هوشنك أوسي
مهما بلغ أيُّ نصّ، من الخصوصيّة والجودة والفرادة والتمايز، وخلقَ حالة من الدهشة، وترك أثراً عميقاً متوارثاً، لن يخرجَ عن كونه إعادة إنتاج لما قرأه أو سمعه أو شاهده كاتب ذلك النصّ. وعليه، أيّ نتاج لأيّ الكاتب هو خلاصة ما قرأه، سمعه، رآه، عايشه، أو حتّى لم يعايشه أيضاً. ذلك أن تجارب الآخرين تصبح جزءً من تجربتي، حين أطلع عليها عبر القراءة أو الاستماع او المشاهدة. ولعمري أن تمايز النصّ، ربما يبقى محصوراً في الفكرة والهندسة اللغويّة أثناء ممارسة الفعل الكتابي، شعراً أو نثراً، وطرائق ترجمة تلك الفكرة، ضمن سياقات أو معالجة لغويّة خصيبة وفريدة. وإذا صحّت هذه الفرضيّة أو الاعتقاد، فإن أي عمل شعري أو روائي يمكن اعتباره سجّادة مزركشة، الناظر إليها، يستمتع أو ينبهر بجمالها، ولا يمكنه ملاحظة الخيوط الداخلة في نسجها. بالتالي، أمام مهارات الكاتب في التورية والتناص أو تحوير الاقتباس العمد (التلاص)، تبرز عبقريّة الناقد ولؤمه أو خُبثهُ الجميل وحنكتهُ في التفكيك والتحليل والسبر، ثم إعادة التركيب، وصولاً إلى إحالة كل خيط من خيوط هذه السجّادة إلى صاحبها الأصلي، الذي بدوره مرَّ بنفس التجربة.
وعليه، الخيوط التي شكّل منها هوميروس سجّادته (الإلياذة)، غالباً أنها تحمل بصمات خفيّة لمجايليه أو سابقيه في حقل الشعر الملحمي. وينسحب الأمر على الفردوسي (الشاهنامة) وأحمد خاني (مم وزين؛ ملحمة العشق الشعريّة الكرديّة). من دون السهو عن التقاطعات والاقتباسات في ميثولوجيا الشعوب في الشرق والغرب، حول قصص التكوين والعشق والجنّة والنّار والصراع بين الخير والشرّ، على أنها خلاصة التقاطعات في الأفكار والأخيلة والصياغات. وينسحب الأمر على مستويات التقاطع بين قصص وأحكام الكتب المقدّسة أيضاً.
مناسبة هذا الكلام، حديث بعض الزملاء والأصدقاء عن وجود ملامح أو أصداء سليم بركات، محمود درويش، أدونيس…، في القصائد التي طويت عليها مجموعتي الشعريّة السادسة: “قلائد النار الضالة.. في مديح القرابين” الصادرة مطلع هذا العام عن دار “فضاءات” في العاصمة الأردنيّة عمّان. وهذا الاستنتاج صحيح. ذلك أن من يقرأ لهؤلاء، ولا يتأثّر بهم، فهو/هي ليس بشاعر أو شاعرة. وفي الوقت عينه، من يبقى أسير أو حبيس أو رهين هؤلاء، طوال تجربته، فهذا أيضاً ليس بشاعر / شاعرة. ولأنّ الشعر نهر يمتدّ من الأزل إلى الأبد، لا يقف جريانه عند الأوثان والأصنام الشعريّة، مهما بلغ علوّها وصلابة تجاربها.
مجموعتي الشعريّة المذكورة، (والتي لم تحظَ بالاهتمام النقدي، باستثناء مقالتين للصديقين هيثم حسين وراشد الأحمد)، الهدف منها لم يكن فقط التعبير عن الذات وآلامها وحرائقها وخيباتها وأسئلتها، بالإضافة إلى التجريب، ثمّ التجاوز وحسب، وبل محاولة “تحطيم” بعض القامات الشعريّة التي كرّسها النقد العربي حدَّ التوثين والتصنيم، والتأكيد على أنه ثمّة من يمكنه الكتابة بنفس الطرائق التي لطالما افتتن بها النقّاد، واغدقوا عليها المدائح والإطنباب والإعجاب، وأنه على النقّاد محاولة تجشّم عناء الالتفاتة إلى تجارب أخرى، بدلاً من التجارب التي نالت حقّها وأكثر.
