حاوره: إبراهيم اليوسف
ينتمي الشاعر السوري فرج بيرقدار إلى هؤلاء المبدعين الذين يجمعون بين الموقف المبدئي والإبداع الحقيقي. وقد ترجم ذلك خلال مسيرته الحياتية والإبداعية. إذ كان أحد هؤلاء الذين قالوا للطاغية: لا، عبر صوت مدو، مجلجل، وكان أن دفع ثمن هذا الموقف بضعة عشر عاماً من مرحلة شبابه.
وقد منح الشاعر بيرقدار جائزة حامد بدرخان في دورتها الجديدة للعام2016، تقديراً له على إبداعه، ومواقفه.
وللتعريف بشاعرنا الغني عن التعريف حقاً، لاسيما لدى المعني بشؤون الثقافة والموقف فهو شاعر وصحافي سوري من مواليد تير معلة- حمص 1951.
من أسرة ريفية تضم إضافة للوالدين ستة إخوة وثلاث أخوات. عنده ابنة اسمها سومر من مواليد 1983، كان عمرها قرابة الأربع سنوات عند اعتقاله، وعند الإفراج عنه كانت على أبواب الجامعة.
بعد الإفراج عنه صار لديه ابن اسمه عاصي مواليد هولندا 2004.
كانت نشأته في الطفولة والشباب في قريته التي تقع على ضفاف نهر العاصي.
منحته القرية وأهلها كنوزاً من الذكريات والأحلام، ومنحه العاصي بلاغة العطاء والمحبة والقدرة على العصيان ثقافياً وحياتياً.
بدأ نشر كتاباته الشعرية في جريدة العروبة في حمص وذلك خلال المرحلة الثانوية.
يقول إن نساء حارته كُنَّ كلُّهنَّ أمهاتٍ له.
كان حلمه أن يكون رسّاماً، ولكن غلاء الألوان والفراشي جعله يتوجّه إلى الرسم بالكلمات عبر الشعر الذي لا يحتاج مادياً لأكثر من ورقة وقلم.
درس الثانوية في مدارس حمص، وهناك تعرف على المركز الثقافي الذي أتاح له تأسيس معارفه الأدبية على نحو أشمل.
في عام 1975 سافر إلى بودابست بعثة دراسية عبر وزارة التعليم العالي بدمشق لدراسة الإخراج المسرحي، ولكن موقفه الذي كان ضد تدخّل الجيش السوري في لبنان أوقف بعثته في عام 1976، وأُلغيَ تأجيله الدراسي عن الخدمة الإلزامية.
في عام 1979 أنهى خدمته الإلزامية ودراسته الجامعية وأصبح حائزاً على إجازة في قسم اللغة العربية وآدابها / جامعة دمشق.
شارك في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، مع عدد من الأدباء الشباب في جامعة دمشق، في إصدار كرَّاس أدبي شبه دوري، وقد اعتقلته المخابرات الجوية في عام/1978/ بسبب ذلك، فتوقَّف الكراس عن الصدور بعد تسعة أعداد.
اعتقل للمرة الثانية من قبل مخابرات أمن الدولة بعد يوم واحد من خروجه من المخابرات الجوية، بتهمة انتسابه إلى تنظيم يساري معارض، وكانت التهمة باطلة فأطلِق سراحه بعد شهور.
اعتُقل آخر مرة في 31/3/1987 بعد مدة من التخفِّي والملاحقة دامت حوالي أربع سنوات، وقد كان اعتقاله هذه المرة بسبب انتمائه إلى حزب العمل الشيوعي. أحيل بعد ست سنوات من اعتقاله إلى محكمة أمن الدولة العليا بدمشق (وهي محكمة استثنائية) فأصدرت حكماً ضده بالسجن خمسة عشر عاماً مع الأعمال الشاقة والحرمان من الحقوق المدنية والسياسية.
