سبقها مرحلة عرض فيها الإنسان ذاته كإله، في الفترة التي لم يكن قد نضج لديه مفهوم الإله الروحي. ومع التطور الفكري، قلص من ذاته الإلهية وأرتقى بالإله الروحي، وهي مسيرة متعاكسة ومتقاطعة، لا تزال مستمرة في صراعها الجدلي، فكلما عليت ووسعت لا محدودية الإله، تناقص الإله في الذات البشرية، وتحول التجسيد إلى الروحانية، فبقايا عبادة الفرد الجارية هي نهاية مراحل تأليه الإنسان لذاته، وخروجه من التجسيد إلى الروحانيات، وتحرره من عصور العبودية، إن كان من الإله أو الإنسان الإله، ودقائق قدراته تغيرت في المفاهيم البشرية على أبعاد قرون، وعرف بحدود أضيق من أن يتقبله عقل الإنسان الجاري أو القادم عصوراً، وتناسى أو لم يكن يدرك تعريف الإله على الأبعاد الزمنية الكونية وقدراته على سويتها، فالإله الكوني، أرتقي تعاريفه مع تزايد المعرفة البشرية، وتبين في العهود المتأخرة بأنه أوسع من أن يحصر في تعاريف الأديان له، بل وحتى أصبح في عصرنا أوسع من مجالات أرقى التكنولوجيات، وتوضح بأنه كلما توسعت معارف الإنسان، وازدادت اكتشافاته، وتراكمت معارفه، تتوسع لا محدودية قدرات الإله، وأصبح يخرجه الإنسان من لا محدوديته، وخاصة تلك المعروضة في الأديان والكتب المقدسة.
التغيرات في كليتها مرتبطة بقدرات الإنسان العقلية، كما ذكرنا آنفاً، فعندما لم يتمكن وضع تصورات عن الإله الكوني الذي لا يميز بين مجموعة وأخرى، والذي لا حاجة له بعبادة مخلوقاته الدونية، عرضه الإنسان بمنطقه لتشذيب الذات، فتوسع التعامل البشري الفوقي بين بعضهم، وبينهم وبين الإله الإنسان ضمن واقع تجسيده، وحصر الإله في هذا المجال لفترات طويلة ولا تزال مخلفاتها طاغية في بعض الأديان ومتفاقمة في بعض المذاهب. والإله هذا أو ما خلقه الإنسان، الذي يقسم البشر بين الطيب والسيء، بين المطيع والناكر أو الرافض، بين المرسل إلى النار أو الجنة، الإله الذي لا يغادر الأرض، والمنقب عن التمييز والتفضيل وإلغاء الأخر، إنه الإله البشري، نبع من ثقافته المحدودة، وهي من دلالات عدم الكمال الفكري والمعرفي، فالمحدود العقلي لا يستطيع أن يحيط بأبعاد اللامحدود، ولا قدرة له مهما تعالى أن يوصف الإله، وكل الأوصاف تغرق في الأبعاد الإنسانية الضيقة مقارنة بالأبعاد الكونية، فالمقال ضمن الأديان هي مجالات بشرية، وقوانينها بشرية، والإله الكوني لا غاية منها، وما عرضت من الأديان وعن الإله وضمن الأديان هي إبداعات بشرية، عبقرية بثورة في عصرها، ويبقى السؤال: هل عرض الإله ذاته على سوية عباده؟ وتبنى الإنسان عملية النقل أو العرض هذه على هيئة أنبياء ورسل؟ وما الغاية منه، يدفعهم ومنذ الخليقة الأولى على قتل بعضهم البعض؟ وهل كل هذه المآسي على الخلافات الروحية، يعبدونه أو لا يعبدونه، تحصل بأوامر منه وعرضها الإله عن طريق رسل بشرية؟ أم أن الإنسان هو الإله ذاته؟ وهو المذنب الأول والأخير في كل المآسي؟ وهذا ما يركز عليه العلماء المتصوفون.
