ابراهيم محمود
نتحدث عن الشيطان وكأنه مفارقنا، غريب عنا، بينما التاريخ الديني يعلِمنا مباشرة، أنه السبب الفاعل لوجودنا على الأرض ” نزولنا عليها، بتقدير ما “، وأن ما اُعتبِر خطأ تاريخياً استثنائياً طبعاً” وهو التناول من الثمرة المحرمة، بالمعنى الديني “، كان بإرشاد ورعاية منه، وأن جل الذي نعهَد به، أو نمارسه، أو يحدث بين بني البشر محال عليه.
هذا يصلنا بالسؤال ” العنوان الرئيس للمقال “: هل نحن البشر شيطانيون حقاً ؟
في أطروحته الجامعية واللافتة بعنوانها ومضمونها ” كاريزما الشيطان ” يقول الباحث التونسي ثامر الغزي في الصفحة الأولى منها ( الشيطان الذي بدأ دينياً قد انتهى علمانياً..)، وفي النهاية يقول ما هو قابل للأخذ به، أو طرحه للمناقشة ( قد يكون الشيطان وهماً، ولكن لا شك عندي الآن أنه ضرورة لا يمكن للفكر البشري الاستغناء عنه ) ” 1 ” .
وربما أمكن التدقيق في المقبوس الأول، وهو أن الشيطان كان يحمل بذرة الإنسان داخله، ليظهر معه، داخله، ومفارقه تالياً، وفي المقبوس الأخير، ليترجم معتقَد الإنسان، ومن خلال موقعه الديني والدنيوي، كما في حال الباحث التونسي نفسه، إذ إن اعتبار الشيطان وهماً يلغي وجود الإنسان بالذات، إذ ما أدرى الإنسان أن يكون مرئياً من هذا ” الوهم ” أكثر من وجود الإنسان المعتبِر نفسه حقيقة، وأن يكون هذا الوهم الوسيط الاستثنائي بين الحقيقة والخيال، السماء والأرض؟
ولعلّي بالطريقة هذه، أستطيع التعرض، ولو بقراءة، هي أقرب إلى المراجعة، لكتاب الباحث الكردي الإيزيدي الصديق هوشنك بروكا ” والمقيم في ألمانيا ” والأحدث ظهوراً ” لغز طاوسي ملك: أو أصل الخير والشر في الإيزيدية ” “2“.
ولا أجد حرجاً إن استهللت هذه القراءة بالطريقة التالية: هوشنك يكتب عن ” طاوسي ملك ” وهي العبارة الأدق بتهجئتها كردياً من ناحية، وهي الأصل الأمثل لما صار يعرَف بعد إعلان دنيويته، ودون مواربة بـ” الشيطان ” من ناحية ثانية، ولتكون المسافة الفاصلة بينهما، هي عينها المسافة العميقة الغور بين اسم معزَّز ومثاب عليه، واسم آخر مهدّد لمن يأتي على ذكره، أو يتوعده، بقدر ما يعاقَب عليه، بين أن يكون في موقعه الحصيف وهو في الرتبة المطلقة في الاقتدار حتى بالمنظور الديني، ولو في النقيض: الشر المحتسَب، وأن يكون في موقعه المخيف ” إسقاط الرتبة ” وهو مثل طارده في كل الأمكنة المسمّاة إلهياً في السياق الديني، فتكون الرتبة ” السامية ” مموهة، ودون الاقتدار السابق لا وجود له .
عنوان بروكا يقوم على ما هو تفسيري بداية، إذ إن ” لغز طاوسي ملَك ” لا يُبدَّل بـ” أصل الخير والشر في الإيزيدية “، بقدر ما ينفتح على إشكالية هاتين القيمتين اللتين تتداخلان وتتقاسمان العالم بالذات، وطاوسي ملَك هو المستمر طاوسي ملك وليس ما استحال إبليساً أو شيطاناً، فذلك يقلب المعادلة الكونية من أساسها، على الأقل حين نسمع المتردَّد وهو أن الشر يملأ العالم أو يجتاحه أو العالم مأهول به، فذلك ينبّه إلى لزوم البحث عن ” العلة ” الكونية، عن ” لغز ” يقرّبنا مما يجري، وليس أن ننسّب الشر إلى متضمَّنه وهو: الشيطان، وما في ذلك من إظهار الإنسان طهرانياً، أعني المنتمي هنا إلى الديانات الثلاث في المحصّلة، وما في ذلك من مصادرة على المطلوب، لأن الفصل الكلي خطأ كلي للكوني.
الشيطانية مولَّفة مما هو طاوسي ملَكي، إذ البدء الأخير، وما يكون شيطانياً لعله الانفتاح على الحد الأقصى مما هو قائم فيما بيننا ومتداول لحظة الحديث عن أحدهم وهو يبرع في أمر ما بأنه ” شيطان “، كما لو أنه يتعدى الحد المسموح به، سوى أن ذلك يمثّل الوجه الآخر للحقيقة، لأن الحديث عن الإلهي لا يُسمى إلا في صمت وخوفاً من القيّم على أمور الإلهي بالذات ” من سمع قول أحدهم عن سواه بأنه إله “، دون أن يلقى ما هو زجري أو أكثر إرهاباً ؟
هوشنك بروكا وفي الآن الراهن يستعيد الموضوع الأكثر أبدية في الكون، ولكنه الشغّال بالمعاني، وبالتالي فهو لا يُستعاد إلا كتقدير لغوي، كونه موجوداً على مدار الساعة ومذ وجد الإنسان على الأقل، وبالنسبة لبروكا، لا يرتقي الموضوع إلى مستوى السؤال الفلسفي والديني وهما معاً فحسب، بقدر ما يفجّر السؤال المركَّب، أي ما يكون طاوسي ملك هو البدء الذي لا يُبلى، وهو يتقدم المتفاعل معه أو متحري شئونه، إنه داخله وخارجه، صامته وصائته، في نومه ويقظته، إنما أكثر من هذا وذاك أن طاوسي ملك قضية جوهرية للإيزيدي، والكردي معني به في الصميم لأن الإيزيدية تسميّه دون غيره .