قامت حملة دولية واسعة للمطالبة بالإفراج عنه، شارك فيها مئات الكتاب والفنانين العالميين، والعديد من الشخصيات الحقوقية والسياسية، بالإضافة إلى المنظمات المعنية مثل: اللجنة العالمية لمناهضة القمع، منظمة صحفيين بلا حدود، نادي القلم العالمي، منظمة العفو الدولية.. إلخ، إلا أن السلطات السورية لم ترضخ لضغوط الحملة إلا بعد مرور قرابة أربعة عشر عاماً من الاعتقال، قضاها ما بين فروع الأمن وسجن تدمر الصحراوي وسجن صيدنايا العسكري. حاز الشاعر على:- جائزة هلمان/هامت أميركا 1998وكان حينها في السجن- جائزة نادي القلم العالمي- الفرع الأميركي لعام 1999وكان حينها أيضاً في السجن- جائزة الكلمة الحرَّة – هولندا 2004 – جائزة حرية القلم للتعبير – هولندا 2006 – جائزة توشولسكي – السويد 2007 – جائزة ابن بطوطة- الإمارات العربية المتحدة 2011- جائزة الشاعر حامد بدرخان- سوريا 2016.
شارك بعد الإفراج عنه في كثير من المهرجانات والملتقيات العربية والعالمية.
دعي للإقامة في ألمانيا ثمانية شهور في ضيافة مؤسسة هاينرش بول وذلك في عام 2001.
دُعي من قبل مؤسسة (شعراء من كل الأمم) للإقامة في هولندا لمدة عام، اعتباراً من 24/9/2003، وقد حاضر خلال هذا العام في قسم اللغة العربية بجامعة ليدن.
في 27/10/ 2005 سافر إلى السويد بدعوة من مدينة ستوكهولم ونادي القلم السويدي، حيث أقام لمدة عامين ضيفاً تحت لقب “كاتب المدينة الحرة”، وقد حصل بعد انتهاء الدعوة على الإقامة الدائمة في السويد.
صدر له ثماني مجموعات شعرية وكتاب عن تجربة السجن، وكتاب عن تجربته في هولندا
1- وما أنت وحدك، دار الحقائق، بيروت 1979
2- جلسرخي” رقصة جديدة في ساحة القلب”، دار الأفق، بيروت 1981
3- حمامة مطلقة الجناحين، دار مختارات، بيروت 1997
4- تقاسيم آسيوية، دار حوران، دمشق 2001
5- مرايا الغياب، وزارة الثقافة، دمشق 2005
6- خيانات اللغة والصمت، دار الجديد، الطبعة الأولى- بيروت 2006. الطبعة الثانية عن دار الجديد- بيروت 2011
7- أنقاض، دار الجديد، بيروت 2012
8- الخروج من الكهف.. يوميات السجن و الحرية. جائزة ابن بطوطة 2012
9- تشبه ورداً رجيماً، دار الغاوون 2012
10- قصيدة النهر، دار نون 2013.
صدرت عدة ترجمات لبعض كتبه ولجانب من شعره إلى الفرنسية والإنكليزية والهولندية والألمانية والاسبانية والكاتالونية والسويدية والدانماركية والليتوانية والإيطالية.
عضو اتحاد الكتَّاب في السويد.
عضو نادي القلم في السويد.
عضو شرف في نادي القلم العالمي.
عضو في رابطة الكُتَّاب السوريين المؤسسة في 2012.
لم يكن عضواً في اتحاد الكتّاب العرب في سوريا، في الواقع رُفِض طلب انتسابه في عام 1980.
بعد الإفراج عنه لم يُتَح له المشاركة في أي أمسية شعرية لدى أي مؤسسة سورية رسمية ولا شعبية.