في الأبعاد الكونية، حيث المطلق الإلهي، لا يحدده شريحة تعبده، بطقوس قوننها الإنسان لذاته، واقنع من حوله بمفعولها على النفس. لا إله مطلق القدرات، يفضل أن تعدم شريحة مجموعة منافية تكفر به أو لا تعبده بالطرق الإنسانية، ولا إله خالق لأديان وقوانين تجير لمجموعة نفي مجموعة أخرى من عباده، وهو القادر على تشذيب المجموعات وتغيير مدارك الجميع بما يريده، حسب منطق الأديان، ولا فرق هنا بين القدريين والجبريين فالنهاية هي القوة الكلية الإلهية، ولا إله يفرض ذاته على عباده بطغيان شريحة تتقرب منه بطقوس إنسانية، قد لا تحتضن أبعاد المثاليات في التعامل البشري، وبعد عبادته، يجيز لهم سبي الأخرين، وقتلهم أو إخراجهم من مملكتهم، وهو ما يميز بين مملكة إلهية وجزء من الأرض لا تتبعه. الإنسان بين منطقين، إما أن الإله متجسد في الإنسان، وهنا يجيز لذاته كل الأبعاد، أو أن الإله خارج أبعاد الإنسان، وما يحصل وأدعي بالقوانين الإلهية والأديان هي تكوين بشري، وهي نسبية قابلة للتغير والتعديل لتتلاءم والتطور الفكري الثقافي والمعرفي للبشري، بالمطلق الإسلامي والأديان السماوية الأخرى، وكتبهم المقدسة، حملت مفاهيم كانت ثورية في بعضه في عصورهم، وهي الأن تاريخية لا يسند إليها في قوننة حياة الإنسان.
بعد الإنجازات العلمية والاكتشافات، يكاد الإنسان المعاصر أن يتجاوز، مفاهيم التناقض الإلهي الوارد في الأديان، فقد بلغ مراحل فكرية تظهر المفروض على الإنسان دينياً تناقضات تتلاءم والأبعاد البشرية، حتى ولو فرض جدلاً، إملاءات إلهية بصبغة بشرية، لكنها تبرز بأحكام مخالفة مع القدرات التي بلغتها المعرفة البشرية الجارية. فما بين الإله اللامحدود، والمتشكك في حدود أسئلته لعباده عن بعض المواضيع الأرضية، المتناقضة مع قدراته الكونية اللامتناهية، حتى خارج قدرات العقل البشري، فتفرض اللامعقولية ذاتها على أمور متنوعة أغلقت عليها ضمن إله بقي محصورا في مفاهيم عصر العبودية، والعديد من المواضيع الدينية المقدسة في الأديان، حتى ولو كانت نسبية متلائمة لقدرات العقل البشري، على مر العصور، تظهر محدوديتها البشرية، وتلغي اللامحدودية الإلهية، وذلك بعد مراحل المعرفة البشرية ما بين فترات ظهور الإله الروحي وتراجع قدرات الإله البشري، فتضع الإله المذكور في النصوص المقدسة في محرق النقد والتشكيك، وتظهره حاضرا بضعف أو متناقضاً أمام المعرفة البشرية الحاضرة للكون، وماذا ستكون عليه الأسئلة في القرون القادمة وعلى بنية التصاعد المعرفي الهائل للبشرية؟ ومنها السؤال الدائم الحضور، غاية الإله من الخلق، كما ذكر مرارا بأنه خلق الإنس والجن لعبادته، ومنطق العصر الجاري يكاد أن يتجاوز محدودية الإله المعروض في الأديان وعلى مر العصور السابقة، رغم ما وصف باللامحدود القدرات، لكنه عاجز في بعضه ولا محدود القدرة في بعضه الآخر، ويعيد السؤال نفسه ثانية هل الإله الكوني بلا محدوديته الكونية بحاجة إلى عبادته؟ من مخلوقات تعيش في إحدى أصغر بقع الكون، وهل يتلاءم هذا السؤال مع منطق العقل البشري الجاري، رغم تقبله في أبعاد ضيقة، وهل ما يقبل في عصر العبودية، يمكن قبوله حاضرا أو مستقبلا؟ …فيظهر السؤال المشاكس والخالق لكل أنواع الصراعات، هل الأديان من صنع الإنسان المتآله أو منزل إلهي، وهل الكتب المقدسة، مقدسة فعلا أو فرض تقديسه بذكاء الإنسان المتأله؟ والشك هو من دعائم المعرفة…مقابل هشاشة الأحكام المطلقة…
يتبع…
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
28/7/2015
نشرت في العدد 39 من جريدة (بينوسا نو) الناطقة باسم رابطة الكتاب والصحفيين الكرد في سوريا.