وهو فيما يقوم به يمثل صوتاً له ميزته في النظرة العقيدية وضمناً الثقافية إلى خاصية الدين، والإيزيدية بوصفها ديناً تليداً، إلى جانب أصوات أخرى إيزيدية ( خليل جندي، ممو فرحان عثمان، بير ممو عثمان، خدر بير سليمان، مراد ختاري ..الخ )، إلى درجة أن الميزة هذه لدى هؤلاء، وبروكا في الصميم، تُبرِز روح الاستماتة في التعريف بهوية الإيزيدي الكردي، أو ما يكونه الكردي الإيزيدي، أو ما يميّز الإيزيدي وهو المعرَّف به لدى الذين ما إن يفكّر أحدهم في الشيطان المركَّب على طريقتهم، حتى يُستدعى الإيزيدي، وعلى قدر الاضطهادات التي تعرَّض لها تاريخياً تكون الاستماتة في الكشف عن خلفية كل اضطهاد، كما هو التركيب في الدلالات العائدة إلى الشيطان خلاف المتردَّد عنه، وكما يصار إلى رسم خارطة كينونية لطاوسي ملك وتجذره في البنية النفسية والذهنية للإيزيدي، بقدر ما يُتخوَّف منه كمتماه ٍ مع الشيطان وليس الآخر، تكون الديانة انغلاقية، كما الحال في تفرعات ديانات أخرى ” الدرزية، الإسماعيلية، الصابئة.. “، سوى إن الافتراق في الحامل العصبي للمعتقد، إن جاز التعبير، أي الشيطان، وكأن الإجهاز على الإيزيدي، كما سعى إلى ذلك كل الذين حدَّدوه ممثّل الشيطان ومهدّد كل المعتقدات الأخرى، للنيل منه، وفي ضوء ذلك يغدو من الصعب إن لم يكن مستحيلاً التسامح معه، بما أن هذا النوع من التعامل يترجم التخلي عن جوهر العقيدة وهو محاربة الشيطان في كل مكان، فكيف لو كان مجسَّداً، وهو دأب الجهات التي كان توجَّه أنظار المعنيين بعقيدة، والناس البسطاء خصوصاً، إليها، كما لو أن تكثيفاً في التوجيه يعني تحويل المشكل السياسي والاجتماعي أو القهر المركَّز عليهم ضده.
بروكا لا يدافع عن طاوسي ملكـ”ـه “، بقدر ما يضيء ساحته لأنه يعنيه، إنه الوجودي أكثر من أي شيء آخر، مثلما أن الذي أفهِم قسراً، وأدخِل إلى التاريخ معاقبَاً أبدياً هو الشيطان، لتستمر لعبة الذاكرة والنسيان: نسيان أنه كان ملَكاً، إنما كبير الملائكة أساساً، وذاكرة المنغلَق عليه شيطاناً، كما تقول الميثولوجيا الإسلامية، وإذا كان الشر ينتمي إلى الوجود، فإنه مؤسس للتاريخ الشفاهي والكتابي، بقدر ما يكون الآخر” المغضوب عليه ” منزوعاً من اسمه الأول، وأننا في ضوء هذا االتقدير ننتمي إليه أكثر، فنحن المعاقَبون كما لم يعقَب أحد، وعلينا البحث عنه، إذ نبحث عن أنفسنا.
طاوسي ملك ليس إلهاً، إنما في الظل الإلهي، وهذا ما يجعله الأعرف به من أي كان آخر، فتعرفنا عليه يقرّبنا من إلهه.
وأن يكون أصل الخير والشر في الإيزيدية، والإيزيدية تترجمنا بالمعنى التاريخي التليد كردياً، فهو في التداخل بينهما، ومنه وفيه كان مسرى الالتباس، أي ما جعله جوهر السرد في الوجود حضوراً وغياباً.
سطور من ” طاوسي ملم “ :
من الصعب إن لم يكن مستحيلاً إيراد كل شيء يخص الكتاب، وإلا لما كان قراءة أو مراجعة، من الصعب التعريف بالكتاب دون إمكان قراءته أو مراجعته، لبلورة فكرة بانورامية عنه، وإلا لفقد التعريف به معناه.
يأتي البدء الافتراض، ومن خلال بنية المثار في الكتاب هكذا( تعد فكرة ” طاوسي ملك ” باعتباره ” إلهاً كاملاً ” يمثل الخير والشر في آن، واحدة من أكثر الأفكار إشكالية في اللاهوت الإيزيدي، ناهيك عن كونها واحدة من أهم الأفكار التي تحتاج إلى المراجعة والقراءة وإعادة النظر. ص 11 ).
