لغة الأديب و قومية الأدب

شيلان فتحي شريف*


تظل بعض الأسئلة في ميدان الأدب مثار جدل وخلاف يثير النقاش والحوار الأدبي بين المتخصصين والمهتمين بتعريف صنوف الأدب وتحديد هوية المبدع والميدان الذي يغني فيه الادب الانساني محليا وعالميا.
ومن هذه الأسئلة لغة المبدع الأدبي وأصله القومي، وما يثيره ذلك من أسئلة حول عائدية الأدب.
صحيح أن الأدب أياً كان مصدره وكائناً من كان مبدعه، هو أدب انساني ويصنف ضمن الجهد البشري لخدمة الحقيقة والجمال، وظيفتا الأدب الأزلية، إلا أن تصنيفات الأدب كما هي مقسمة الى مجالات الشعر والنثر، أو الفن القصصي والروائي وفنون المسرح وما اليه، فأنها مصنفة من حيث التجربة الى أداب الشعوب المختلفة ولغاتهم أيضا. وهذا ما يجدد النقاش حول عائدية النص من حيث هوية خالقه أو من حيث لغة الكتابة لهذا النص وأحياناً من حيث فضاء الكتابة والعالم الانساني الذي ينتمي اليه.
وربما يشكل مناسبة رحيل المبدع العظيم الروائي والأديب يشار كمال، مناسبة أخرى للحديث عن هذا الموضوع بالذات، لما يحتويه أدب يشار كمال من جميع مسببات النقاش والجدل، كما هو حال الأدب العظيم.
فيشار كمال كردي من حيث الانتماء للقومية ومن حيث إقراره بهذا الانتماء، رغم مخاطر إشهار الهوية الكردية في تركيا وحتى زمن قريب، ولم يكن يشار كردياً فقط من حيث الانتماء العرقي ولم يقر بهذه الحقيقة عرضاً فقط، بل أنه تناول الشأن الكردي من أوسع أبوابه السياسية حيث كتب مقاله المشهور (سفينة الكذب) عن تاريخ الكذب الرسمي في تركيا حول حقيقة الوجود الكردي. ما يعني أنه يقر بالبوتقة الكردية من حيث هي هوية سياسية أيضا وليست هوية عرقية فقط.
كما وأن أدب يشار كمال مليء بالفضاءات الكردية من حيث الشخوص وخلفية الحكايات والحبكة القصصية والدرامية، بل إن بعض أبطال يشار كمال من الكرد هم علامات بارزة في نصه الابداعي، من حيث تمثيلهم للخير والحق وانتصارهم للعدالة ضد الظلم والتخلف واستبداد الطبقة الاقطاعية المتحالفة مع ممثلي الدولة ومؤسساته الرسمية على المستوى المحلي. إلا أن هذا الأدب كتب باللغة التركية كتابة أبدع فها يشار من حيث ثراء المفردة وجمالية الصياغة الى درجة أن لغة هذا الروائي تعد محطة بارزة في تطور لغة الرواية التركية كما هو حال مضمونه الذي يشكل نقلة نوعية في سبر أغوار موضوعات جديدة، موضوعات تتعلق بالأرض والانسان وارتباطه بالأسطورة والحلم الانساني وتوقه للعدالة والسلام وعمار الأرض وتحدي عاتيات الزمن.
وأدب يشار كمال من حيث الفضاء الكردي وتعبيره عن معاناة الانسان الكردي والتركي معاً غني بالعبر والصور القومية الى درجة أن ترجمة خلاقة مثل ترجمات الأستاذ الراحل شكر مصطفى والأستاذ عبدالله حسن زاده لرواياته الى اللغة الكردية، يرفع حاجز اللغة كمبعث للإشكال الهوياتي، ما يعني ان اللغة التركية هي ايقونة لأدب يشار كمال، حين يقرأ أدبه باللغة التركية كما ان مضمونه هو بصمة ابداعية واعتراف أدبي بهوية كردية خالصة لأدب كتب بالتركية فقط لأن صاحبه لايجيد غيره.
ومثل هذا الإشكال المثير للنقاش الايجابي نلحظ نظيره في الابداع النصي لسليم بركات على اختلاف عالم بركات عن عالم يشار كمال،  ونجده على مستويات مختلفة عند أدباء كرد أبدعوا بالعربية، بينما استمدوا عوالمهم من حيث المضمون من الواقع والفضاء الكردي وهموم شعبهم.
إن المبدعين يكتبون بالأدوات المتوفرة لديهم من حيث اللغة والموضوعات دون أن يلتفتوا الى ما يثيره إبداعهم من جدل يثري الدراسات الأدبية من حيث تقييم الابداع الى التنافس حول عائدية أدبهم هوية وانتماءا.
أشار المبدع الداغستاني (رسول حمزاتوف) مرة في معرض حديثه عن أدبه الداغستاني السوفيتي الى واقعة طفل ولد في المجال الجوي لجمهوريتين من جمهوريات الاتحاد السوفيتي، ما تسبب في جدال حضاري حول عائدية الطفل الذي ينتمي والدته الى جمهورية فيما أنجبته على متن طائرة في فضاء جمهورية أخرى.
كم يكون جميلاً أن يتبارى الكرد والترك على عائدية أدب يشار كمال، كأرث ابداعي ثقافي يستحق الافتخار به بدل التقاتل السياسي الذي أفضى الى إنكار قومية وحضارة الشعب الذي ينتمي اليه يشار كمال من قبل دعاة القومية التركية، الذين لم يقدموا للثقافة التركية كعنصر من عناصر الاعتزاز القومي بقدر ماقدمه  أدب الراحل العظيم.  

