جكرخوين في آخر مظاهرة له في قامشلي:

إبراهيم اليوسف
 
ثمة  عالم آخر للشاعر الكردي جكرخوين، يكاد لايعرف عنه الكثيرون من أحفاده وأبنائه، من الأجيال الجديدة،  فهو لم يكتف بقصيدته التي كان لها فعل النار في الهشيم في مواجهة الاستبداد، والتجهيل، والظلم، والقمع، بل وفعل السحر، أيضاً، حيث عرفت هذه القصيدة بأنها لعبت دورها التوعوي في صفوف أبناء شعبه، رغم توجهها المنحى الإنساني، حيث كان جكرخوين رائداً لذلك الفكر الكردي الذي أسس لمعادلة صحيحة، متوازنة، بين ماهو إنساني وما هو وطني وما هو قومي. هذا العالم الجكرخوني الآخر هو عالم موقفه السياسي، بل ترجمته لرؤيته السياسية من خلال فعل الرفض، خارج حدود قصيدته، يضاف إلى عوالمه الأخرى، المتعددة، المتكاملة: عالمه الاجتماعي، وعالمه الروحي، وعالمه الجمالي، وعالمه الأسري إلخ….!
وإذا كانت حياة جكرخوين جد غنية ، بحيث أنها كانت ملحمة، أو سفراً من المواقف والأحداث الهائلة، وأنه عكس بعض خطوط هذه الحياة في شعره وسرده، لاسيما في ما يتعلق بعمله السيروي، إلا أن آلاف القصص التي جرت معه، وكان  هو بطلها، ومحورها، ظلت في ذاكرات ومخيلات وصدورمن كانوا ضمن محيطه الاجتماعي، سواء ممن عاشروه عن قرب في مسقط رأسه، وشهدوا تلك المنعطفات الدرامية الهائلة في حياته، من جراء جرعة اليتم المبكر الاضطرارية التي احتساها، أو هؤلاء الذين عاش بين ظهرانيهم في المحطات العديدة التي مربها، في مدارج طفولته، أو يفاعته، أو صباه، أو شبابه، أو كهولته، أو شيخوخته. فقد كانت هناك يوميات دراسته، ويوميات عمله السياسي، ويوميات عمله الإبداعي، ويوميات تفاعله مع الوسط الديني الذي ضاقت به الجبة التي ألزم على ارتدائها، فكانت ضيقة على روحه، ما دفع به إلى أن يقدم على خلعها، غير نادم.
ولقد روي إلي من خلال مقربين لي في الأسرة، أن جكرخوين أحد أوائل الذين اشتهروا بالقيام بالمظاهرات في مدينة قامشلي، ويكاد الباحث ألا يجد أي مظاهرة، مخطط لها، تمت في هذه المدينة قبل جكرخوين، وهو ما يدعوني لأقدم على مغامرة اعتبار أن من قام بأول مظاهرة في هذه المدينة هوجكرخوين نفسه، أي جكرخوين ومن معه. ولئلا أكون مبالغاً-هنا- فإن روح الرجل، المتمردة، كانت قد جعلته يتواءم مع هؤلاء الشيوعيين الذين أسسوا النويات الأولى للحزب الشيوعي السوري، في نهاية أربعينيات القرن الماضي، حيث كان مدير، ومعلم، أول مدرسة للكادر الحزبي، كي ينضم بعده عدد من أوائل شيوعيي الجزيرة، ومنهم: رمو شيخو الفرحة- عثمان إبراهيم إلخ. وهوموثق-كتسجيل صوتي- في أحد الحوارات التي دعوت إليها في مجلة “مواسم” وتم إجراؤها من قبل زميلين لنا في هيئة تحرير المجلة، وأظن أشرطة ال”كاسيت” غير المفرغة والتي  تم التسجيل عليها، تشكل مادة تاريخية مهمة جداً، من تاريخ المكان، وأهله، و لاتزال في حوزة أحد الأشخاص، في انتظار تدوينها الكتابي.
طبيعي، أنه في مثل هذه الحال، كان هناك من يخطط لهذه التظاهرة، وهناك من يشارك فيها إلى جانب جكرخوين، الذي كان يعتمد عليه كوجه يلتم من حوله المتظاهرون، وفق ماهو مخطط من قبل الجهة المشرفة، حيث كان شاعرنا الكبير أحد أعمدة هذه التظاهرات التي رحت أستحصل صورتها بعد ماروي إلي ذات يوم من قبل أحد عمومتي حيث صدف له- وهو ابن الريف- أن تواجد أمام مقهى كربيس بعد انفضاض تظاهرة شارك فيها جكرخوين، فاتخذت الإجراءات اللازمة على أشدها، من خلال آلة القمع الديكتاتورية، ليكون اسم شاعرنا محور مهامسات المارة، ولأستكمل جزءاً مهماً من هذه المروية ضمن صفوف الحزب الشيوعي، بعد عقود، عندما كان يتوارد اسم الرجل، وكان ذلك ربما في أول جلسة حوارية افتتحناها: محاوراه: الراحل خورشيد سليمان  وعصام حوج وأنا….، في منزل عثمان إبراهيم، حضرها المناضل أحمد حاج عباس، ليدلي بشهادته وإن لم يتح له ذلك، بالشكل المطلوب ليمتعض من عدم تمكنه بالإدلاء بكل مالديه، ما جعلنا نعده بحوار خاص به، تم على صفحات المجلة، من قبل أحد زملائنا وهو الكاتب خورشيد أحمد.
مؤكد، أنه كان لجكرخوين نشاط مماثل، في مابعد، عندما اضطر لترك صفوف الحزب الشيوعي السوري، وانضمامه إلى أحد أحزاب الحركة السياسية الكردية، بعد تجربته في آزادي، وأتمنى أن يكون ذلك مدوناً من قبل من كانوا حوله، لاسيما أنه وبعد تكريمنا في مواسم لأوائل الشيوعيين قامت بعض الأطراف بتكريم بعض قدامى رفاقها، وهي تجربة أتصورها لم تستمر، بعد أن تركنا مجلة مواسم التي ظل هناك من يصدرها، في نسخة أخرى، ولاأدري الآن ما مصير نسختها هذه…؟!.
روح جكرخوين ظلت تستنسخ في ذوات حفدته، ليس في مدينته التي آثرها، وأوصى بدفنه في باحة منزله فيها، فحسب، وإنما على امتداد خريطة وطنه، المجزأ، كما كل تظاهرة كانت تتم في مدينته، وإن ستظهر على امتداد مدونة هذا المكان الأثير مساحة زمنية، يكاد ينقطع فيها هذا التقليد، إلى أن يستأنف بعضهم ذلك، بين حين وآخر، ولتكون انتفاضة 12 آذار2012 إعصاراً في وجه آلة الاستبداد. حيث تنتشي هذه الروح، وهي ترمق من عليائها، عشرات الآلاف من بناتها، وأبنائها، وحفيداتها، وأحفادها، وهي تنتفض، كي  تتردد قصائد جكرخوين على شفاههم، و يهدر دوي خطاهم، جهات المكان، والبلاد.
هذه الروح الجكرخوينية، تتابع عن كثب مايدور ضمن ساحة الرؤية، يفزعها ما تراه من حولها من مظاهر باتت مرعبة، وهي تتفقد ملامح الأمكنة الأثيرة بعد أن هجرها ذووها، تستمع إلى رجل عجوز طالما التقيا من بعد، يسارره الرجل، يسرد له سيرة الأسرة، وهي سيرة بلد، وأهلين، تحت وطأة السنوات الأليمة، تغتلي الروح، وكأنها تحت وطأة ألسنة أوار لم تعرفها من قبل:
-لاضير، إنها مجرد مرحلة سريعة
تقولها روح الشاعر
-لكننا دفعنا الكثير خلالها
يقولها الجليس العجوز
-لاتيأس ياصاحبي، وعودنا لابد من أن تتحقق.. !
-ذلك لايزال يقيننا الأول
-وهو يقيننا الأخير أيضاً…