الإلوهية الكاملة تالياً على الإلوهية الكونية، لأن التوحيد يتبلور من المسمَّى، فلا يكون في صدارة الأفكار الإشكالية في اللاهوت الإيزيدي وحده، وإنما في الصنافة الكبرى لصيغ اللاهوت من الأديان المعتبرة سماوية وأرضية، لأن ” الشرق ” ليس وحده خلاصة العالم، واللاهوت لا ينطق الألوهية من خلاله، فثمة الصيني والهندي والهندي القديم: الأزتك والمايا، ثمة الزرادشتي وأبعد، ثمة المعتبَر وثنياً في أفريقيا ” ديانات أفريقيا السوداء “، وإلا لكان شغل ” الشر والخير ” العالم أجمع، وأن تقدَّم الإيزيدية بالصيغة السالفة فلأنها الديانة الوحيدة التي تجهر بما يجعل المطارَد والمتخوَّف منه من الآخرين جميعاً مسمَّى آخر، ومن خلال جماعة بشرية: كردية، حافظت على عقيدتها رغم الاضطهاد، فهي الأكثر جدارة بالنظر في بنية عقيدتها التليدة، واستحقاقاً للثواب من أي جماعة بشرية أخرى من هذه الزاوية، إنها العقيدة الوحيدة التي تخالف المألوف عالمياً بالنسبة للاسم المنسَّب إلى ” اللامفكر فيه ” أو ” ممنوع التفكير فيه ” وهو حاضر هنا وهناك.
وهو إذ يفهَم بالطريقة هذه فلأن انزياحاً لاسمه الأول يتم وتقدَّماً بالثاني، والأول يتقدم الثاني ويتعداه كونه مركَّباً، جهة التفاعل بين الخير والشر، وليس لأنه ممثل الشر المحض، وكما الحال في بنية الذاهب إسلامياً إلى أن الله نفسه مسمّي الخير والشر، وكأن الله تفسير والآخر تأويل، ويبدو أن التأويل يحظى برغبة التحري أكثر ولهذا يُتخوَّف منه.
الإيزيدي يستحق الثواب بقدر تعرضه للعقاب، فيكون المركَّب بكينونته، وسؤال بروكا في محله ( كيف ” تشيطنت ” الإيزيدية، واختُزل في تاريخ الشيطان، وثقافتها في ثقافة الشيطان، وهو يتها في هوية الشيطان ؟ .ص15 ).
في ضوء السؤال المأثور، يظهر الكردي، حتى وهو مسلِم أكثر من كثيرين حتى اللحظة، موصولاً بالمحظور التآلف معه، لأن ثمة معرفة لاشعورية به، لأن الكردي يعرَّف به بوصفه ” طاوسي ملَك ” فهو التليد موقعاً، وحتى إن قيّض له أن يكون بالاسم المحوَّر فلأن ثمة عراقة تاريخية وخبرة تاريخية بأصل الخير والشر نفسه، إذ صودر منه الخير بالإكراه وأبقي على الشر وعهِد به إليه، ليؤلَّب عليه الآخرون كما تقول سلسلة الفرمانات التاريخية وسواها عليه وضده.
بروكا يشكو انجراحاً لاهوتياً مثلما أنه يشهره، وهو تجني الآخرين عليه ممن يهتمون بالدراسات والبحوث المركّزة على شخصية ” طاوسي ملك ” وأنا أفضل ” طاوسي ملك ” لأنه لا يشخص، جرّاء ثرائه فيُختلَف عليه، ومن الطبيعي أن تبتعد تلك كثيراً أو قليلاً ( عن حقيقة اللاهوت الإيزيدي ..ص19 )، وفحوى الابتعاد في فحوى الموقف والمبدأ، طالما أن ليس من منزلة لكبير الملائكة بالمفهوم الديني” الإسلامي “، وكأن الابتعاد إبراز لبراءة ذمتها لئلا تتعرض للعقاب من جهتها.
وربما كان الساعي وراء حقيقة هذا المطارَد في التاريخ وفي اللامفكر فيه، يتلمس فيه ” كلمة السر ” الضائعة أو المغيَّبة في الذاكرة الجمعية للبشر، ولأن الجامع بين النقيضين هو حقيقة تكوينية حتى على مستوى مقاربة فعلية لما هو إسلامي بدءاً من ” العوذلة “، ففيها يتقابل الاثنان وهما يتعاليان على الجميع، وهو التعالي الذي يكون بمثابة الحامل الأسطوري الأكبر، بما لا يقاس لكل ما يثيرنا ( فالشيطان ” باعتباره ممثل الشر المحض بامتياز” يشغل القرآن كما يشغله الله. بل إن الحضور الشيطاني في القرآن أكثر بروزاً رغم أن الكلمة الأولى والحضور الأول لله.) ” 3 “.
ويبقى الإيزيدي الأقرب إلى تراجيديا كونية جعلت من طاوسي ملك شهيداً كونياً لها بهدر اسمه ليكون الشيطان، إذ مع بقاء الأول ينعدم كل ما هو مسجَّل كونياً من منظور منطقي، وبروكا حين يتحرك في الاتجاه المعاكس فكأنما يرفع صوته قائلاً: ثمة خطأ لا يُغتفَر، باسمه تُرتكب الجنايات الكبرى، والجرح فاغر فاه، وأن لا بد من النظر فيه، فلا يكون المتكلم محسوباً على الإيزيدية، إنما على الحقيقة التي يشدد عليها كبار المعنيين بالشأن اللاهوتي، ويضحّون بها.
