وهو ما يتقبله شريحة قليلة من المتدينين: إما قبول التغيرات في ذاتها والتلاؤم مع مجريات الحضارات وتراكم المعرفة، والمؤدي إلى تغيير في مدارك البشر وثقافاتهم، أو يجب أن تتقوقع وتصبح حالة روحية بحتة، وتتخلى عن قيادة المجتمع، وعلى الأغلب هذه هي مصيرها، وتظهر من خلال ما تحصل للمسيحية واليهودية وغيرها من الأديان الأخرى، وهو مصير الإسلام في قادم الزمن. وتبقى تجربة أوروبا ومسيرتها الفكرية حيث مراحل الصراع بين العقل والنقل، أو العلمانية والروحانية، وبلوغ مرحلة التوافق المبدئي، كتمهيد لظهور مرحلة تقبل الأخر كما هو، أقرب الممكن في المناطق الأكثر تشددا في الدين، وحيث تزايد مفكرين يناقشون على سوية توما الأكويني وأبن رشد في النقد والتحليل.
نقاط النقص في الأديان، مثل الإلغاء المطلق عند العلمانيين الرافضين للأديان والروحانيات، ملهميها وقادتها، لم يبقوا أبواب التغيير والتعديل مفتوحة لتتلاءم والتطورات البشرية الثقافية، لكنهم أشد تطرفا، يرفضون فكرة البحث عن نقاط التوافق في تهجماتهم، وهي إشكالية تزجهم في صراع دائم مع الأخر المختلف معهم، مثلما تجرهم الأدبيات المقدسة إلى صراع ذاتي ما بين البعد الإلهي المطلق والأبعاد الإنسانية النسبية. ولربما لمحدودية العقل البشري، لم يتمكنوا من عرض الإله الكوني كمتغير يتلاءم والتطور البشري أو العامل على تطويره، وعليه فإمكانية التغيير في إملاءات المتدينين المقدسة، وهي الكتب السماوية، لا تتعارض والتلاؤم مع طفراته العقلية. والإشكالية ظهرت منذ البدايات، عندما انتقلت الأديان من مرحلة الانتشار بين المجتمعات كمفهوم روحي مختلف عن السائد حينه، إلى مرحلة تسييسهم، وتسييرهم وقيادتهم في الحياة، وبدأت المذاهب والانقسامات الفكرية والتأويلات، والصراعات المؤدية إلى مجازر بين أصحاب العقيدة نفسها أكثر مما هي بينهم وبين الأخرين، وهي الدلالة العظمى على النقص في الأديان وقوانينها الجامدة، وأنها بشرية بصبغة إلهية، وليس مطلق الأبعاد، ويحل عزله عن سيادة المجتمع مثلما فرض بالسلطتين الإلهية والبشرية.
العقل البشري تجاوزت قدراته المعرفية حدود القوانين الدينية، والكتب السماوية، ورغم كل التأويلات لا يتمكن من مسايرة التطورات الحضارية. كما وخروج الإنسان من مرحلة العبودية، إلى حرية الفكر، أدت إلى التفكير في عملية اعتناق الروحانيات، أو التقرب من الإله، عن طريق الطقوس الجسدية المفروضة، والعاكسة لمرحلة طغيان مفاهيم العبودية والسبي والتمييز بين البشر، وعبادة الأصنام. فالإلهة الموجود في الذات البشرية أعمق وأوسع من أن تفرض بسجدة أو الوقوف أمام أصنام جسد فيه الإله، والتي لا تزال تعكس مرحلة كانت ما بين الأصنام والروحانية. فالتطور الفكري للإنسان وكمية المعلومات المتوفرة حاضرا وما سيظهر مستقبلاً، بلغت في معظمه مرحلة رفض العبودية، وبالتالي رفض الطقوس أمام الأصنام، إن كانت متجسدة أو روحية يتطلب من العابد التمثيل أمام البشر ليتقبله الإلهة، عبدا مطيعا، يحرم قتله أو سبيه، وأصبح يلج عصر معرفة الإله على أبعاد أشمل من اللامحدود البشري الماضي.