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم محمود

 

عندما تهجأتُ ممتلئاً بك ” أحبك ِ ”

فقدتُ رأسي في الحال

وتراءى لي جبلٌ جبلٌ جبل

جبل من صوان ودم وضوء وعسل وهواء فتي

له قمة ينتسب إليه شموخٌ فريدُ إقليمه

رأيتني مرفوعاً به إلى أعلى عليين

وأكسبتني نجوم من حنان وشجر يانع دون جذور

ملَكَة الامتلاء باللامرئي

حيث تكونين أنت بكل بهاء نسبك الكوكبي

 

عندما تهجأت مسكوناً بك ” أحبك ”

فقدتُ…

الكاتب والناقد العراقي مروان الدليمي

في روايته»الأوسلاندر» وبعنوانها الفرعي «تشريع الغربة اختبار الفقد» الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2024، اقترب الروائي السوري خالد إبراهيم من ملامسة حياة اللاجئين السوريين في بلاد الشتات الأوروبية، عبر نص…

إبراهيم محمود

 

بياضٌ تقطَّر منك ِ

اشتعل ليلُ رغبة تليد

توسلت إلى الصباح طويلاً

أن تتأخر الشمس في ظهورها

وأنا أتدثر بذلك المتقطر من بياضك

وأنا أتنفس تلك العينة التي

ألهمتني لعمر يأتمر به زمن قادم

أي متصوف أنا في تكية وجدك الأعظم؟

 

كيف لبياضك

أن يقلق سواداً هو جذره التكعيبي

أن يفتتن الأصل بالفرع

أن تغيّر الغابة المتشحة بالسواد وجهتها إليك

كيف لظلال تبتهل إلى فيزيائها بجرعة…

كيفهات أسعد

 

طوبى لوحدتي في هذا الشتاء،

لغطائها المتجمِّد،

لسرِّي الذي كاد يكسرني،

لكل مائك،

وعطرك الناعم الذي نسي نفسه على جدار غرفتي،

لرائحة تبغك العالقة على الستائر،

لاتساع الحنين كما الموسيقى وذهب القصائد،

لأغطية “شباط” الباردة،

وهشاشة الروح وشقيقتها حين تراك،

طوبى لوحدتي هذا المساء المجبول برائحة الخل،

وأنا المنسيُّ كـ”أبوذية” غائبة في الشط.

2-

هذا المساء

يبرقُ دمي بها تماماً،

يحشو قلبي بسحابةِ ضحكتها،

تلك التي تشبه روح الشاعرات،

أو…