الاعتراض إذاً في التقابل القسري بين الشر المعرَّى والخير المجمَّل والمغطى ( جبروت خير الإله الإيجابي.ص29)، وربما تصل الحالة ببروكا، وكونه المأهول بمأساة شعب وليس عن نفسه يكتب فقط، إلى ما هو إعلاني وهو أن التجلي كمحام اضطراراً عما يخص موضوعه ( الإيزيديون لا يعرفون الشيطان كأصل للشر، كما يُشاع عنهم، ولا يعبدونه كـ” إله مستقل ” عن الله/ خو ه دا/ أزدا، باعتباره رأساً للإيزيدية الكلانية. هم يعتقدون بالله باعتباره ” إلهاً كثيراً ” ليس لهم إلا أن يعبدوه في كليته باعتباره ” أصلاً ” للعالم وخالقاً له، بخيره وشرّه .ص 35 ) .
الكثرة مفهوم تركيبي، والتركيب معزّز للتأويل، وفي التأويل ثمة تحرك إلى خاصية بدئية، إلى مقاربة مميَّزة بروح المغامرة، واعتبار المسمى كثرة في الوضع الإلهي، فإنما لأنه يضم إليه الجهات وكل الكائنات ويتنفسها، إنها حيث يكون العالم: الدازاين ” الوجود هناك، بمفهوم هيدجر، ربما،أي ما يخرج المرء من خاصية الموجود المؤطَّر فيه، ليعايَن في تلك البنية الثقافية التي تسهم في تشكيلها لغات العالم كافة، فالله الذي يُحسَب، بمعياره الإسلامي رصيداً روحياً بشرياً عموماً، من شأن الإله المطلق أن يُنظَر إليه كثروياً، إليه ومنه يكون الحراك البشري، فطاوسي ملك يُردِم الهوة بينهما .
ربما نتلمس نوعاً من العناد، وهو بحثي، في أسلوب كتابته، سوى أنه محال على رؤيته لموضوعه، ولهذا المتراكم تاريخياً من خلاله، كما لو أن التاريخ مذ وجِد كان استئناف تلو آخر يخص هذه القضية الأزلية بنوع من التوأمة الفكرية والنفسية، وأن تكتب باسم الآخر وهو مقيم في الذات، هو أن تتعايش وإياه كما تنفصل عنه لرؤيته في ” كثرته ” !
بين الخير والشر يكون التوحد كما يكون الانقسام جرّاء التعامل الخطأ معهما، لا بل جرّاء سوء إدارة أخلاقية التسامح التي تعتمد على التنوع، على الإله الثري بمفاهيمه، ويظهر أن الثنائية رافقت تاريخاً طويلاً وأشهرتها في العمق، كما لو أن الإنسانية لا يُراد لها أن تظهر على حقيقتها وهي أن كل ما يُسمى دينياً يصدر عنها، كما الحال في مفهوم الإله، وأن مفهوم ( الانشطار الميتافيزيقي .ص64 )، كما ذهب كارل غ. يونغ، يتركز على الرؤية الخاطئة للموضوع، وكما الحال قبل ذلك مع خاصية كل من أهورامزدا وأهريمن في الزرادشتية، وهي لعبة الثنائية الصارخة، هي المانوية المحارَبة/ المقاوَمة، وهي مفتعَلة، لأن لعبة الأسماء والمسمّيات تتخلل الكون بتفاعلها، وليس بالفصل الكلي بينهما، ليكون الشيطان المسمى والمعزول لتمرير ما يُراد باسمه وتوقيفاً عليه باسم محتكري الخير بمرجعيته الإلهية.
إن اللغة شاهدة تاريخ صارخة هنا ( كلمة ” شيطان ” عبرية، وتعني الخارق للعادة، أو ” الند “… أو ” الخصم “.. وكلمة ” إبليس ” يونانية، وتعني ” النمام ” وهو تجسيد لروح الشر الكبرى عدو الله والإنسان ورئيس الشياطين الصغار.ص76).
إنها توليفات/ تخريجات لغوية مقحَمة على الايتمولوجيا، من لغة إلى لغة أخرى، كما لو أن العبرية تفهَم بالعربية، واليونانية تعرَف بالعربية دونما ترجمة، إنما بالتعريب.. إذ العبرية رغم اعتبارها شقيقة عربية في ساميتها، لكنها تنقل إليها معنى يتوافق معها، ويكون المدفوع به عبرياً، وهذا ينطبق على اليونانية وغيرها، كما في اعتبار ” الشيطان ” من ” شطن ” أي ابتعد عن الحقيقة/ الخير، وأن إبليس من الإبلاس ” الوقوع في اليأس “، رغم أن إبليس مركَّب المعنى، كما الحال في ” ديابوليس “، حيث يلتقي النقيضان، وهما متكاملان، كما في الحب والكره في المدوَّنة الفرويدية سيكولوجياً، خلاف المتردَّد منذ ظهور الأديان السماوية اعتباراً، والتشديد على أرضية الشيطان ” أسفل سافلين ” وسماوية الله ” سدرة المنتهى “، وهي ميثولوجيا قديمة تراتبية تجعل ما فوق الأرض منيراً يخص الإلهي الخيّر، وما هو دونه ظلاماً، وبؤساً يخص ممثل الشر المحض: الشيطان، رغم أن الأخير موجود في الظل والنور، في الحالات كافة محرّضاً ومحفّزاً، وفي الوقت ذاته مؤثّراً في تبصرة فصل المقال فيما بين الخير والشر من اتصال طبعاً.