ولئن الشيء بالشيء يُذكر، اعتقد أن صيرورة التضاد او التضارب بين التقليد والتجديد في الشعر، ستبقى مستمّرة إلى ما لا نهاية. فكما في العلوم الدينيّة وفقه المذاهب، كذلك في عالم الشعر؛ المقلّدون والتقليديون يستحيل عليهم أن يكونوا مجددين أو أن يضيفوا إلى سابقيهم شيئاً. واعتقد أنه ثمّة نوعان من التقليد.
الأوّل: دأبه التماثل والتماهي حدّ التقمّص. وهنا الشاعر المقلّد، شأنه شأن المُريد الذي لا يمكنه التحرر من عباءة شيخه – وثنه – شاعره. بحيث يستمرئ أن يكون ظلاً لوثنٍ ما. وعليه، يبقى نتاجهُ في سياق التكرار والتمجيد والتخليد، لطريقة من طرائق الشعر. وعديم الصوت، مدمناً البقاء صداً لصوتٍ شعريّ آخر.
الثاني: دأبه التجريب والتخريب ثم إعادة الترتيب، بداعي التماثل، ثم التجاوز، بعد تحطيم وثن الشيخ – الشاعر في داخل النصّ. وهنا المقلّد، يعتبر التقليد محض عتبة يجتازها، تاركاً خلفه حطام الأوثان الشعريّة التي مرّت بها تجربته. هذه الأوثان التي صنعتها حركة النقد والإعلام ودور النشر. وعليه، التقليد الثاني، يمكن أن يكون خطوة في اتجاه التجديد، طالما وضع نصب عينيه مجافاة التمجيد والتخليد والتأبيد في عالم الشعر، الدائم الاتساع. من دون الإغفال أو السهو عن أن الكثير من أسماء العلم في عالم الشعر، وصلت إلى سقفها، وباتت تكرر نفسها، واستنفدت طاقة التجدد والتجديد لديها، بعد أن كانت تعرف بأنها أسماء مجددة وحداثيّة في حركة الشعر.
في إطار ما سلف ذكره، نصوص مجموعتي الشعريّة، كانت في حالة من الأحوال، نوعاً من التحدّي الإبداعي لأوثان شعريّة، وللنقّاد المسبّحين بحمدها، قياماً وقعودا. ومع ذلك، ثمّة اختلاف وانزياح واضح الملامح عن تقنيات الكتابة الشعريّة لدى الأسماء المذكورة، وغيرها، وهي مهمّة الناقد الحصيف التقاط تيماتها، وليست مهمّتي الافصاح عنها، باعتباري صاحبها. علاوة على ذلك، إذا كان هنالك ثمّة تقاطع في التراكيب والبنى الشعريّة أو الهندسة والعمارة اللغويّة للنصوص، في الوقت عينه، ثمّة اختلاف في المواضع والأفكار التي تطرحها نصوص “قلائد النّار الضّالة…” على أكثر من صعيد. ذلك أنني حاولت في هذه المجموعة وعبر قصيدتيّ “مدوّنات الشيطان” و”الرجيم”، إعادة الاعتبار إلى الشيطان شعريّاً، والسماح له التعريف بنفسه والتعبير عن رؤيته وأفكاره حول الحياة والموت، الوجود والفناء – العدم، الجمال والقبح…، بمعزل عمّا قرأناه عنه في الكتب المقدّسة!. ففي “مدوّنات الشيطان” التي تتألّف من أربعة أجزاء “نصوص الماء، نصوص الهواء، نصوص النار ونصوص التراب”، تحضر عناصر الطبيعة الأربع، لتتحدّث عن نفسها، باعتبارها ألسنة حال الشيطان، بحيث تشكّل الخطاب الشعري المختلف أو ربما المناقض للخطاب الميثولوجي عن طبائع وخصال ومهام “إبليس، الشيطان، عزازيل…” التي توارثناها وما زلنا نورثها للأجبال القادمة.
أمّا مسألة النجاح أو الإخفاق في هذه المحاولة، تبقى منوطة بمبضع الناقد أثناء عمليّة التفكيك والتحليل لبنى نصوص هذه المجموعة. لكن، في مطلق الأحوال، تبقى هذه القصائد – القلائد، هي محض محاولة في حقل الكتابة الشعرية. وكعادتي في مجموعاتي الشعريّة السابقة، سواء المكتوبة باللغة العربيّة أو الكرديّة، لا اختار إحدى القصائد لأجعل عنوانها عنواناً للمجموعة أو الديوان، لئلا يتم اعتبار ذلك اصطفاءً أو تفضيلاً لنصّ على آخر. شأن الأب الذي يرفض التفضيل بين الأبناء، مهما اختلفت مستويات تعاطيهم معه. لذا، العنوان المركّب؛ “قلائد النار الضّالة… في مديح القرابين” هو الخيط الذي يجمع خرزات هذه السبحة الشعريّة، أو هو المناخ العام الذي يظلل هذه القصائد.