بعد انطلاقة الثورة في آذار 2011 لم يتردد في تأييدها وهو الذي كان ينتظرها منذ أكثر من ثلاثين عاماً. بمناسبة نيل شاعرنا فرج جائزة بدرخان، مؤخراً، كان لنا معه اللقاء التالي:
* نلت جوائز كثيرة: ما موقع جائزة حامد بدرخان التي نلتها مؤخراً بين هاتيك الجوائز؟
– الجوائز العالمية التي نلتها خلال سنوات اعتقالي وبعدها كانت على أهميتها أشبه بعلاقات حب أو صداقات افتراضية. أما جائزة الشاعر حامد بدرخان فحقيقية، وسعادتي بها حقيقية وغامرة، لأنها الجائزة السورية الوحيدة التي تلقيتها خلال حياتي، ولأنها أيضاً باسم شاعر كردي أحبه، وأخيراً لأنها جائزة من خارج مؤسسات الطاغية بل في سياق مواجهة استبداده. وأرى أن هذه الجائزة تنطوي على تكريم خاص يقتضي مني الامتنان، لأن الجهة التي أطلقت الجائزة (الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الكرد في سوريا) إنما هي جهة كردية سورية، وفي هذا السياق ينبغي لي أن أتذكر وأشير إلى أنني عندما فزت بجائزة توشولسكي التي يمنحها نادي القلم السويدي، فإن المجلس الكردي السوري في السويد كان الجهة السورية الوحيدة التي احتفت بفوزي بالجائزة.
* ماذا عن “موت الشعر” وتسيُّد بعض الفنون الأخرى مكانه، لا سيما الرواية؟ أعني هل من الممكن أن تكون الرواية ديوان العالم؟
– لا شك أن الرواية أخذت، منذ عقود عديدة، تستقطب روّاداً أكثر فأكثر، ولكن ذلك لا يفضي تلقائياً إلى موت الشعر. ثم هل المقصود هو موت الشعر العربي أو الكردي أو الألماني أو الفرنسي أو السويدي أو الاسباني إلخ؟. مهرجانات الشعر في أمريكا اللاتينية مثلاً ما زالت تحظى بجماهيرية واسعة، وما زال هناك شعراء من جنسيات ولغات متعددة يحظون بجماهيرية واسعة أيضاً، وما زالت جائزة نوبل للآداب وجوائز كثيرة غيرها تذهب إلى شعراء. الشعر حاجة روحية وثقافية وفنية بدأت منذ آلاف السنين وما زالت قائمة، وبالتالي لن تموت، ولكنها قد تصبح نخبوية أكثر فأكثر تبعاً لظروف المجتمعات. حين يقيم الشاعر السويدي “برونو كو أوير” على سبيل المثال أمسية شعرية، فإن المسرح يمتلئ، وغالباً تنفد البطاقات قبل أيام من تاريخ أمسيته رغم أن سعر البطاقة يتجاوز الثلاثين يورو. أعرف أن الوضع مختلف بالنسبة للشعر العربي، فالاستبداد والرقابة وإقصاء الشعراء غير الموالين ومنعهم من إلقاء قصائدهم، والمنبرية جزء من خصوصية الشعر العربي، كل ذلك يمكن اعتباره تضييقات متراكبة من شأنها إضعاف انتشار الشعر وحضوره.
* هل يمكن ظهور جنس أدبي إبداعي جديد على إيقاع دورة الزمن، وهل يعني ذلك زوال بعض الأشكال الإبداعية؟ ؟
– بعد سنوات التخفي والاعتقال فوجئت بأشياء كثيرة لم تكن موجودة قبلها. الإنترنت والموبايل والقنوات الفضائية ووسائل التواصل الاجتماعي كلها طرأت في ما بعد، حتى الثورة لم تكن في متناول خيال الغالبية الساحقة من مجتمعنا. ذلك يجعلني أقول: نعم قد تستجد أجناس أدبية ليست في الحسبان الآن، ولكني أعتقد أنها ستكون نوعاً من التطوير لأجناس موجودة مسبقاً مثلما هو الموبايل تطوير للهاتف العادي والقنوات الفضائية تطوير لآليات البث السابقة، ومثلما هو أيضاً تطوير جهاز التلفزيون من تلك الكتلة المكعبة إلى الأنواع الجديدة بشاشاتها المسطحة الرقيقة أو ثلاثية الأبعاد.
