لم تستطع أي مدينة أخرى مجاراتنا في ذلك بفضل القيّمين عليها.
دون تردد، ومن باب الفضول: طبعاً أريد الدخول والخروج وكلّي راحة .
أشيرَ إليه بالدخول إلى غرفة جانبية، وما هي إلا لحظات حتى أصبح كائناً آخر، لقد أصبح جسماً دون رأس، وقد زوّد بجهاز صغير ثبّت بين منكبيه، وخرج من حيث دخل، وحتى دون أن يعطى جواز سفره: الآن أنت طليق فيما تعمل، أهلاً بك في مدينتا.
وخلال دقائق كان في قلب المدينة ذات الصيت!
لم يسمع صفيراً، ولا اضطراباً في أي جهة منها، ولا تصادماً بين سيارة وأخرى، ولا كان هناك شجار بين شخصين، أو من يتحرش بامرأة. المدينة نظيفة، مرتبة شوارعها، الأشجار تنبسط أحزمة خضراء داخل المدينة وعلى امتداد الشوارع، ليس من ساحة إلا وفيها أشجار باسقة تنبعث منها روائح عطرة، الظلال تشعر الجسم بنشوة وخفة الحركة.
يتحرك المرء بجسمه الذي لا يحمل رأساً، في كل اتجاه، لا أحد يعترض طريقه، ثمة ما يحرّكه: لحظة العطش، يندفع الجسم صوب النقطة التي يتوفر فيها الماء، لحظة الشعور بالجوع، ثمة مطعم بالانتظار، والمدينة تتميز باحتوائها مطاعم لا تحصى، وطريقة إعداد الطعام تتناسب والأجسام تلك ورغباتها، إذ إنها تمرّر الطعام المهضوم آلياً إلى داخل الجسم، ويتولى الجسم هذا استقبال الطعام المهضوم وبمتعة جسمية.
ثمة فنادق كثيرة مخصصة لكل جسم، وتبعاً لرغبته جهة الدرجة، والحساب يتم أوتوماتيكياً. لا أخطاء في التعامل، كل شيء تم الإعداد له، وليس في المدينة سوى مجموعة أشخاص موزعين في جهاتها، بأجسام كاملة، تتولى حراسة المدينة والإشراف عليها، تفادياً لأي خلل، والسيارات مختلفة في ألوانها وأحجامها ووظائفها، ويحدث أن يمر موكب من السيارات، وبالتأكيد، لا بد أنه يضم القيمين على المدينة، ودون أي زعيق أو صفير، فالأجسام التي لا تحمل رؤوساً، تعرف واجباتها في كل حركة، أو عند مرور الموكب وصفة المسئولين فيه، في الاصطفاف تعظيماً واحتراماً وتعبيراً عن الاحترام للقواعد المعتبرَة.
يحدث – طبعاً- أن يطوَّح بجسم ما، أو ينقاد إلى جهة ما، لأمر ما، وخلال ثوان، ودون أي اعتراض، لأن الجسم الذي يتحرك، يتجاوب بصورة غريزية، ومن خلال ذلك الجهاز المثبت بين منكبيه، والذي يتولى أمره.
هذه المدينة ذات التاريخ العريق، تمكنت من تحقيق هذا المنجز الذي لا يوصف، واستطاعت تذليل تلك العقبات التي عاشتها في يوم غابر، بعد معرفة أن الرأس مصدر الأوجاع، وهو يثقِل على جسمه، بقدر ما يعرضه للمتاعب ويودي به أحياناً، وبالتالي، فإن الفكرة التي طبَقت من قبل الساهرين على المدينة وأولي أمرها الوقورين، كانت نتيجة مكابدات استمرت طويلاً حتى طبَقت بالطريقة هذه.
في هذه المدينة الغريبة، كل جسم يقوم بوظيفة خاصة به، وبمنتهى الدقة، وفي دوائر ومؤسسات حكومية، وهناك صالات أفراح، وأماكن ترفيه، وسهرات، واحتفالات، وموسيقى وأغان ورقصات مختلفة، تتجاوب معها الأجسام بطريقة مدهشة، وهي تمتلىء طرباً، وضمن أوقات محددة، ودون أي شجار، بالعكس، فإن اللافت هو رؤية آلاف الأجسام التي تحتك مع بعضها بعضاً في مكان معين، وكل جسم يقوم بحركات معينة، يندر فيها مس الجسم الآخر.
هذه المدينة تعيش حياتها الخاصة كما أرادت، وحيث الناس يولدون ويموتون منذ زمن طويل، وجلهم دون رؤوس، كما أريدَ لهم، حباً بهم، وحرصاً على سلامتهم. إنها المدينة الوحيدة في العالم التي لا تضم سجناً، أي سجن، المدينة الوحيدة التي لا تحمل في أي جهة منها لافتة، وعليها عبارة” احذر الاقتراب ” أو ” ممنوع التصوير “، ولا بد أن الذين تمكنوا من كل ذلك في منتهى العبقرية طبعاً .
وهكذا أمضى صاحب الفضول زيارته إلى المدينة الغريبة، حيث إنه ما إن بلغ الحدود للخروج، أدخِل إلى ذات الغرفة، وأعيد إليه رأسه مرحَّباً به وبلغة التفخيم: أهلاً بكم، وشكراً لكم على زيارة مدينتها، إنها مفتوحة لكم متى شئتم .
بالطريقة هذه خرج صاحب الفضول، وتحرك صوب مدينته، وعندما بلغها، وسأله خله بعد السلام عليه والترحاب به: صف ما رأيت؟
كان جوابه الاستفهامي: عن أي مدينة تتكلم ؟
لقد حاول مراراً أن يتذكر شيئاً مما عاشه هناك، إنما دون جدوى، سوى أن مشهداً وحيداً علِق في ذهنه، هو وجود مدينة أجسام فعلية لا تحمل رؤوساً !