ولا بد أن استشهاده بابن تيميه ” ت728هـ”، وهو يفتي بلزوم ( قتال الأكراد والأعراب وغيرهم.ص90 )، على خلفية من هذا التعنيف للآخر وإيذائه، حيث يكون محالاً على الخارج وهو مذموم، أي انطلاقاً من ثنائية صارخة، تفرّق قطعياً بين الخير والشر، ويظهر الشيطان أمثولة في الطريقة المعتمَدة لملاحقة الخصوم ومن هم باسم الأعداء داخلاً أيضاً.
ويبدو أن الباحث وهو في متابعة مفتوحة للمعنيين بموضوعه على دراية ملحوظة بالاختلاف بينهم، تأكيداً على إشكالية الكتابة المركّزة والمستدامة على طاوسي ملك، أو ما أفرِغ من معناه عكسياً: الشيطان، بين قائل باعتباره إلهاً يزيدياً، سلبياً، لتكون الإيزيدية ثمئذ ” فاقة ضالة “..ومن تلمست مغالاة في عبادة الشيطان من قبل الإيزيدية، وذلك في تقديسها ليزيد بن معاوية والشيخ عدي بن مسافر..وفريق ثالث ركز على فرضية الشيطان السامية” وجود قوتين للخير والشر ” حال الزرادشتية.. وأنه طُرد من المجال الإلهي السماوي بعد الخطيئة الكبرى ورفض السجود لله..” ص 105 ” .
إنها إشكالية كبرى حقاً، وربما أمكن القول في المفهوم الحواري، أنها أبعد من كونها إشكالية، أي إنها حقيقة كينونة الإنسان بالذات، بما أن الإشكالية قد توحي بغموض ينصب على ما هو آني، أو ما يقبل انفراج ” الأزمة “، بينما الذي حمّل به ممثّل الشر المحض هو تأبيد الشر فيه، والدفع بالناس في المجمل لأن يشنّعوا في أوصافه، ويتفقون على تنسيب كل ما هو سلبي ومريع ومؤذ ومعد ٍ ومدمّر إلى الشيطان، وما يترتب على ما تقدم من نسيان ما لا يجب أن يُنسى وهو أن الفاعل ليس هو، إنما من يجعله المفارق له، وأن من المستحيل التفريق بسهولة بين المكوّنين للحقيقة.
إزاء ذلك يظهر أن المتصوف كان أقرب إلى رمز التوحيد ” الله ” في مفهومه الإسلامي طبعاً، وهذا ما كان له أن يتم لولا المطرود من ” محميّته ” الكونية، وهي تحمل علامة ” تقبُّل التوبة ” أو ” الغفران “، أو التسامح…الخ، أي : الشيطان، رغم أن مكاشفة يسيرة تكفل للباحث المعمّق نظراً في وضع اليد على الجرح الكبير المغطّي للجسد، وهي أن معرفة الواحد الأحد مستحيلة دون اعتماده بوابة عبور أو صعود إليه، كما لو أن الذي أهبطه إلى الأرض، يتطلب الصعود إليه رمزياً بقوة موازية تماماً، على ” خليفته ” المفترض في الأرض اعتمادها، هي قوته، فهو الأدرى به بامتياز، أي ترسيخ مبدأ قويم، روحي يبصّر بوجوده وهو أن ( الاعتقاد بالله في كونه ” إلهاً كاملاً “، في خيره وشره..ص145 ) .
بروكا يغوص في تاريخ العقائد، ومشتقاتها ومتحولاتها، كما في الميثروية، أي إن الكرد مرتبطون بهذا الأصل المغيب، حيث تتسلسل معان تتمحور فيما هو شمسي ( فلك ذات الشمس، وذات الرحمة والشفقة، وذات الحلف، وذات العقد، ذات الربوبية، وذات الألوهية ..ص166 ).
هذا الاسترسال العقَدي في المتقابلات ينعطف على خاصية الكثرة، كما يظهر، ولأن الشمس في مركزيتها تضيء عالم المفهوم، بقدر ما أن الشمس ذاتها تجمع بين النقيضين: باعتبارها ناراً تحرق وتبيد، وكونها نوراً يحيي ويلهِم، والمفارقة هي أن ربط جهنم بميثولوجياتها النارية الفظيعة تستدعي الشيطان وقوته الرهيبة وكونه نارياً، مقابل ما هو جنتي وهو عالم من نور وأطايب ومشهيات لا تحصى، والجنتي ينعطف على الإلهي: بصفته الخير المطلق طبعاً.
هذا الاختزال للشمس يتجاوب مع عملية الفصل بين الخير والشر، ولدى الإيزيدية تكون الشمس متضمنة القوتين، أي ما يجعل الشمس في الأصل ( مبدأ الخليقة ومنتهاها.ص 184 ).
ويظهر أن بروكا التقط معنى مغيَّباً في حديث نبوي متداول إسلامياً وهو أن ( القدرية مجوس هذه الأمة )، إذ يرى أن اعتماد الحديث يفصح عما لا يطمئن المسلم بالذات، وهو ( أن فكرة الإله في كونه خيراً وشراً على السواء، هي في أساسها إيرانية مجوسية . ص 227 ) .
المجوس يستشرفون عالم النور والنار، كونهم كهنة النار، حرّاسها، إنهم حسّيون إلى أبعد الحدود، مرئيون تماماً، فلا عائق يحول دون التعرف إليهم رغم سمو مكانتهم، كما هي القيمة المثلى للنار المكتشَفة في التاريخ. إذ كل نار هي وديعة شمسية، لكنها ضمناً إيجاز لها وهي نور مثلما أنها نار، وهذا متروك في وضعه لمن يتعامل مع الوجهين .