* هل انطفأ الصراع بين الأشكال الشعرية: العمود- التفعيلة- قصيدة النثر؟
– الأمر متباين بين الثقافات والشعوب، ولكن لو شئنا الحديث عن الصراع بين الأشكال الشعرية على صعيد الشعر السوري، فأعتقد أن عقد السبعينيات من القرن الماضي أسس لإطفاء أو انطفاء ذلك الصراع، وإن كان هناك بعض الشعراء المتمسكين بهذا الشكل أو ذاك ورافضين لغيره. أعتقد أن تجربة محمد الماغوط واعتراف معظم النقد والنقاد بشاعريته، وكذلك اعتراف شعراء كبار بالشعر النثري، محمود درويش مثلاً وهو المعروف بكتابته لقصيدة التفعيلة، وكذلك ظهور أجيال من الشعراء الذين كرسوا أنفسهم أو كرستهم تجربتهم في ميدان الشعر النثري، وهناك شعراء آخرون مهمون تضمنت تجربتهم الشعر العمودي وشعر التفعيلة وكذلك النثري، أعتقد أن كل ذلك تضافر معاً لتراجع أو لخمود الصراع بين تلك الأشكال.
* كيف تنظرون إلى توجه الشاعر إلى كتابة الرواية، هل يتم ذلك لاستكمال شرطه الإبداعي؟
– قد يكون من السهل على أغلب الروائيين أن يصبحوا كتاب قصة قصيرة أو مسرحيين، وكذلك الأمر بالنسبة لكتّاب المسرح والقصة القصيرة، ولكن قلة من هؤلاء يمكنهم أن يصبحوا شعراء. أما الشعراء ففي إمكان غالبيتهم أن يصبحوا روائيين أو مسرحيين أو كتاب قصة قصيرة، ذلك لأن فنون الكتابة الأدبية ومقوماتها متقاربة، باستثناء تفرُّد الشعر بالوزن أو الموسيقا أو الإيقاع. وقد يكون إغراء جمهور الرواية وترحيب الناشرين بها أكثر من ترحابهم بنشر الشعر، قد حدا ببعض الشعراء للازدلاف إلى حقل الرواية، على أن ذلك لا ينفي أن هناك شعراء لا يستطيع الشعر وحده استغراق كل ما لديهم من تجارب وأفكار. بالنسبة لي كان الشعر يكفيني للتعبير عما أحس وأفكر فيه، ولكنه لم يكن كافياً وحده لقول ما أريد عن تجربة الاعتقال. صحيح أني كتبت سبع مجموعات شعرية خلال أربعة عشر عاماً من الاعتقال، ولكنها لم تستطع في مجملها أن تغطي إلا جزءاً يسيراً مما ينبغي أو يعتمل في داخلي، ولهذا اضطررت إلى كتابة “خيانات اللغة والصمت.. تغريبتي في سجون المخابرات السورية” الذي صننّفه البعض في حقل اليوميات أو المذكرات، والبعض في حقل الرواية أو القصص القصيرة أو مزيج من كل ذلك.
