دهام حسن
كثيرا ما يؤخذ على المثقف أنه يتهجم على كل الناس، وفي الوقت ذاته تراه يعلن ولاءه إما للنظام، أو لتنظيم حزبي متنفذ، أو لتيار ديني طوباوي، وهذا الثالوث هو الذي يفقده المصداقية فيما يثرثر وينادي به، وأني أرى كما يرى كثيرون مثلي، أن مهمة المثقف هي المعارضة لا المجاملة، لأنه ينطلق في محاكماته من واقع تائه رتيب، فالمثقف لا سلطان له يحميه، ولا منصب يدرّ له ما يقيه من ذلّ السؤال، لهذا ترى لسان حاله غالبا ما ينطق بالحقّ والصراحة دون مراوغة، وهذا ما يبعدهم عن مراكز القرار، ويخسرون بالتالي صداقة صاحبي القرار، على المثقف دوما ألا يهادن الواقع، فلا يحصر ذاته في برجه العاجي، ولا يتخلى عن سلطته الأخلاقية، في فضحه لهذه التجاوزات، أو تلك الانتهاكات، عليه ألا يهادن السلطة، أياً كان شكلها، ولا يتحول إلى خادم للسلطان،
المثقف من مهامه الوقوف إلى جانب الحق، فالمثقف الذي يتحمس للشيوعية، عليه ألا ينسى الجانب النقدي في تجربة ثورى أكتوبر الروسية، أو حتى التجربة السوفييتية التي انتهت بالانهيار، من جانب نقدي آخر، فغالبية المثقفين وقفوا إلى جانب النازية في الحرب الكونية، واليوم تجد من يأتي بمثال ربما استمده من تحالف الشيوعية والإمبريالية ضد النازية في الحرب العالمية الثانية، فيأخذ المثال كحجة وبرهان، ليتفلسف بالتالي ويقول: إذا خُيّرنا بين النازية والإمبريالية، سنقف إلى جانب الإمبريالية ضد النازية، وهذا المثال يستمده من الواقع الراهن فكان الأولى به في هذه المعادلة لتبرير خياره للأسف، كان الأولى به في خياره القول سنرفضهما معا..!
على المثقف العضوي المشتغل بالهم الثقافي نقد الثقافة السائدة من لدن بعض القادة السياسيين المنهمكين بالحالة الحزبية، المثقف الحقيقي هو الذي يترجم خلفيته الفكرية من خلال الدور الاجتماعي الذي يلعبه بقلمه وكلامه، أعني التفاعل مع الواقع، وهو عادة وغالبا ما تعترضه حالتان، إما أن يعيش في عزلة يلازم صومعته، أو ينحاز ربما دون قناعة لجهة ما، وفي الخيار الأخير عليه أن يمتثل للأوامر والنواهي بعيدا عن قناعاته الفكرية، ونزوعه نحو الحقيقة والنضال المكلف حقا، والتخلي بالتالي عن مسؤوليته المعرفية والفكرية، ودون ما يقتضي منه الكفاح السياسي، والتغاضي بالتالي عن كثير من المستلزمات النضالية، فهذا هو الدكتور أدوارد سعيد يقول: (إذا أردت أن تراعي وليّ نعمتك، فلن تستطيع ان تفكر كمثقف، وإنما فقط كمريد أو كتابع) وبالتالي (عليك ان تعجب لا أن تغضب) فهؤلاء(كأولياء نعمة بحاجة إلى الاسترضاء والملاطفة طوال الوقت..إن التبعية العمياء للسلطة في عالم اليوم هي أحد أفدح الأخطار التي تهدد كينونة حياة فكرية، أخلاقية نشطة..) على المثقف ان يكون ذا فعالية، ويتحرر من الحالات السلبية والعزلة، عليه مناولة الأحداث وإشباعها بالنقد والتحليل والتقويم، فالمثقف هو بالضرورة ان يكون ضد السلطة، ليس بالمعنى السلبي فحسب، أنه ضد السلطة بحكم رسالته بمعنى نقد السلبيات والسعي لتقويمها وتصحيحها لتكون أجدى وأنفع..!
من المعلوم ان المثقفين لا يشكلون طبقة، وغالبا ما ينحدرون من خلفية طبقية ومن أسر مالكة غنية، ففي الأنظمة الرأسمالية أغلب المثقفين يكون في خدمة الأسر الغنية الموسرة، على العموم المثقفون ينقسمون إلى فئتين، فئة كما قلنا تخدم المالكين الأغنياء، أما الفئة الأخرى التي نسميها الثورية تقف في الضفة الأخرى مع الطبقات الكادحة تنشد التقدم والتغيير.. ونستدرك هنا لنقول أن عديدا من المثقفين يتسنمون قيادة الأحزاب لا يلبثوا أن يبيعوا تلك الجماهير التي ينادون باسمها، وهنا على المثقف العضوي المشتغل بالهمّ الثقافي نقد الثقافة المهيمنة من لدن بعض القادة السياسيين الحزبيين دون هوادة، بحيث لا يرضى أن ينسى أو يتخلى عن رسالته النضالية الشريفة ، وعما هو مأمول منه ..!