وقد يشجّع هذا التحديد الباحث على التقدم إلى الأمام والنظر في الجهات الأربع، أي حين تكون النار مفتتحاً للحضارة، ولجعل الأرض أكثر قابلية لأن تدار، فالنار سمحت لأن يترك المكتشف بصمته الروحية في الكون، والشيطان الذي يعزى إليه الكثير سلباً محرّض على الاكتشاف وخرق المألوف، أي ما يدشّن الصرح الحضاري، كما لو أن الأرض التي يتحرك عليها الإنسان ما عليه إلا أن ينتبه إليه ليفطن إلى ما يفيده، لتكون الإشارة الملتقطة محوَّرة ضد الملهِم ، وكأن زرادشت بما أتى على تأكيده مهَّد لمعادلة حياتية مبدأها الكثرة ، وهو ( يدشن لأول ” عقد أخلاقي ” بين أهل الدين وأهل الدنيا، والسماء والأرض، والله والإنسان.. ما أتاح للإنسان مشاركة إلهه، في صناعة العالم وخلقه. ص245 ).
بالصورة السالفة، ومن خلال المتابعة المتأنية والمتشعبة، تبرز العقيدة الإيزيدية مؤالفة بين الوحدة والكثرة ” ص286 “، وهذا يستشرف بنا اللاتناهي من خلال طاوسي ملك الذي شغل صفحات الكتاب، إنه عدا عن تداخلاته مع الإلهي ( يعتبر أيضاً ” الإله الكثير “، كـ” إله من العالم ” أو ” إله يزداد في العالم ” بلا حدود . ص 293 ).
ربما هي أفلاطونية محدثة خاصة، عبر مفهوم فيضي، ومن خلال فاعلية الغنوص: المعرفة التي لا يحاط بها، والإنسان كينونة معرفة، إذ بالمعرفة يكون عمران الأرض، مثلما أن الهبوط إلى الأرض لمباشرة التأثير كان على خلفية معرفة بنية ” الشجرة ” الاستثنائية، تمييزها عن غيرها، وكأن ثمرتها كان على انتظار اليد الممتدة وهي أنثى، والأنثى ذات خاصية شجرية، أو طبيعية عموماً، ويدها أكثر من مجرد يد وهي تبصر الشجرة بمعونة ” شيطانية “، والشيطان في الدفع بها وهي ” حواء ” نحو الشجرة الخاصة ” شجرة اللامفكر فيه “، كان ينطلق من واجبه العميق بما أقدم عليه، وهو إحاطته بالموجود ومغزى الوجود، ليحصل التداخل بينهما، والتحذير منها لأنها مأهولة بذاكرة تسمّيه.
ولا بد أن بروكا بصياغاته الشعرية في صفحات كتابه ظل وفياً للشاعر فيه، لم لا، أليس التعامل مع ” الشيطان ” نفسه يتراءى محرَّراً بروح التمرد على الواقع ، وموصولاً بالوعد، وعد الإتيان بالجديد والمغاير ؟
الباحث بروكا في ارتحالاته التاريخية وصحبة متخيله النفسي، لا يخفي هاجس التخوف مما يجري، تخوف كثير على بشر ذنبهم الوحيد هو أنهم حريصون على عقيدة، وهم يخلصون لها، وأن استمرارهم مشاريع قربانية لمن يسعون إلى تفريغ شحنات شرورهم فيهم، إنما يترجمون ما ليس تسامحاً، ما يُسمى بالخير، بقدر ما أنه يلوّح بحقيقة تتعداه، ويسعى من خلالها إلى أن مجرد النظر في الويلات المفعَّلة في الإيزيدي يكفي برهاناً أن طاوسي ملك نفسه أضحية لخير مزعوم يسمي جريرة تاريخية تفصح بين فترة وأخرى عن مدى عنفها الدموي، كما تجلى ذلك بنوع من الهستيريا المبارَكة والشعائرية مع إيزيديي شنكَال مع مطلع آب/ أغسطس 2014، من قتل وتشنيع ونهب للممتلكات واعتداء على أعراضهم وسبي نسائهم وعرضهن في سوق النخاسة، كما لو أن التاريخ العقيدي ” المتأسلم ” توقف عند نقطة واحدة، في تجريد الآخر من إنسانيته، وهذا يحتّم على الكردي أن يفكّر ككردي، ومن خلال بيئته ومعتقده المنبعث منها قبل كل شيء!
ما ليس لغزاً :
من حق الباحث الكردي الإيزيدي بروكا، من حق الباحث بروكا أن يفعّل كثيره المعرفي فيما يعنيه في مكاشفة الكثير الكامن في ” طاوسي ملك “، والكثير ثراء ونفي للفقر في المفهوم، كما أنه نفي للجهة الواحدة والضيقة الأفق حيث منها يتحدد مقامه، وليكون التوصيف اللافت، ولعله الغريب في ضوء التسمية ” طاوسي ملك: الإله الرمادي “، والرمادي لون ترابي، عدا عن أنه لا يُتبنى بسهولة، إنه اللون المكشوف، الصريح، جهة الكثرة، كما لو أن الكثرة هذه شهادته في التبريز والمفارقة غير المفهومة ( ..هناك إله كلاني في كل إلهي واحد، متمثل في صورة إله رمادي كثير. الإله الإيزيدي، هو كثير إلهي في واحد وواحد إلهي في كثير.ص49 ) .