* ماذا عن مذكراتك، أتراها اكتملت، وسنوات السجن الرهيبة التي عشتها: ما الذي لم تقله عنها؟
– في الواقع لم أكتب مذكراتي بعد، وربما لم أشعر باحتمال أهمية الأمر إلا حين قال لي ناشر سويدي: نعرف وقرأنا الكثير عن مرحلة شبابك، ولا سيما تجربة اعتقالك، ولكننا لا نعرف شيئاً عن طفولتك ونشأتك، فلماذا لا تكتب عن ذلك؟ أجبته بأن الناشرين العرب قد لا تعنيهم طفولتي، وبالتالي ما الفائدة من كتابة ما لا سبيل إلى نشره؟ أجابني: أنا أريده وسأنشره بالسويدية كما نشرت كتابك عن تجربة السجن فتتكامل القصة. بدأت بمخطط الكتاب وجمع رؤوس أقلام عما سأكتب، ولكني منذ سنوات لم يعد لدي الوقت ولا الرغبة. ربما تأتي ظروف مختلفة تساعدني على إنجازه. مذكراتي عن السجن أيضاً لم تكتمل، فقد اضطررت سابقاً لكتابتها بتكثيف وانتقائية شديدتين تحت وطأة احتمال أن لا أخرج من السجن حياً. ما أريد استكماله عن مذكرات السجن وتبعاته ومفاعيله جاهز كمخطط، ولكنه يحتاج إلى فسحة من الوقت والشروط التي تحثني على الكتابة.
* كيف تنظرللعلاقة بين المبدع والعمل الحزبي، ولوعدت الآن إلى فترة شبابك الأولى هل كنت ستعمل في المجال الحزبي؟
– وردتُ السياسة كشاعر، ولم أرد الشعر كسياسي. وكان الدافع أخلاقياً أساساً وليس ايديولوجياً. أصدقاء كثر لي اعتقلوا في سبعينيات القرن الماضي، وبعضهم استشهد تحت التعذيب، ولأني معارض بطبعي وتربيتي وإحساسي كشاعر، فقد انتميت إلى حزب العمل الشيوعي، وكنت أعتقد أن عضويتي لن تبعدني عن الشعر. لاحقاً وبسبب حملات اعتقال كثيرة وظروف سياسية وتنظيمية وجدتني مضطراً إلى أن أتوقف عن الشعر وأتفرّغ للعمل الحزبي إلى أن أُعتَقَل فأعود شاعراً وصحفياً، إذ لن يكون الحزب بحاجتي بعد الاعتقال، لقناعتي أني سأكون آخر من يخرج من السجن، أي بعد جميع كوادر الحزب، فأنا كشاعر لا يمكن أن أوقِّع على أي تعهّد أمني أو سياسي يسيء إلى سمعة الثقافة أو الأدب، وفي تلك السنوات لم يكن ممكناً الإفراج عن أي سجين سياسي بدون أن يوقِّع تعهداً سياسياً أو أمنياً. كنت أعرف أن الاعتقال محتَّم وكان همّي أن أرجئه قدر الإمكان. كان الأمر أشبه بمصائر أبطال التراجيديا اليونانية. أعرف نفسي وقلت مراراً أني لست رجل سياسة بالمعنى الضيّق أو الحزبي المحدَّد، ولكني كشاعر لي مواقفي السياسية من كل أمر. استطاع العمل الحزبي أن يقلِّم عندي مزاجية الشاعر أو يضبط بعض فوضاها وذاتيتها، ولكن رغم ذلك، لو أعيدت التجربة لما قبلتُ أن أكون حزبياً بالمعنى الحرفي أو الاحترافي، ناهيك عن القيادي الذي لا يلائم روحي ولا استعداداتي.
* نحن الآن نعيش عصر الصورة الإلكترونية، هل جاء ذلك على حساب الشعر والسرد، أم أنه من الممكن الاستفادة منها إبداعياً؟
– هذه التكنولوجيا تتيح الفرصة للرثِّ وللإبداعي. منذ شهور أقمنا أمسية، بالصوت والصورة، حضرها جمهور من الجولان المحتل، شارك فيها الفنان سميح شقير والشاعر وفائي ليلا وأنا، وبعدها تبعتها أمسيات كثيرة. أظن أن تلك كانت هي الأمسية السورية الأولى في تاريخ الجولان منذ احتلاله. كما ترى فإن الصورة الالكترونية هنا جاءت لصالح الشعر والثقافة والفن وليس على حسابهم. صار من السهل تصوير أمسية شعرية وبثها على الهواء مباشرة ما يعني أن الجمهور أوسع بكثير من عدد الحضور في القاعة. في الواقع هناك تجارب مهمة عديدة استفادت بطرق متنوعة من تلك التكنولوجيا، ولكن ككل وسيلة تكنولوجية هناك إمكانية للاستفادة منها أو توظيفها سلباً وإيجاباً.
