وقد عرفت مدينته السلمية أنها كانت مدينة الثقافة والإبداع، و برز فيها عدد من الشعراء من أمثال: أنور الجندي- أحمد الجندي- عارف تامر- علي الجندي- فايز خضور- محمد الماغوط- سليمان عواد من الشعراء الكبار، وغيرهم من الشعراء الذين ينتمون إلى الأجيال اللاحقة، ناهيك عن أعلامها من الأدباء، والباحثين وغيرهم، وبهذا فإن عامود يعتبر أحد آخر أضلاع مثلث ريادة قصيدة النثر الذين غادرونا، بعد أن حمل راية الشعر بضعة عقود، منذ أن كتب نصوصه الأولى ونشرها في منتصف أربعينيات القرن الماضي، عبر الصحف والمجلات المتاحة، آنذاك.
اضطر الشاعر عامود للتنقل مع أسرته في عدد من المدن السورية، لأن أباه كان يعمل في الفرقة الكشفية الموسيقية منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وقد درس في مدن عديدة: قامشلي- ديرك “المالكية”، الحسكة، كما أقام في الفترة مابين”1979-1984” في دمشق، وكانت من الفترات الأكثر خصباً في تجربته الروحية والإبداعية والحياتية، بيد أن فجيعته برحيل رفيقة دربه-ابنة دمشق- جعلته يقدم على فكرة العودة إلى مسقط رأسه، بعيداً عن أضواء، وضوضاء العاصمة، وفي ذلك، ما أفسح له المجال للكتابة والعيش بهدوء، وإن جاء على حساب التواصل مع مركز وسائل الإعلام.
كرس الشاعر عامود حياته في سبيل الكلمة، وكان عالمه الحياتي اليومي، هو الكتابة، والقراءة، وتواصله الحميم مع الأدباء، والكتاب، والشعراء، والمفكرين، والباحثين، حيث كانت له علاقات مائزة مع هذا الوسط، لا يتوانى عن قول كلمته، حتى وإن كان ذلك على صعيد “أولوية الريادة” في مجال قصيدة النثر، حيث يؤكد أنه كتب قصيدة النثر وهو طالب في المرحلة الابتدائية- وقد كان يعتد بحمله شهادة السرتفيكا أي الابتدائية- ونشر بعض هذه النتاجات بعد فترة قصيرة من كتاباته الأولى، حيث راسل أمات المجلات والصحف التي كانت تصدر في تلك الفترة الزمنية.
و زار الشاعر عامود دولة الإمارات في الصيف الماضي، وأحيا فيها فعاليات شعرية وثقافية عدة، في: الشارقة- أبو ظبي- رأس الخيمة- وتم الاحتفاء به، على نطاق واسع، من خلال اتحاد الكتاب والأدباء الإماراتيين، ومن خلال وسائل الإعلام وكان لجريدة الخليج حوار مطول معه، تم نشر مقتطفات منه.
والشاعر عامود الذي نشر نتاجاته في وقت مبكر من حياته، وتناول تجربته عدد من كبار النقاد السوريين والعرب ومنهم: د. دريد يحي الخواجة- حنا عبود وآخرون، اهتم بالأسماء الجديدة، لاسيما خلال فترة عمله مع صديقه مدحت عكاش، كسكرتير لمجلة الثقافة الأسبوعية والتي كان مقرها في شارع الأرجنتين، وظلت مع شقيقتها الشهرية تصدران لبضعة عقود، دون أن تخضع لقرار غلق صحف ومجلات القطاع الخاص، ولا يمكن التحدث عن الأدب السوري من دون التوقف عن دور دار الثقافة التي تبنت طباعة مئات الكتب، بالإضافة إلى منبريها النشر يين، وكان مكتب عامود، كما مكتب أستاذه الراحل عكاش، يتحولان إلى مركز ثقافي يلتقي فيهما الكتاب السوريون والعرب.