وربما من هذا المنطلق، يظهر أن ما كان ويكون لغزاً ليس لغزاً، لأن فكرة الكتاب، كما هو مضمون كتابات الباحث، تتمثل في اعتبار أن ثمة ما ينبغي توضيحه، أي فك اللغز، كما لو أن الذي استهل به مؤلَّفه” الكثير في مغذياته الأركيولوجية والعقيدية “، وانتهى إليه، يفضي إلى اعتراف المخاطَب، وهو يهابه ولا يقبل به بحقيقة ما أظهِر له خلاف ما كان يثيره. إن الوضع يتعدى هذه الصيغة غير الخاطئة بالتأكيد، لأن مفهوم اللغز ربما يحفّز كثيرين للإصغاء إلى صوت المتحدث باسمه أو عنه، ويقرأون له، بنوع من الفضول، إنما هنا يكون الحال مغايراً بشأن الضدية غير القابلة للاستئناف أو المراجعة، حتى بالنسبة للكردي المسلم بالذات في نسبة ” كثيرة ” منه، يأتي لإيذاء كردّيه من وازع ديني، وكأن الدين ميزة قومية، بينما الحال كذلك مع الذين جعلوا دين جوهر حياتهم والوجه الآخر لقوميتهم ” العرب- الفرس ..”، وصهر الدين فيما يميزهم قومياً في الصميم، بينما الكردي يرى في إيزيديته ” لوثة ” يحاول ” التطهر ” منها.
هذا يقرّبنا من علم الاجتماع الديني، ومما هو انتروبولوجي، حيث النظرة إلى الآخر تتمثل في كيفية التعامل معه دون تعريضه لأحكام معيارية على حساب العقيدة والتي لا تحول دون استمرار هذا التعامل. نعم، في بنية الإيزيدية ميزة خلافية لدى الذين دأبوا على تقويم المؤمن بها على أنه حجر عثرة إيمانية في طريقه، ليستمر الإجهاز عليه، كونه جهادياً إلى يوم الدين.
في الجانب الآخر، يغدو من الصعب تحرير ” الشيطان ” من أسر المعنى المركَّب عنه في أذهان الذين يعتبرونه الخميرة التي تعينهم في التعبير عن أشد المواقف ترجمة لإيديولوجياتهم: الشيطان الأكبر المتمثل في أميركا بالنسبة لإيران، أو الشيطان الإيراني بالنسبة لأميركا، أو أخوان الشياطين ، وهي العبارة التوصيفية الذائعة الصيت من قبل النظام السوري لأخوان المسلمين في ثمانينيات القرن الماضي، ولتكون صلة الوصل قائمة بين ما كان منذ آلاف السنين إلى اليوم، داخل الجبلّة البشرية بمقياس لاهوتي معمَّم تقريباً، أي حين يصبح الشيطان ضرورة حية للتعبير عن عالم كامل، وعن تصرفات لا تعايَن إلا من هذا المنظار، وعلى مستوى عناوين كتب تجد في الشيطان تطعيماً إغوائياً للتعبير عن المبتغى: ابن الجوزي في كتابه العقيدي ” تلبيس إبليس “، وكذلك الحال مع ابن عربي ، في كتابه ذي النزعة الصوفية ” تفليس إبليس “، وعباس محمود العقاد في كتابه التاريخي ” إبليس “، ونجيب محفوظ، في مجموعته القصصية ” الشيطان يعظ “، فراس سواح، في كتابه البحثي ” الرحمان والشيطان “، وما في ذلك من إشكالية علاقة لها تماس مباشر ببنية العقيدة، وكامل مجدي، في كتابه ذي الطابع الفلسفي ” فردريك نيتشه شيطان الفلسفة الأكبر “، وهو تصريح خطي في الإعجاب به، حيث الشيطان يبرز البطل المقاوم للسائد، والأطروحة الجامعية لفتحي المسكيني ” الشيطان ىفي الديانات الكتابية، وكذلك الحال مع ثامر الغزي ” كاريزما الشيطان “…الخ ” 4 ” ، وأجنبياً، ثمة ما لا حصر له من هذه العناوين، إبليس في التحليل النفسي، لفرويد، والشيطان، لجول بيساج، وصورة الشيطان، لبرناب بارنيس، وقاموس الشيطان، لامبروس بايرس، وليليت أو حواء الأولى، لميشيل بوتّون، وتاريخ الشيطان، لدانييل ديفو، والموت والشيطان، لبونيو جينير، ومن الشيطان إلى الله، لأدولف ريتّيه، وإبليس في الجنة، لجورج رو، وأسرار الشيطان، للويس اولباخ، وفرويد والشيطان، لورتوبي، ووجوه الشيطان، لجان فيردون ..الخ.
نعم، ثمة جمهرة عناوين تمثّل دراسات مختلفة في مضمار الشيطان، ولعل الذي شدَّد مفكر وفيلسوف مثل بول ريكور، جهة تحري الشر وأصوله، يلهمنا، حيث يحضر مفهوم الغفران، ويكون الشر حاضراً في القول والفعل، ومعه غفرانه المتناسب مع نوعه وحجمه وموقعه، وبما أنه ( لم يثر أي موضوع باستثناء الحب والموت أبنية رمزية مثلما أثار الشر .) ” 5 ” .
