انتصار اللغات هو انتصار المجتمعات الزراعية قديما (*)

جان كورد
لغات البشرية في عالمنا الحاضر كثيرة، وهي بحدود (6800) لغة، منها ما يتكلم بها مئات الملايين من الناس، كالماندرانية في الصين، والاسبانية والانجليزية والعربية، ومنها ما يتكلم بها فئات قليلة جداً، بحدود مئات الأشخاص أو حتى أقل من مائة إنسان، ومع الأيام تنقرض لغات أقوام بأسرع من التعرف على تاريخها، وبالتالي فإن الشعوب المهددة بالفناء اليوم عديدة، وهي جديرة باهتمام ومساعدة المنظمات العالمية لحفظ شخصياتها الثقافية ولغاتها وآدابها.
حقيقةً إن معرفة جذور وقرابة هذا الخليط الكبير من اللغات صعب جداً، ولذلك فإننا نرى تناقضات وهفوات في الأبحاث اللغوية والتاريخية حولها وحول الشعوب التي تحدثت بها، واستدعى هذا تعاوناً وتنسيقاً واهتماماً من قبل علماء الآثار وعلم السلالات البشرية وخبراء جينات المنقرضات في التاريخ السحيق القدم، الذين يحاولون الكشف عن الاستيطان البشري وفق بحوثٍ معقدة حول علامات ومظاهر جينيات محددة، مما أوجد الكثير من النتائج والنظريات وتعدد الأفكار حول نشوء وتطور وذبول مجتمعات ولغات بأكملها.
آخر الدراسات الجديدة حول هذا الموضوع هو ما قام به العالمان الأمريكي جاريد دياموند من جامعة كاليفورنيا في لوس انجلس، والأسترالي بيتر بيلوود من الجامعة الأسترالية الوطنية في كانبيرا وما نشراه في مجلة (ساينس) العدد 300، الصفحة 597. وحسب قناعتهما المشتركة هو أن الزراعة المتواضعة فيما بعد العصر الجليدي لم تكن محركاً للتاريخ اللغوي البشري فحسب، وإنما الزراعة هي التي رعت وساهمت بقوة في نشوء اللغات واستخدامها وانتشارها وتطورها، بل وفي اثراء الثقافة الإنسانية في شتى أنحاء العالم. 
توصل هذان العالمان بدراستهما العميقتين ل15 لغة من أكبر العوائل اللغوية في مختلف أنحاء العالم المسكون قديماً وانشغال المتكلمين بها بالزراعة وتربية الحيوانات والدواجن إلى نتيجة مفادها أن الزراعة هي التي وضعت وساعدت في نمو بذور هذه اللغات، وبدونها ما كانت هذه العوائل قادرة على التطور والتقدم والانتشار على مساحاتٍ واسعة في المناطق المأهولة بشرياً في تلك الأزمنة السحيقة في التاريخ البشري. ووضع العالمان خريطة تبين لنا تلك المناطق، وهي الصين، وبخاصة في شرقها، حيث شواطئ نهر يانغستى والنهر الأصفر، وأندونيسيا، وغويانا الجديدة والهند والشرق الأوسط، وبخاصة منطقة كوردستان، وأوروبا ومعظم أفريقيا ومدغشقر ما عدا الربع الجنوبي من القارة السوداء، وشرق وجنوب الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية كلها ومعظم أمريكا الجنوبية ما خلا الأرجنتين، في حين أن استراليا ومعظم روسيا، وبخاصة سيبيريا، وكندا وألاسكا، لم تشهد هذه المظاهر التي  تواجدت في فترات تاريخية تتراوح بين 11000عام  كما في كوردستان  و4000- 5000 عام قبل الآن، كما في  وسط المكسيك.   
إن المجتمعات الزراعية التي ازداد فيها عدد سكانها وانتشرت بينهم آلات الحرث والإنتاج والتواصل فيما بينهم وإقامة الأسواق لتسويق منتجاتهم كانت أقدر على تطوير لغاتها من المجتمعات الرعوية والمجتمعات الصغيرة المعتمدة على الصيد والقنص، والتي تناقصت مناطق انتشارها بسبب تفوق المجتمعات المنتجة عليها، وبالتالي تأثيرها في الرعاة والصيادين، من ناحية بث جينياتها الوراثية فيها  وفرض لغاتها عليها أيضاً.
ولقد كشف العالم الأسترالي بيتر بيلوود (أنظر مجلة ساينس على الانترنت) عن وجود آثار لزراعة قصب السكر والموز، تعود إلى 7000 – 10000عاماً في مرتفعات جزر بابووا غويانا الجديدة شمال قارة أستراليا، وفي تاريخ التطور البشري آثار عن التمازج الجيني بين المجتمعات الزراعية ومجتمعات الرعاة والصيادين، كانت الغلبة فيها للأولى على الثانية، في حين أن  بعض اللغات قد تطورت وانتشرت دون أن تترك بصمات جينية معززة بإثباتات، كما أن بعض  مجتمعات رعوية وسواها من تجمعات الصيادين والقناصين قد أخذت لغات المجتمعات الزراعية مع الحفاظ على ارثها الجيني الخاص بها عبر التاريخ.
__________________________________
(*) ترجم بتصرف واختصار عن مقالٍ مطول كتبه قبل عام” يواخيم مويلر –  يونغ المنشور بالألمانية في جريدة فرانكفورتر ألغماينة الواسعة الانتشار،  

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

خلات عمر

لم يكن الطفل قد فهم بعد معنى الانفصال، ولا يدرك لماذا غابت أمّه فجأة عن البيت الذي كان يمتلئ بحنانها. خمس سنوات فقط، عمر صغير لا يسع حجم الفقد، لكن قلبه كان واسعًا بما يكفي ليحمل حبًّا لا يشبه حبًّا آخر.

بعد سنواتٍ من الظلم والقسوة، وبعد أن ضاقت الأم ذرعًا بتصرفات الأب…

خوشناف سليمان

لم تكن الصحراء في تلك الليلة سوى صفحة صفراء فارغة. تنتظر أن يُكتب عليها موتٌ جديد.
رمل يمتد بلا نهاية. ساكن كجسدٍ لا نبض فيه. و الريح تمر خفيفة كأنها تخشى أن توقظ شيئًا.
في ذلك الفراغ توقفت العربات العسكرية على حافة حفرة واسعة حُفرت قبل ساعات.
الحفرة تشبه فمًا عملاقًا. فمًا ينتظر أن يبتلع آلاف البشر…

تلقى المكتب الاجتماعي في الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الكرد في سوريا، اليوم، بحزن، نبأ رحيل شقيق الزميلة رقية حاجي:

نايف أحمد حاجي
الذي وافته المنية في أحد مشافي هولير/أربيل عن عمر ناهز ٥٩ عامًا.

يتقدم المكتب الاجتماعي في الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الكرد في سوريا بخالص العزاء للزميلة رقية حاجي، وللفنان حسين حاجي، وللناشط عبدالكريم حاجي، ولعموم عائلة…

صبحي دقوري

في لحظة ثقافية نادرة، يتصدّر الموسيقار الكوردي هلكوت زاهير المشهد الموسيقي العالمي بعدد أعمال معتمدة بلغ 3008 أعمال، رقمٌ يكاد يلامس الأسطورة. غير أنّ أهمية هذا الحدث لا تكمن في الرقم نفسه، بل في ما يكشفه من تحوّل جذري في مكانة الموسيقى الكوردية ودورها في المشهد الفني الدولي.

فهذا الرقم الذي قد يبدو مجرّد إحصاء،…