* ثمة من يرى أننا في زمن المقال.
– لكل مقام مقال.. هكذا قالت العرب سابقاً، وأفترض أن كثيرين غيرهم قالوه، فأنا لست ممن يعتقدون أن زيتهم ليس عكراً أو أنه أفضل من زيت الآخرين.. وإذا أردت رأيي فإن زيت عفرين هو الأفضل. وبناءً عليه، أعني على المزاح الجادّ السابق، أقول: تتباين اهتمامات الشعوب بين مرحلة وأخرى تبعاً للحاجات والإمكانيات المتاحة والضرورات والمقتضيات، ولكن رغم ذلك لا أرى أننا في زمن المقال وإن كنت أدرك أن الاهتمام بالمقال لدى السوريين ازداد كثيراً بعد الثورة، بسبب كسر حاجز الخوف لدى الكاتب والقارئ، وبالتالي إمكانية طرح العديد من الأفكار والمواقف الحقيقية والجادة والمطلوبة والتي كانت قبل الثورة من المحرمات، وقد ساعد في ذلك أيضاً تنوّع المنابر وتجاوزها لإمكانيات الرقابة والمنع. لقد انتهى عهد الاحتكار الإعلامي من قبل أي طاغية.
* خلال ثورات الربيع العربي لم نجد أي حضور للشعر، بل أن التونسيين عادوا إلى إبراهيم ناجي وقصيدته التي كتبها قبل حوالي قرن؟
– في عصرنا الراهن وفي ظروف الثورات والانتفاضات والقضايا الكبرى عموماً والساخنة وطنياً أو اجتماعياً، فإن دور الأعمال الأدبية العميقة والنخبوية أصلاً، يتراجع ليتقدم دور فنون وآداب أسهل وأقرب متناولاً من قبل جماهير أعرض تبحث عما يخاطب مشاعرها وحماسها ويرفع من معنوياتها، وفي هذه الحال يغدو الشعر باللغة المحكية أكثر انتشاراً وتأثيراً من شعر الفصحى، وكذلك الأمر مع الأغنية والفيديو والصورة. من جهة ثانية يمكنني القول إن الأعمال الإبداعية العميقة تحتاج إلى وقت واختمار، ولكنها حين تولد فإن عمرها سيكون أطول مقارنة مع كثير من الأعمال التي ينتهي عمرها بانتهاء الظروف التي اقتضتها.
* ثمة من يتحدث عن النص التفاعلي، والقصيدة التفاعلية، أو الإلكترونية أو الزرقاء كيف تنظرون إلى هذا، وماذا عن رأيكم في النص الشعري الفيسبوكي؟
– لا علم لي بهذا المصطلح ولا هذه الآلية، ولهذا لا أستطيع الإجابة. ثم إن الشعر شعر بغض النظر إذا ما كان في صحيفة أو بين دفتي كتاب أو على صفحة الفيسبوك.
* ثمة من يرى أن قطارالحداثة توقف وما عدنا أمام فتوحات جديدة بمستوى اللحظة؟ والنص الملحمي يكاد لا أثرله ولا قراء، لم ذلك برأيك؟
– الحداثة لا تتوقف.. منذ قليل كنا نتحدث عن التكنولوجيا وما تتيحه من تجديدات وفتوحات. النصوص الملحمية ماركة مسجّلة بامتياز للشعر اليوناني القديم، ولكن بعض معلّقات الشعر العربي تنطوي على بعد ملحميّ، وقصة ممّو وزين الكردية تنطوي على بعد ملحمي، وبعض قصائد محمود درويش أيضا.. وهناك شعراء آخرون لديهم قصائد إن لم تكن ملاحم فهي تقاربها.