فالمجسدون يرفضون التغيير، ويتقوقعون ضمن الأبعاد المطلقة لمفاهيم الأديان، يشلون فكرا وروحا عند المتغيرات الروحية أو التعديل في أبعاد عبادتهم ومفاهيمهم عن الإله، ويعدونه تعرض مباشر لإلههم، وفي العمق هو خوف على تغيير جوهري لذاتهم الرافضة لمجريات التطورات الحضارية، حتى ولو كانوا يعيشونها مادة لكنهم أسيرو روحانية جامدة، فيضطرون إلى مجابهة الموجة الثقافية باستخدام العنف الفكري، والجدالات المبنية على نهجهم المحدد، لا تختلف في كثيره عن استخدام العنف الجسدي وخلق الإرهاب، والطريقتان تندرجان ضمن عملية رفض التطورات الثقافية والطفرات الفكرية، وهي لا تختلف عن صراع الأولين عند ظهور الأديان، فلا يستطيعون تقبل مفهوم العلاقة الروحانية خارج مجالات العبودية، وهم في عمقهم يتقمصونها، فهم عبدة أديان لم تعد ملائمة لتطورات العصر، يعيشون الحاضر بروح الماضي.
الإله الكوني، وحيث اللامحدود، أبعد من أن يعرض جزئيات حياة فرد على الأرض، ويتحدث عن علاقته الزوجية، أو الزواج من سبية، ليعلم عباده جميعا، ويقسمهم إلى كافر ومؤمن، قاتل ومقتول، رواد الجنة أو الجهنم، حتى ولو فرض جدلاً حقيقة هذه، فلابد وأنه سيكون على مقدرة بالمستقبل، والتطورات التي ستجري على الأرض، والطفرات التي سيحدق للعقل البشري، وعليه كان على مقدرة بوضع قوانينه الإلهية للبشر لتتلاءم وكل الأزمنة، أو أنه قصد أن يكون البشر في صراع دائم وتستمر المآسي على الأرض وأن لا يخرج الإنسان من تكالب المعاناة، وهل يمكن تقبل فكرة أن الإله خلق البشر ليقتلوا بعضهم البعض ويتلهى بالصراع ليفرزهم ما بين الجنة والجهنم. أو أن الإله أعلى مقاما من اللامحدود البشري ذاته، وأبعد من أن يكون صاحب الثقافات الدينية الجارية على الأرض، والتي أفرزت الإرهاب وعلى مر العصور.
الإسلام السياسي الذي أفرز منذ ظهوره، العديد من المنظمات الإرهابية، والمجموعات التكفيرية، لا علاقة لإله الأنبياء به، كما يعرضه البعض من الأئمة والفقهاء، لكن له غاية من ظهورها، مثلما كانت غايته من طوفان نوح، وإغراق كل من عاند نبوته، وهو نفس الإله الذي خلق قوم لوط ودمرهم، وغيرها من قصص المجازر الجماعية، والتأويلات المتنوعة، تضع الإله في زوايا متنوعة، وكل يسندها بآية أو أخرى، مثلما فعلتها المسيحية في عصر الظلمات حيث محاكم التفتيش، واليهودية قبلهم، عندما صارعت فيما بينها على الحكم، وجعلوا أنبياءهم يتصارعون وشعوبهم. فالإسلام لا علاقة له بالسلام، بنيت على ثقافة كانت غارقة في السبي والنهب، والغزوات، وما عدل فيهم بالنسبة لترك الفترة الزمنية سلام مقارن، واستمراره على نفس النهج، دون تشذيب، أخرجه من عباءته، وهو الأن غارق في منطق الحرب، والقتل، ورغم عدم وجود إحصائية، بوضع نسبة المؤمنون بنشر الإسلام عن طريق الحرب وفرضه بالإرهاب أو مجابهة الأخر بها، إلا أنه يتبين ومن خلال عدد المنظمات التي ظهرت وعلى مر التاريخ الإسلامي أنه يعيش