كان من المفترض أن تطبع هذه المجموعة في الجزائر، نتيجة فوزي في مسابقة شعريّة نظّمتها مؤسسة “الأيّام” الصحافيّة في مدينة صطيف في الجزائر سنة 2010. ولكن، لم يصلني شيء من المؤسسة، سوى شهادة تكريم، وبضع نسخ من جريدة الأيام، نشر فيها تغطية صحافية لحفل توزيع الجوائز الذي لم احضره لأسباب تقنيّة، وفي تلك التغطية الصحافيّة المذكورة إشادة بقصيدتي التي شاركت بها في المسابقة. ولأنني كنت وما زلت، لا امتلك شبكة علاقات مع دور النشر، أو مع النقّاد او مع محرري الصفحات الثقافيّة في الصحف العربيّة الذين لهم علاقات مع دور النشر، اضطررت إلى طباعة هذه المجموعة على نفقتي الخاصّة لدى دار “فضاءات”، مع الثقة بأن المجموعة لن تحظى بذلك الاهتمام النقدي. ولكن نشرتها كي أزيح عن صدري حجرها الكابس على أنفاسي منذ خمس سنوات، حتّى اتفرّغ لإزاحة حجارة أخرى، متراكمة نتيجة تراكم فعل الكتابة الشعريّة والنثريّة.
في نصوص هذه المجموعة، يحضر التصوّف والتفلسف، إلى جانب الرومانس والإيروتيك وتمجيد الأنثى، والبوح بآلام الذات وخيباتها وانكساراتها. ومع صدور هذا الكتاب، صارت قصائده وتقنيات كتابتها من الماضي، لكن الهموم والآلام والخيبات التي تقف خلف كتابة هذه القصائد، جددت نفسها في هيئات أخرى وبعناوين جديدة، ما زلت أكابدها. ربما هي هكذا الحياة، لا يمكن الفكاك من طبائعها الأليمة التي تبقى تختبر إنسانيّتنا وحساسيّتنا تجاهها. وبحكم التجربة والقراءات والرغبة في تجاوز الذات، على صعيد طرائق وتقنيات الكتابة الشعريّة والنثريّة، ما عدت أكتب بالطريقة التي كتبتُ بها قصائد “قلائد النار الضالة… في مديح القرابين”. وما زالت أحاول أن أكون “عدّاء المسافات الطويلة” عبر كتابة النصوص ذات النفس الملحمي، مع الاخذ في الحسبان بألاّ تكون شديدة الوعورة والإيغال في المجاز، بل صرت أكثر جنوحاً نحو التكثيف والاختزال، دون التخلّي عن القليل من الإبحار في المجاز والغموض الشفيف في آن. ولدي قناعة راسخة مفادها؛ إنّ القارئ أكثر منّي مهارةً وعزماً في العوم وسط مياه الشعر المتلاطمة الوعورة. ولا مناص أمامي إلاّ اللحاق بهذا القارئ.
الهدف الوحيد الذي ازعم أنني حققته من وراء هذا الكتاب، أنني عبّرت عن مرحلة معيّنة من تجربتي الحياتيّة والشعريّة، وأزحت عن صدري حجراً من حجارتها، وليس بالهمّ الكبير لدي إن بقي النقد والنقّاد في تجاهلٍ لهذا الحجر – الديوان. وبصراحة، كل كتاب شعري أو نثري أصدرته أو سأصدره لاحقاً، ثمة ثقة شبه أكيدة لدي، تقاربُ اليقين، قوامها؛ إن ما أكتبه هو بمثارة رسالة أضعها في قنينة وأرمي بها في عرض البحر، وسيأتي اليوم الذي يلتقطها ناقد ما، دأبه محاولة اكتشاف المجهول والجديد، ولا يغريه تكرار ما قيل من مديحٍ وتوثين في الجزر الفخمة التي تطفو على سطح بحر الشعر.
شاعر وكاتب كردي سوري مقيم في بلجيكا
shengo76@hotmail.com
==============
مجلة “عالم الكتاب” المصريّة. عدد ديسمبر 2016