وكتب الشاعر عامود في مجال النقد الأدبي- لاسيما الشعر منه- وذلك من موقعه كشاعر صاحب تجربة مكرسة، من جهة، وكصاحب ذائقة مائزة، لاسيما أن كتابته للشعر، بأشكاله، العمودي منه، والتفعيلي منه، والنثري، أهله لخوض غمار هذه التجربة، واتسمت قراءاته بالعمق، واستبطان خفايا النصوص التي تنطع لتناولها، نقدياً، وإن كانت غلبة الشعرية على تجربته، على حساب حضوره النقدي الفاعل.
وتقديراً لدور عامود الإبداعي، فقد تم تناول حياته، ومنجزه، عبر فيلم وثائقي بعنوان” مطموراً تحت غبار الآخرين2008″ والذي كتبه إبراهيم الجبين وأخرجه علي سفر، وتم عرضه إلى جانب الأمسيات التي شارك فيها في فروع اتحاد كتاب الإمارات، وإن كان حتى في عنوان الفيلم ما يدل على الإهمال الذي تعرض له، لاسيما منذ أن ترك العاصمة، وعاد إلى مسقط رأسه، وبات بعيداً عن أضواء الإعلام، وقد أشار في أكثر من حوار صحفي معه عن الإهمال الذي تعرض له في حياته، حتى على صعيد مؤسسته النقابية التي ظل منتمياً لها، وهي” اتحاد الكتاب العرب في سوريا” التي قال عنها تطبع لشاعر ما مئة وأربعين ديواناً، بينما لا تطبع لغيره أكثر من سبعة دواوين، وإن صرح بهذه العبارة، وهو يقول: ما معناه: وليقطع علي اتحاد الكتاب راتبي التقاعدي بسبب تصريحي هذا.
شاعر التسكع والمشاكسة:
من يتابع تجربة الشاعر عامود، يجد أن للرجل لغته الخاصة، أو بتعبير أدق له معجمه اللغوي الخاص، وهناك مفردات كثيرة تتكرر في نصوصه، ومن بينها مفردتا: التسكع- المشاكسة”، وكان مع ترجمة هاتين المفردتين في حياته اليومية، إذ طالما أشاد بتسكعه على أرصفة دمشق، وكان معروفاً عنه مشاكساته، رغم حلمه، وإنسانيته، ومن بين ذلك جرأته في تقويم سواه، وليس أدل على مثل هذا تقويمه لصديقه الماغوط، أو للمتنبي الذي رآه في أحد حواراته شاعراً متسولاً، رغم إعجابه الشديد بشعره.
إرادة عالية:
خلال زيارته إلى دولة الإمارات، حيث يقيم عدد من أفراد أسرته، بدا جد متفائل في الحياة، وصار يحدثنا-أثناء لقائنا الخاص معه- عن بعض مشاريعة المستقبلية الطموحة، بل ولم تختف عن محياه ابتسامته، وخفة روحه، رغم ما تركه الشلل الذي تعرض له بسبب تأزم حالة مرض السكري لديه، ما جعله لا يستطيع التنقل إلا على كرسي متحرك، دون أن يمنعه ذلك من كتابة الشعر، إذ لم يفتأ يرصد لحظته، ويعرب عنها، كما فعل ذلك مع زيارته الأخيرة إلى الإمارات التي كتب عنها، وكان مدعواً إلى زيارة أخرى، بيد أن يد المنون اختطفته، قبل أن يتحقق ذلك الحلم، مرة أخرى..!
فراغ وألم:
ويجيء رحيل الشاعر عامود خسارة كبيرة للشعر العربي عامة، والسوري خاصة، لاسيما أنه آخر رواد قصيدة النثر الأحياء، بل وذاكرة شعرية تاريخية على بضعة عقود من الثقافة والإبداع، ومايزيد منألم فقده أن عينيه لم تتكحلا بتوقف سيل الدماء في بلده، وقد رأى بأم عينيه، وهو يغادر مدينته، بعد رحلته الأخيرة، أو يعود إليها، ما الذي آلت إليه، وهي تسور بالقلق، والخوف، والترقب الغودوتي..!