في بيئة تؤمن بالحرب مبدأً، ويستثنى منهم قسم المؤمن بالرحمة، فالإرهاب سيبقى وسيستمر مادامت البيئة موجودة، والمنبع إن لم يكن مليار ونصف إلا أن المؤمن بمحاربة الكافر لا يقل عن المليار، وردع الكافر عن طريق الحروب أو بالقوة وعدم التوقف إلا بعد سيادة الإسلام على جميع الأرض يؤمن به كل مسلم، وهو ما لا يمكن تقبله على أن الإله الكوني وضع مثل هذه القوانين الخلقية لعباده، مثلما يرفض الفتاوي التكفيرية وعمليات القتل والتعذيب بأعظم علماء المسلمين الكبار، ونذكر بعض من كفرهم الأغلبية المسلمة وقادة الإسلام السياسي وعلى مرى التاريخ ومنهم( الرازي والخوارزمي والكندي والفارابي والبيروني وابن سينا وابن الهيثم والغزالي وابن رشد والعسقلاني والسهروردي وابن حيان والنووي وابن المقفع والطبري والكواكبي والمتنبي وبشار بن برد ولسان الدين الخطيب وابن الفارض ورابعة العدوية والجاحظ والمحريطي والمعري وابن طفيل والطوسي وابن بطوطة وابن ماجد وابن خلدون وثابت بن قرة والتوحيدي وابن العربي وغيرهم ..ولم نذكر أسماء علماء القرنين الأخيرين. وعلى أيديهم قتل الطبري، وصلب الحلاج بعد أن قطعت أوصاله وهو حي، وحبس المعـري، وسفك دم أبن حيان، ونفي ابن المنمر، وحرق كتب الغزالي وابن رشد والأصفهاني، وتم تكفير الفارابي والرازي وابن سينا والكندي والغزالي، والسهروردي مات مقتولا، وقطعوا أوصال ابن المقفع، ثم شويت أمامه ليأكل منها قبل أن يلفظ أنفاسه بأبشع أنواع التعذيب، وان الجعد بن درهم مات مذبوحا، وعلقوا رأس (أحمد بن نصر) وداروا به في الأزقة، وخنقوا (لسان الدين بن الخطيب) وحرقوا جثته، وكفروا (ابن الفارض) وطاردوه في كل مكان. ” الأسماء منقولة عن صفحة الشاعرة الكردية سوزان جميل”..) وهذا يدل على أن الدين في مرحلة معينة يبلغ حالة الجمود الفكري ويعادي التطور، وبدل أن يرتقي بالشعوب يصبح أداة إعاقة وتخلف، وهو ما حصل في عصر الظلمات في أوروبا وقامت المراكز الدينية بتكفير غاليليو وجيوردا ونويرنو وكوبرنيكوس وسبينوزا ونيوتن وديكارت وفولتير وغيرهم وحرمت كتبهم. وكلما أرتقت البشرية فكرا وتطورا ثقافيا تصاعد لهيب الصراع، وتأكدت أن القدرة الإلهية لا علاقة لها بالقوانين الدينية، ويجب أن تزال عنها صفة التقديس، وإدراجها ضمن الثورات التي لم تعد عامل التطور، بل عامل سلبي لإعاقة التطور البشري، وأن أمنا بنظرية الجدلية التاريخية والتطور البشري، فبقوة أو دونها ستدرج الأديان كثورات انتهت مهمتها، والبشرية ستعزلها، لتأتي بروحانية تقبل تطورات الفكر البشري، وتساعده على الانتقال إلى مراحل أعلى وأرقى، ولربما غاية الإنسان هو الوصول إلى معرفة غاية وجوده على الأرض، عندها سيلتقي الإلهين، الإله الإنسان والإله الكوني.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
28/7/2015
نشرت في العدد 39 من جريدة (بينوسا نو) الناطقة باسم رابطة الكتاب والصحفيين الكرد في سوريا.