* لِمَ عودة النص المكثف اليومي البريفري أو قصيدة الومضة؟
– لدينا شعر الهايكو الياباني وهو سابق كثيراً على جاك بريفير، ولدينا عربياً قصائد بيت الشعر الواحد، وسأسمح لنفسي بالقول إن لديّ الكثير من القصائد الطوال، وقد نشرت إحداها في كتاب مستقل سنة 1981، وثانية نشرتها أيضاً في كتاب مستقل سنة 2005، وثالثة سنة 2015، ولدي مجموعتان من القصائد القصيرة جداً “ومضات” نشرت أولاها سنة 2005، والثانية سنة 2013. وأعرف شعراء كثر ما زالوا يكتبون قصائد طويلة ومتوسطة. ولكن مع ذلك يمكن القول ان تسارع إيقاع الحياة المعاصرة، وما يطرحه من انشغالات، يقترح على الشعراء والقراء إعطاء المزيد من الاهتمام بنصوص أكثر تكثيفاً.
* النص الجديد بات يتخفف من حمولات كثيرة، إلى درجة التماهي في غيره: ما سبب ذلك؟
– ذلك يتباين بين كاتب أو شاعر وآخر، ولكني أعتقد أن تيسُّر اطلاعنا على الأدب العالمي المتخفِّف من تلك الحمولات، كما شعوبهم متخففة منها، قد يسَّر الأمور كثيراً.. التماهيات لدى الغرب يسّرت اجتماعياً، على سبيل المثال، تفهُّم شؤون المثليين جنسياً وحماية حقوقهم، فما بالك بالأدب وفنونه وحمولاته.
* ماذا عن انحسارالأسطورة، ورب قائل: بات الغموض الشعري رغم إيجابيته يسحب أذياله كي ينهزم، ما تعليقكم هنا؟
– منذ زمن بعيد انتهى عهد االأسطورة واقعياً واستمرَّ استخدامها أدبياً في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي.. السياب وأمل دنقل مثالان أساسيان. أما الغموض الشعري فهو ضرورة وحقيقة أحياناً، وأحياناً دجل. سادت موجة الغموض الشعري العربي في نهاية ستينيات القرن الماضي وبداية سبعينياته. في أواخر الستينيات نشرت في إحدى الصحف قصيدة أتحدى أي ناقد أن يفهم منها شيئاً، ولاحقاً اشتركت مع أربعة شعراء في كتابة قصيدة لا يعلم حتى الله شيئاً من معانيها، ولكني لاحقاً قلت في إحدى قصائدي التي كتبتها في السجن: “كيف لي أن أبدِّل هذا الغموضَ بأغمضَ منه؟!
فلا شيء يوضِحُ شيئاً إذا لم يكنْهُ.. وما من كلامٍ سواءْ”.
لكأنَّ هناك غموضاً إيجابياً وغموضاً مطلسماً لا مبرر له.
* بعض منظري الغموض وبعد ثورة المعلوماتية والاتصالات بات يكتب النص ذا الحضورالمعرفي، ماسبب هذه الردة برأيكم؟
– بعد ثورة المعلوماتية صار في الإمكان استخدام جوجول وغيره في كثير من الأمور المعرفية والتوثيقية وغيرها.. باتت جوانب كثيرة من العالم والمعارف مكشوفة.. تراجع دور السحر، واللعب في المعلومات أو إمكانية تدقيقها.