*إعلامية كردية وأستاذة اللغة العربية في جامعة السليمانية

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عصمت شاهين الدوسكي

 

لَنْ أعُود إلَيك

لو رُوحِي بَينَ يَدَيك

لَنْ أعُودَ إلَيك

إنْ بَكَيتُ العُمر عَليك

كُنْتَ في المَاضِي شَهْداً

وَالأمَل فِيكَ رَغْداً

وَالآنَ كًلُ الألوان لَدَيك

أمْضَيتَ بَين الشِفَاه رِيقاً

كَأنَ رِيقَكَ عَقِيماَ فِيك

****

لَنْ أعًود إليك

لَو مَرْهُون فِيْك الأمَل

لَنْ أعود إليك

لَو حَياتِي فِيكَ عَسَل

الفَرقُ كَبيرٌ

بَيَنَ الوادِي والجَبَل

شَتانَ بَينَ الحب وَالظِل

****

لَنْ أعود إليك

أنْ عُدْتَ مَعَ الأحْلام

وَإنْ كَانَتِ الأحْلام رَهْن الكَلام

لَنْ أتَوَسَل مِنْكَ أنْ…

إبراهيم أمين مؤمن

ثماني سنوات مضت، تحوّلت خلالها الرحلة إلى صراعٍ صامتٍ بين الإنسان والفضاء. في أعماق اللاشيء، كان جاك يحدّق في اتساع الكون أمامه، حيث قطع حتى الآن 80% من المسافة نحو هدفه المستحيل: الثقب الأسود.

الشراع، ذاك الهيكل المعدني العائم، يمضي في طريقه بثبات، موجّهًا بحساباتٍ دقيقة من مختبر الدفع النفاث، حيث يجلس العلماء خلف…

غريب ملا زلال

عمران يونس، حكاية تشكيلية لا تنتهي، نسمعها بصريًا دون أن يراوغنا بمنطق اعتيادي. حكاية نتابعها بشغف “شهريار” لـ”شهرزاد”، وهي تسرد حكايتها كل ليلة. ولكن هنا، مع يونس، نحن أمام مدىً للعمق الإنساني الموجع حتى نقيّ الروح. لذلك، نجد مفردات الموت، الوحش، القتل، اللاإنسان، الخراب، القساوة، الجماجم، والقبور تفرض ذاتها في…

أصدرت منشورات رامينا في لندن رواية جديدة بعنوان “الموسوس” للكاتب السوريّ الكرديّ آلان كيكاني، وهي عمل سرديّ يضع القارئ أمام تجربة أدبية ونفسية شديدة الخصوصية، من خلال شخصية فتى مراهق يُدعى صهيب، يعاني من اضطراب الوسواس القهريّ، في مواجهة مجتمع متديّن ومحافظ، يخنق الفرد ويتوجّس من أيّ اختلاف.

تدور أحداث الرواية عن صهيب، وهو طالب متفوق…