وربما جاء هذا التفريق إلى جانب التراتبية في القيمة إجرائياً، لأن الحب وكذلك الموت لا ينفصلان عما أثير آنفاً، الحب باعتباره قيمة أخلاقية واجتماعية وفاعلاً نفسياً، يتداخل أشد التداخل مع الموضوع، والموت كمعطى بيولوجي إلى جانب كونه مأثوراً ملوَّناً بالديني يستدعيه أشد الاستدعاء، لأن ثمة الحساب، والحساب يعوَّل عليه من هذا المعبر المهيب والرهيب.
ربما كان ويكون فحوى الموضوع، كما هو عنوان كتابه ” الذاكرة، التاريخ، النسيان “، ترجمة فعالة لثالوث لا يغفَل عن جاذبيته، إنما عن المطلوب التنبه إليه، فالذاكرة عتبة تاريخ، والتاريخ تحويل من المذكَّر إلى المكتوب، كما لو أن ذلك مقاومة للنسيان بالمقابل.
يعني ذلك في المسار الذي انشغل به الباحث بروكا، وهو مسكون بهمه الجمعي: الكردي الإيزيدي كثيراً، أن الذي يصار إلى مقاربته هو كيفية إضاءة الذاكرة، فثمة كثير ومفصلي لم يؤرَّخ له، وهو المتعلق بأرشيف الشيطان والنظرة إليه، وهو خلاف المقصود، وأن النسيان يجب أن يمارَس له تفكيكاً من الناحية الأخرى وهي أنه بقدر ما يذكَّر بالشيطان، يتجذر الشر في حياتنا، وتفتقر المحاسبة بمعناها القانوني والاعتباري لمرتكب الجنايات، إذ يحال جانب كبير من الجناية وقد تكون فظيعة، إلى نوازع تسمّيه، لتخفيف الجرم أو الإثم، كما هو الملحوظ في مجريات حياتنا اليومية، وما يرتبط به من تهرب من المسئولية، إذ على قدر تسميته تفقر الحياة بالذات، ويضحل معنى الواقع، وتكون الطاقة الإيجابية في العمل والتفكير متنحاة عن هدفها، خلاف الجاري في الغرب على أكثر من صعيد، لأن الوقوع في الخطأ يعايَن قانونياً، وليس كما هو المعهود كثيراً في حياتنا، فكرسي الأستاذية النفسي الأبدي والموهوب للشيطان ليس حباً به ولا توقيراً لاسمه، وإنما لأنه لولا وجوده أو انوجاده لما كان هذا الموضوع، أو لما كان في الأساس عنوان شغلنا ويشغلنا مثل ” لغز طاوسي ملك ” للباحث الصديق هوشنك بروكا .
هذا يواجهنا بأنفسنا وتكرار السؤال مجدداً: هل نحن البشر شيطانيون حقاً، أم ماذا ؟
في ” لغز طاوسي ملك “، ثمة إضاءة ملهِمة لهذا السؤال والمفتوح على الجهات/ جهاتنا كافة !
مصادر وإشارات:
1-الغزي، ثامر: كاريزما الشيطان” بحث في تمثُّل الإنسان لأصل الشر “، جامعة سوسة، تونس، 2012، ص5-426.
2- صدر الكتاب عن دار تموز، دمشق، ط1، 2014، ويقع في 300 ص ونيف، من القطع الوسط، وما يجب أن ينوَّه إليه هو أن مفردة ” طاوسي ” بمعهودها الكردي، تتهجى بصيغ أخرى، فبروكا نفسه في كتابه: ميثولوجيا الديانة الإيزيدية، ألمانيا،1995، في المبحث الثاني من مؤلَّفه هذا يورد صيغة أخرى: طاووس ملك: أكبر آلهة الإيزيدية، صص 37-83، بينما لدى الباحث القدير زهير كاظم عبود، فنقرأ صيغة مختلفة في كتابه: طاؤوس ملك رئيس الملائكة لدى الإيزيدية، 2005، وكذلك الليدي درور، في كتابها: طاووس ملك اليزيدية،2008…الخ، وهذا يتعلق على نشأة المفردة بلغتها الكردية وتشعبها التصويتي.
محمود، ابراهيم: تقديس الشهوة ” الرموز الفلكية في النص القرآني “، منشورات الريس، بيروت، ط1، 2000، الفصل الرابع: الميثولوجيا الفلكية في العوذلة والبسملة، ص364.
4- من المفيد بمكان أن أحيل القارئ إلى وقائع الندوة العلمية الدولية المحكّمة، والتي أقامتها جامعة القيروان: تونس، في 20-21-23 فيفري 2013، تحت عنوان مؤثّر، وهو ” الشر: القيمة والخطاب “، ج1، ومن خلال خمسة عشر بحثاً، كما في : الشر قيمة أدبية: قراءة في التراث النقدي العربي، للبشير التهالي، والأنثى ولعبة الشر في النص الديني المقدس: حفر في جذور الشر وصوره، لزهرة الثابت، ورمزية الشر في العهد الجديد من خلال أمثال المسيح ورؤيا يوحنا، لفتحي المسكيني..الخ، أي ما يقرّبنا من منابع الشر ورؤيا ممثله، وتبقى المفارقة في تشغيل القوى العائدة إليه ” الشيطان “، فمن دونه ما كان الشر قائماً، ولا كانت الندوة، كما يظهر، وهذا يبقيه ” شهيداً كونياً، إن أصغينا إلى جبران خليل جبران وحديثه عنه ذات يوم.
5- ريكور، بول: الذاكرة، التاريخ، النسيان، ترجمة وتقديم وتعليق: د. جورج زيناتي، دار الكتاب الجديد، بيروت، ط1، 2009، ص 671.