* إلى أية درجة تجد أن مصطلح “الشاعرالكبير” له معادله الشعري الواقعي؟
– إما شاعر أو لا شاعر.. قصة شاعر كبير تنتسب إلى مجاملات ومدائح تخص الشرق أكثر بكثير مما يجري في الغرب، وأنا في الواقع أستاء حين يُجري أحدهم مقابلة معي ويكون االمانشيت الرئيسي: مقابلة مع الشاعر السوري الكبير فرج بيرقدار.. يا أخي شكو كبّرني غير عمري؟ ألا يكفي أن تعتبرني شاعراً وحسب؟
آمل يا صديقي أن تأخذ ذلك بعين الاعتبار عند نشر المقابلة.
* ألا ترون أن الشعر لا أثرله أمام ما يجري من إرهاب يحاول إحراق العالم وما فيه؟
– ما يحكم العالم اليوم.. أجهزة مخابرات ومافيات، ودور الأنظمة الديموقراطية أو تأثيرها يتراجع.. نظرة اليوم إلى الإدارة الأمريكية بزعامة أوباما والمافيا الروسية بزعامة بوتين تكفي لفهم ما يجري.. لا يستطيع الشعر ولا غيره من الفنون والآداب أن يواجه هذا العالم إلا جمالياً وأخلاقياً وهذا أمر ثقافي بعيد المدى وليس إجراءً عملياتياً.
* كيف تنظرإلى الشعرالكردي المكتوب بالعربية، سليم بركات كيف تقوم تجربته؟
– شهادتي بسليم بركات مجروحة.. البعض يعتقد أنني كردي، ولكنني أكتفي بما قاله عنه محمود درويش.
* رابطة الكتاب السوريين متى ستصبح البديل عما يسمى ب” اتحاد الكتاب السوريين الرسمي”؟
– رابطة الكتاب السوريين، التي كنتَ وكنتُ من مؤسسيها، واحدة من أولى مؤسسات المجتمع المدني في سوريا بعد الثورة، تأسست في عام 212، وهي تضم الآن أكثر من ثلاثمئة عضو من أهم الكتّاب السوريين، يسستطيع من أراد، أن يدخل إلى موقع الرابطة على النت ويرى قائمة أعضائها ليعرف أنها تضم معظم الكتاب السوريين المهمين إبداعياً. والرابطة الآن تسعى لفصل “اتحاد الكتاب العرب”، الذي يمثل النظام، من الاتحاد العام للكتاب والأدباء العرب، وآمل أن ننجح في ذلك، لقناعتي حقاً بأن الرابطة هي من تمثّل الكتاب السوريين، رغم ملاحظاتي على الاتحاد العام للكتاب والأدباء العرب.
* تجربة منفاك السويدي إلى أي حد أثرت في إبداعك؟
– يا صديقي اللغة اختلفت، والطبيعة والمجتمع.. لا بد أن لذلك أثراً أو تأثيراً.. أما ما هي تأثيراته وحدودها، فلنترك الأمر للمستقبل.
* كلمة أخيرة حول أية ظاهرة لم يتم تناولها من قبلنا.
– ليس في حياة الكائن أو المجتمعات كلمة أخيرة. الكلمة الأخيرة تعني الموت، وأنا لست مستعجلاً، ولكن ما دام قصدك “كلمة أخيرة بشأن مقابلتنا”، فإني أحنُّ إلى كردستان وطيبة وكرم ووفاء أهلها وعدالة قضيتهم، وكذلك إلى جبالها بحجلها وغزلانها وينابيعها.. لا أعتقد أن شعباً في العالم بتعداد الشعب الكردي لا يمتلك دولة ولا حقوق مواطنة بعد تقسيمات سايكس بيكو التي وزّعت الكورد بين تركيا والعراق وسوريا وإيران، كما وزّعتنا نحن العرب ولكن ضمن دول. للأسف أن العرب يعرفون “بلاوي” سايكس بيكو عليهم ولا يعرفون “بلاويها” على الكورد، وذلك لا يتحمّل مسؤوليته العرب فقط، وإنما الكورد أيضاً، وإن كانت مسؤولية الأنظمة العربية القومجية في ذلك أكبر بكثير.